الحروب الصليبية 2024.

ملحق الحروب الصليبية
القدس الإسلامية:
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، تم فتح الشام وفلسطين، وجاء الخليفة بنفسه لتسلم القدس سنة 16هـ/ 637م.والقدس مدينة هامة من الوجهة الدينية لدى الأديان الثلاثة. لقد فتحت هذه المدينة، وأصبح المسلمون سادتها، ولأنهم قد تعلموا من دينهم التسامح فقد فتحوا أبواب المدينة للحجاج المسيحيين يأتون ويعودون في سلام وأمان.
وبقيت هذه السّنة الجميلة تقليدًا تبعه الخلفاء من بعده، فقد امتاز عهد الرشيد بمستوى رفيع من التسامح الديني، فقد أهدى "شارلمان" وهو إمبراطور المسيحيين في ذلك الوقت مفاتيح "كنيسة القيامة"، كما سمح له ببناء مستشفى فيها، ومكتبة جمعت كثيرًا من الدراسات المسيحية، وقد كان هذا التسامح سمة كل العصور الإسلامية قاطبة.
بداية الحروب الصليبية:
كان البويهيون يقفون موقفًا سلبيّا من أعداء الإسلام بعد استيلائهم على الخلافة العباسية ببغداد؛ مما شجع ملك الروم سنة 462هـ/ 1070م على غزو الشام، فقد خرج ملك الروم في ثلاث مائة ألف مقاتل، ونزل على "مَنْبح" وأحرق القرى بينها وبين أرض الروم، وقتل رجالهم، وسَبَى نساءهم وأولادهم.
وفزع المسلمون في حلب فزعًا عظيمًا، ولم يكد العام ينتهي حتى عاود ملك الروم هجماته بجيش كثير العدد والعدة يريد القضاء على الإسلام والمسلمين، حتى وصل إلى "ملاذكرد" من أرمينيا، ولكن "ألب أرسلان السلجوقي" سار إليه في خمسة عشر ألفًا، وكله إيمان بالله، ويقين بأن الله ناصر دينه، قائلا : "إنني أقاتل محتسبًا صابرًا، فإن سلمت فبنعمة من الله تعالي، وإن كانت الشهادة (الموت في سبيل الله) فإن ابني "ملكشاه" ولي عهدي!
وأشار الفقيه "أبو نصر البخاري" أن يكون يوم الجمعة بعد الصلاة هو موعد اللقاء مع الأعداء، بعد أن يدعو جميع الخطباء للمجاهدين في سبيل الله على المنابر، وصلى بهم الفقيه البخاري، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، ثم قال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهي. ثم أخرج السلطان كفنه ليراه جنوده -ليحفزهم على الاستشهاد- ففعلوا مثله.
وبدأ الزحف إلى الروم، فلما اقترب السلطان منهم نزل عن فرسه، وسجد لله-عز وجل-ومَرَّغَ وجهَه في التراب، ودعا الله، وطلب منه النصر على أعدائه، وأخذ في التضرع والبكاء، ثم ركب فرسه، وهجم على العدو فحملت العساكر معه، وكان نصر الله على الرغم من قلة عدد المسلمين وكثرة أعدائهم، لكن النصر من عند الله ينصر من يشاء، وهو القوي العزيز.
كان أرسلان، رحمه الله، عادلاً رحيمًا مقرّا بأنعم الله عليه، يتصدق على الفقراء، ولا سيما في رمضان.
وشاء الله أن يقتل المسلمون من الروم عددًا كبيرًا حتى امتلأت الساحة بجثث القتلى منهم، وأُسر ملك الروم، وافتدى نفسه بألف ألف وخمسمائة ألف دينار، كما افتدى قواده، وكان موقف أرسلان قويّا، يستمد قوته من عزة المسلم الذى يستمد عزته من عزة الله سبحانه، فقد فرض أرسلان على ملك الروم أن يرد كل أسير مسلم في أيدي الروم، وشرط عليه أن يرسل إليه عساكر الروم عند طلبها في أي وقت.
وكانت موقعة "ملاذكرد" هذه بين السلاجقة والروم سنة 463هـ/ 1071م، من المعارك الحاسمة التي أدت إلى هزيمة ساحقة مروعة للروم، وذلك رغم التفاوت الكبير بين القوتين، إذ لم تزد قوات أرسلان على عشر من قوات الصليبيين.
