الصّدق مع الله – الشيخ عبدالرزاق العباد البدر 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم

الصّدق مع الله

(خطبة صلاة الجمعة بمسجد القبلتين 16/06/1429هـ)

إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله و صفيه و خليله و أمينه على وحيه ومبلِّغ النّاس شرعه فصلوات الله و سلامه عليه و على آله و صحبه أجمعين أما بعد؛

معاشر المؤمنين عباد الله، اتقوا الله تعالى و راقبوه جل و علا في السر و العلانية و الغيب و الشهادة مراقبة من يعلم أنّ ربَّه يسمعه و يراه، و اعلموا رحمكم الله أنّ أكبر واعظٍ للعبد و أعظمَ زاجرٍ أن يعلم أن ربَّه مطلعٌ عليه و أنه جلّ و علا يعلم السِّر و أخفى و يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور؛ ولهذا ـ عباد الله ـ فإنّ تقوى الله نجاة وللمتقين العاقبة الحميدة في الدنيا و الآخرة.

عباد الله، اعلموا رعاكم الله أنّ من مقامات الدِّين العظيمة و منازل السالكين العالية الرفيعة الصِّدق مع الله تبارك و تعالى في الأقوال والأعمال و الأحوال امثتالا لقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وقد جاء في القرآن الكريم عباد الله آي كثيرة في الحث على الصدق مع الله جلّ وعلا و الترغيب فيه و بيان ما أعده الله جل و علا للصادقين من النزل الكريم و الثواب العظيم و الأجر الجزيل في الدنيا و الآخرة {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 24]، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]، {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} إلى قوله جل و علا { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

والصِّدق ـ عباد الله ـ لابد فيه من العبد من تحر له و مجاهدة للنفس على القيام به تحريّاً و ترويضاً للنفس و تليينا لها لتتطبَّع بالصِّدق و تتحلَّى به قال صلى الله عليه و سلم: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا )) متفق عليه.

عباد الله، والصِّدق خلة كريمة وصفة عظيمة و فريضة واجبة يجب أن تكون مع المسلم في كلّ أوقاته وجميع أحايينه و في كلّ طاعاته وفي جميع معاملاته الصِّدق.

عباد الله، فرض دائم يجب أن يستصحبه المسلم في كل قول و فعل و حال قال بعض السلف: "من لم يؤدِ الفرض الدّائم لم يقبل الله منه الفرض المؤقت. قيل: وما الفرض الدّائم؟ قال: الصدق مع الله".

عباد الله، الصّدق مع الله تبارك و تعالى ليست كلمة يدعيها المرء بلسانه أو أمراً يدّعي لنفسه التزين والتّحلي به، وإنّما الصّدق مع الله حقيقةٌ تقوم بقلب المؤمن تظهر على أعماله و أقواله قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني و لا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب و صدقته الأعمال".

عباد الله، الصدق مع الله جلّ و علا أمر قائم بعبد الله المؤمن في قلبه صلاحاً بالإيمان بالله جلّ و علا و بكل ما أمر سبحانه و تعالى عباده بالإيمان به، وصلاحاً في الظاهر بالأعمال الصالحة و الطاعات الزاكية و أنواع القربات التي يتقرب بها الصّادقون إلى الله و تأمّلوا هذا المعنى في آية البر من سورة البقرة و هي آية عظيمة جليلة القدر والقرآن كله عظيم جليل قال الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177] { أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أيْ الذين اتصفوا بهذه الصّفات و تحلوا بهذه النعوت و هي في جملتها ترجع إلى أمرين صلاح في الباطن بالإيمان و صلاح في الظاهر بالأعمال الصالحات و الطاعات الزاكيات المقربات إلى الله جلّ و علا .

عباد الله، وفي هذا المقام العظيم مقام الصّدق مع الله جلّ و علا فقد ذكر الله سبحانه في كتابه مدخل الصدق ومخرجه، و ذكر جلّ و علا لسان الصّدق، و ذكر جلّ وعلا مقعد الصّدق، ومقام الصّدق، قدم الصّدق كل ذلك ذكره الله جل و علا في كتابه فذكر سبحانه دعاء نبينا الكريم صلى الله عليه و سلم: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } [الإسراء: 80]، وذكر دعاء خليله إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [الشعراء: 84]، وذكر جلّ و علا بشارته لعباده للمؤمنين: { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، و ذكر جل و علا مقعد الصدق في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54 ـ 55] .

وفي هذه المواضع الخمس لذكر الصدق بهذه الأوصاف مدخل الصدق و مخرجه ولسان الصدق و مقعد الصدق و قدم الصدق هذه الأمور الخمسة كلّها فيها بيان وحديث وافٍ عن حقيقة الصدق في المؤمن و عن ما يؤول إليه حال الصادقين من عظيم الثواب و جميل المآب.