اجتماع كليرمونت:
وقد أدى ذلك إلى أن يستنجد أحد أباطرتهم (ملكوهم) بأوربا ويستغيث بها، فراح البابا يدعو إلى اجتماع عام في "كلير مونت" بفرنسا ويدعو المجتمعين إلى غزو الشرق الإسلامي، وتخليص الأراضي المقدسة من الترك، وتخليص أراضي الإمبراطورية البيزنطية من الأعداء الغاصبين، وراح يحث الأمراء على توسيع أملاكهم وغزو الشرق الغني، فماذا كانت النتيجة؟ وكيف كانت هزيمة "ملاذ كرد" سببًا في قيام الحروب الصليبية؟ وفي أثناء هذه الحروب ظهر خطر المغول، فكيف واجهت البلاد إعصار المغول، والحروب الصليبية؟
استيلاء الصليبيين على القدس:
وفي عام 491هـ/ 1097م؛ تجمعت قوات الصليبيين في القسطنطينية، وبعد أن تم إعدادها عبرت البسفور إلى الشام، ودارت بينهم وبين السلاجقة معركة عام 1097م، عند "ضورليوم"، ولكن هزم فيها السلاجقة، ثم استولى الصليبيون على أنطاكية في شمالي الشام، وأسسوا بها أول إمارة لهم، ثم استولوا على الرها في إقليم الجزيرة الشمالي، وأسسوا إمارتهم الثانية واتجهوا إلى مدينة القدس وبها بيت المقدس.
وأمام أربعين ألف مقاتل، لم يستطع جيش الفاطميين فك حصارهم للمدينة الذي استمر شهرًا كاملا، ودخلوها في النهاية في 15 يوليو سنة 1099م، وأقاموا فيها مذبحة قضوا على سكانها جميعًا رجالا ونساءً وأطفالا وكهولا، واستباحوا مدينة القدس أسبوعًا يقتلون ويدمرون حتى قتلوا في ساحة الأقصى فقط سبعين ألفًا من المسلمين .
ويذكر أن ريموند القائد الصليبي احتل "مَعَرَّة النعمان"، وقتل بها مائة ألف،ٍ وأشعل النار فيها، ثم أقاموا دولتهم الكبرى المعروفة باسم مملكة القدس. وفي هذه الحملة، ظلت بعض مدن الشام الهامة مثل حلب ودمشق في أيدي المسلمين .
لقد تم الاستيلاء على القدس، وشعر الصليبيون أنهم حققوا واجبهم الديني باستعادة المدينة المقدسة.
وقد قسم الصليبيون هذا الإقليم إلى أربع إمارات:
إمارة الرُّها 492هـ/ 1098م، وتشمل أعالي نهري دجلة والفرات، وتقرب حدودها الجنوبية الغربية من حلب، وكانت عاصمتها الرها التي توجد في بعض الخرائط باسم إدريسّا .
أما الثانية فهي إمارة أنطاكية، وتقع في الإقليم الشمالي جنوب غرب إمارة الرها .
ثم تليها جنوبًا إمارة طرابلس وهي تقع في شريط ضيق على الساحل وهي أصغر هذه الإمارات .
أما الرابعة فهي مملكة القدس، وتمتد حدودها الشرقية من قرب بيروت الحالية، ثم تتبع نهر الأردن حيث تتسع قليلا، وتتجه جنوبًا إلى خليج العقبة، وكانت عاصمتها القدس نفسها .
وكان لكل إمارة من هذه الإمارات أمير أو حاكم يحكمها، لقد استولوا على القدس، وها هو ذا نصرهم قد تم، وها هي ذي أوربا كلها في فرح متزايد، ولكن الخلافات بينهم قد عادت كأشد ما تكون بعد أن تم لهم النصر .
انتصار نور الدين على الصليبيين:
وبرغم الآلام التي عانى منها المسلمون تحت مطارق الصليب، وبحار الدماء والحقد، عاد الإسلام-ولم يكن قد مات يومًا- يشعل صدور المسلمين، فهبوا جنودًا لله كما كانوا، وقيض الله لهذه الأمة رجلا تركيّا هو "عماد الدين زنكي" الذي عرف أن طريق النصر يبدأ دائمًا بالعودة إلى الله. كيف كان ذلك؟
عندما انقسمت دولة السلاجقة بعد "ملكشاه" استطاع أحد مماليكه الأتراك وهو عماد الدين زنكي أن يستقل بإقليم الموصل .
وما لبثت قوة هذا الرجل أن تضاعفت فقام بهجوم على "الرها"، وتمكن من الاستيلاء على عاصمتها رغم مناعة أسوارها سنة 539هـ/1144م. وكان لسقوط "الرها" في أوربا هِزة عنيفة أدت إلى الدعوة إلى حملة صليبية أخري.
ويحمل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي عبء الجهاد والدفاع عن أرض الإسلام بعد استشهاد أبيه عماد الدين عام 1146م، على يد أحد أتباع المذهب الإسماعيلي (المعروفون باسم الحشاشين الباطنية)، ويعيد نور الدين فتح الرها التي سارع الصليبيون إلى احتلالها بعد استشهاد أبيه، ويعود مظفرًا إلى حلب، ومن هناك يستعد للقاء الصليبيين، ويهزمهم بالقرب من دمشق، بل ويهاجم بعد ذلك إمارة إنطاكية ويستولي على أجزاء منها، ويقبض على أميرها بوهيموند وجماعة من أكابر أمراء الصليبيين، واستطاع أن يخضع باقي مدن الرها التي لم تكن قد خضعت من قبل.
ثم توج جهوده لما دعاه أهل دمشق لحكمهم بعدما رأوا عدله وشجاعته، فتكونت جبهة إسلامية واحدة تمتد من حلب إلى دمشق ويدعمها ملك أخيه في الموصل.
كم أنت عظيم يا نور الدين، لقد أضأت للمسلمين طريقهم؛ فعرفوا كيف يكون الجهاد والتضحية.
موقف مصر من الصليبيين:
كانت مصر في ذلك الوقت تحت سلطان الفاطميين الذين كانوا وقتذاك في أقصى حالات الضعف، فقد كانت السلطة الفعلية في أيدي الوزراء الذين كانوا يعملون على اختيار الخليفة من ضعفاء الفاطميين حتى يضمنوا سيطرتهم الدائمة على مصر! وكانت مصر شديدة الأهمية للصليبيين ولدولة نور الدين. إن وقوعها في أيدي الصليبيين يقويهم، ويمدهم بموارد لا حصر لها. ووقوعها في يد نور الدين يضع الصليبيين في موقف حرج حيث تهاجمهم قوات المسلمين من ثلاث جهات : الشرق، والجنوب، والجنوب الغربي، كما أن موارد نور الدين وجيوشه سوف تعظم وتتضخم إن هو استولى على مصر، فكيف السبيل إليها؟
لقد هيأت الأقدار لنور الدين أجمل الفرص. فقد عرف أن قيادة مصر في ذلك الوقت كانت في أيدي الوزراء، وكان أكبر المتنافسين الوزيران: "شاور" و"ضرغام"، وقد اضطر "شاور" إلى الهروب إلى نور الدين والاستنجاد به حين هزمه "ضرغام" وأوشك أن يفتك به. وبلغ "نور الدين" أن جيشًا من الصليبيين كان يتجه نحو مصر ليسبقه إليها. فتحرك نور الدين على عجل، وجهز جيشًا بقيادة "أسد الدين شيركوه" يصحبه ابن أخيه صلاح الدين، ودخل جيش نور الدين مصر عام 560هـ/1164م، وسرعان ما انتصر على قوات "ضرغام" وأعاد "شاور" إلى السلطة، ترى هل يقدِّر "شاور" ما قام به تجاهه نور الدين وقائد جيشه أسد الدين شيركوه ؟ لا، بل أراد أن يتخلص من أسد الدين وجيشه عندما أحس أنهما يقاسمانه النفوذ.
الوزير الفاطمي يستنجد بالصليبيين:
هناك تكون كارثة بكل ما في الكلمة من معني! لقد استعان شاور بجيش الصليبيين الذي كان يرابط على الحدود، وسرعان ما استجاب جيش الصليبيين لشاور فدخل مصر، واشتبك مع جيوش نور الدين!
واشتد القتال، ولكن لما لم ترجح كفة أحد الفريقين اتفقا على أن يرحلا معًا عن مصر، وسرعان ما جلا جيش نور الدين وجيش الصليبيين . ولكن جيش نور الدين عاد إلى مصر ثانية في عام 563هـ/ 1167م .