أمّا مدخل الصّدق و مخرجه ـ عباد الله ـ فأن يكون العبد في دخوله و خروجه وذهابه و رواحه صادق مع الله تبارك و تعالى يخرج و يدخل مستعيناً بالله طالباً رضا الله متبعاً شرع الله جلّ و علا .

وأمّا لسان الصدق فهو أثر مبارك و نتيجة عظيمة ينالها الصادقون في الدنيا بأن ينشر الله جل و علا لهم ذكراً حسناً في لسان العالمين.

وأمّا قدم الصّدق عباد الله فهو ثواب الله و المنزلة العالية التي ينالها الصادقون لقاء ما قدّموه في حياتهم الدنيا من صدق مع الله جل و علا و عمل بطاعته و رضاه.

وأمّا مقعد الصّدق فأكرم به من مقعد نسأل الله عز و جل أن يبؤنا إياه أجمعين فهو دخول جنات النعيم كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل و الجود و الامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله ووحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله صلى الله و سلم عليه و على آله وصحبه أجمعين أما بعد؛

عباد الله، اتقوا الله تعالى و راقبوه في السر و العلانية.

عباد الله الصدق طمأنينة والكذب ريبة الصادق في حياته الدنيا لا يزال مرتاح النفس طيب البال منشرح الخاطر منتقل من خير إلى خير. والكاذب عياذاً بالله لا تزال نفسه منقبضة و أموره متعسرة و حياته نكدة متنقل من شر إلى شر.

الصّدق يعقب العواقب الحميدة في الدنيا و الآخرة، و الكذب يجر على صاحبه الردى في الدنيا و الآخرة.

الصادق عباد الله له عند الله المقامة العلية و عند الناس الذكر الحسن، والكاذب ليس له في الآخرة إلا الخسران و ليس له بين الناس إلا الذّكر السيئ.

عباد الله، الصّدق حلية للمؤمن و زينة له و جمال يتقلب في الصدق في كل أقواله وجميع أعماله و جميع أحواله فهو في صدق يتقلب من خير إلى خير و من رفعة إلى رفعة ومن علو إلى علو إلى أن يلقى الله جلّ و علا على خير حال و في أكمل مآل؛ و لهذا حريٌّ بالمؤمن أن يكون متحريّاً للصدق دائماً و أبداً مع الله تبارك و تعالى و ذلك بتحقيق الإيمان و تتميم الإسلام و أن يكون متحريّاً للصّدق مع عباد الله فلا يكون كاذباً خائناً غاشّاً مخادعاً مُختالاً إلى غير ذلك من الصفات الذّميمة البغيضة.

وإنّا لنسأل الله تبارك و تعالى بأسمائه الحسنى و صفاته العليا أن يمنّ علينا أجمعين بقلب سليم و لسان صادق.

وصلّوا و سلّموا رعاكم الله على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56، و قال عليه الصلاة و السلام: ((من صلّى عليّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشراً)).

اللّهمّ صلِّ على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، و بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارضَ اللّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر الصديق و عمر الفاروق و عثمان ذي النورين وأبي الحسنين علي.

وارضَ اللهم عن الصّحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين و عنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللّهمّ أعزّ الإسلام و المسلمين و أذلّ الشّرك و المشركين و دمِّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا ربّ العالمين.

اللّهمّ آمنا في أوطاننا و أصلح أئمتنا و ولاة أمورنا اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك و ارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.

اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك و عزائم مغفرتك و نسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، ونسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، و نسألك من خير ما تعلم و نعوذ بك من شر ما تعلم و نستغفرك لما تعلم إنّك أنت علاّم الغيوب.

اللّهمّ آت نفوسنا تقواها زكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها و مولاها.

اللّهمّ إنّا نسألك الهدى و التّقى والعفاف و الغنى.

اللّهمّ اغفر لنا ذنبنا كلَّه دِقَّه و جِلَّه أوّله و أخره سرّه و علنه.

اللّهمّ اغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات.

اللّهمّ اغفر لموتانا و موتى المسلمين و اشف مرضانا و مرضى المسلمين اللهم واغفر ذنوب المذنبين و تب على التائبين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال و الإكرام.

ربَّنا إنّا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ربَّنا أدخلنا مدخل صدق و أخرجنا مخرج صدق و اجعل لنا من لدنك سلطانا نصيراً.

ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار.

عباد الله، اذكروا الله يذكركم و اشكروه على نعمه يزدكم و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون

جزاك الله كل خير

واياك نسأل الله الكريم رب العرش الكريم ان يرزقنا التقوى