وعند ذلك أرسل "شاور" يستنجد بملك القدس المسيحي الذي أرسل جيوشه لمحاربة أسد الدين شيركوه، ولكن شيركوه هزم الصليبيين، واستولى على الإسكندرية التي نصَّب عليها ابن أخيه صلاح الدين الذي أظهر مواهبه الحربية في الدفاع عن الإسكندرية. وعلى الرغم من انتصارات شيركوه المؤقتة فإنه شعر ألا سبيل أمامه للاحتفاظ بمصر، فاتفق مع الصليبيين للمرة الثانية على جلاء الفريقين عنها. ولكن الصليبيين نقضوا العهد حين أعدوا حملة دخلت مصر بغرض الاستيلاء عليها، وقد استولوا على "بلبيس" وأعملوا في سكانها القتل والنهب.
انتصار شيركوه وصلاح الدين على الصليبيين:
وهنا أرسل الخليفة الفاطمي مستنجدًا بنور الدين الذي أرسل جيشه للمرة الثالثة سنة 564هـ/1169م، يقوده شيركوه، وصلاح الدين، وسرعان ما تم النصر على حملة الصليبيين في مصر، وانسحبت تاركة النفوذ والسيطرة لجيش شيركوه .
وقد حاول شاور العودة إلى سياسته القديمة، والتخلص من شيركوه؛ ولكنه فشل وقُبض عليه وأُعدم.
وعُيّن "شيركوه" وزيرًا للخليفة الفاطمي بدلا من شاور. وعندما مات شيركوه خلفه في الوزارة وقيادة الجيوش ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 564هـ/1169م، وقد تركزت في يد صلاح الدين جميع السلطات، وتمر الأيام وصلاح الدين يتألق نجمه، وتظهر مع الأيام عبقريته، ويموت الخليفة الفاطمي العاضد سنة 567هـ/1171م بعد أن ألغي صلاح الدين الخلافة الفاطمية، وتصبح السلطة الفعلية والنفوذ الحقيقي في يده، يقبض عليهما بيد من حديد.
وراح الصليبيون يفكرون، لقد خلصت مصر لقوات المسلمين، وأصبحت في يد هذا الرجل الحديدي الذي سيوحد قوي المسلمين ويحطم قوي الصليبيين، وإن غدًا لناظره قريب.
ظل صلاح الدين حاكمًا على مصر زمنًا طويلا يدعو للخليفة العباسي ولنور الدين من بعده. وتأسست الدولة الأيوبية بمصر بعد وفاة نور الدين محمود 569هـ/1174م على يد صلاح الدين الأيوبي.
لقد كان الفاطميون من الشيعة، أما الأيوبيون فهم من أهل السنة، ومن أجل هذا راح صلاح الدين يلغي مظاهر الخلافة الفاطمية ورسومها، ويُعطل معاهد الدعوة الشيعية وطقوسها. وعادت السنة إلى مصر.. السُّنِّية التي رفضت كل مُعْتَقَد دخيل على ما جاءها به نبيها (، وتمر الأيام فيرث صلاح الدين دولة نور الدين، ويخضع له أمير الموصل سنة 583هـ/1168م.
لقد كانت دولة نور الدين تضم ما بين المسلمين من الشام والحجاز واليمن، كما ضمت أجزاء من شمال إفريقية. فأصبحت دولة صلاح الدين تضم شمالي العراق، وشرقي الشام، ثم الحجاز واليمن ومصر وبعض شمالي إفريقية. لقد كان هذا أكبر اتحاد للقوي الإسلامية في ذلك الوقت الذي كانت فيه الدولة العباسية مفككة ضعيفة لا سلطان لها. وإن بينها وبين الدويلات الصليبية غدًا قريبًا تسترد فيه الأرض وتحمي العرض.
وفي بعض الفترات كان صلاح الدين يعقد معاهدات مع الصليبيين ليتفرغ لتوحيد الجهة الإسلامية، ولكنهم نقضوا العهد، ذلك أن رجنلد (أنارط) أمير الكرك الصليبي نقض هذه المعاهدة، وقام الصليبيون ببعض الاستفزازات للمسلمين منها أن رجنلد هذا أعد أسطولا يعبث بشواطئ الحجاز ويهاجم الحجاج المسلمين، ودأب على مهاجمة القوافل الإسلامية.
لا مفر إذن من وقوع الحرب بين الفريقين، وتقدمت قوات صلاح الدين من دمشق، ووجهتها القدس.
موقعة حطين:
كان نصر الله المبين حيث التقت جيوش المسلمين بجيوش الصليبيين في "حطين" وكان ذلك في عام 583هـ/1187م.
لقد جمع الصليبيون عشرين ألف مقاتل جمعوهم من كل دويلات الصليبيين .
واشتبك الجيشان، وانجلت المعركة عن نصر ساحق لصلاح الدين مع تدمير تام لجيش أعدائه .لم يكن أمام جيش صلاح الدين بعد معركة حطين إلا أن يتقدم نحو القدس، وقبل أن يتقدم نحوها استسلم له حصن "طبرية"، وفتح "عكا" واستولى على "الناصرية" و"قيسارية" و"حيفا" و"صيدا" و"بيروت"، وبعدها اتجه صلاح الدين إلى القدس.
استرداد القدس:
ولكن الصليبيين تحصنوا بداخلها، فاتخذ صلاح الدين جبل الزيتون مركزًا لجيوشه، ورمى أسوار المدينة بالحجارة عن طريق المجانيق التي أمامها، ففر المدافعون، وتقدم المسلمون ينقبون الأسوار، فاستسلم الفرنجة، وطلبوا الصلح، فقبل صلاح الدين، واتفق الطرفان على أن يخرج الفرنجة سالمين من المدينة على أن يدفع الرجل عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصبي دينارين، ووفى المسلمون لهم بهذا الوعد، وكان ضمن من خرجوا البطريرك الأكبر يحمل أموال البِيَع(الكنائس) وذخائر المساجد التي كان الصليبيون قد غنموها في فتوحاتهم.
رحمة صلاح الدين:
وفي هذه الأثناء، قال بعض المسلمين لصلاح الدين : إن هذا البطريرك يقوى بهذا المال على حرب المسلمين! فأجاب صلاح الدين: الإسلام لا يعرف الغدر، وقد أمّنا وعلينا الوفاء. وخرج الرجل بهذه الأموال.
ويروى أن مجموعة من النبيلات والأميرات قلن لصلاح الدين وهن يغادرن بيت المقدس: "أيها السلطان! لقد مننت علينا بالحياة، ولكن كيف نعيش وأزواجنا وأولادنا في أسرك؟! وإذا كنا ندع هذه البلاد إلى الأبد فمن سيكون معنا من الرجال للحماية والسعي والمعاش؟! أيها السلطان! هَبْ لنا أزواجنا وأولادنا، فإنك إن لم تفعل أسلمتنا للعار والجوع".فتأثر صلاح الدين بذلك، فوهب لهن رجالهن، رحمك الله يا صلاح الدين، فقد كنت مثالا للرحمة والعفو وحسن الخلق، وكنت مثالا حسنًا لمبادئ الحضارة الإسلامية وعظمة الإسلام.
فليتقدم البطل الفاتح ليطهر البلاد والعباد من شراذم الصليبيين الذين دنسوا الأرض، واعتدوا على العرض.
وتقدم جيش البطل صلاح الدين بل جيش الإسلام والمسلمين؛ ليستولي على معظم مستعمرات الصليبيين ومناطقهم الهامة .
وقد ساعد على نجاح هذه الحملات أن معظم حاميات الصليبيين لقيت حتفها في حطين .
ويجيء عام 586هـ/1189م، ولم يَبْقَ في أيدي الصليبيين من كل أرض سوريا وفلسطين سوى صور وأنطاكية وطرابلس وبعض مدن وقلاع صغيرة مبعثرة هنا وهناك.
والحق أن هذه الأماكن الساحلية التي استهان المسلمون بها وتركوها في أيدي الصليبيين كانت سببًا في كثير من المتاعب للدولة الإسلامية بعد ذلك، فقد تجمع فيها الصليبيون الفارون من الأماكن الأخرى، وقاموا بمهاجمة البلاد الإسلامية المجاورة، واستولوا على بعضها وساعدوا الحملات الصليبية الثالثة التي جاءت من الغرب وكبدت المسلمين خسائر فادحة.
ملوك أوربا يقودون الحرب الصليبية:
فقد كان لهذه الانتصارات وعلى رأسها سقوط القدس صدى مؤلم في أوربا أدى إلى إثارة الحماس مرة أخري، وتصاعدت صيحات إنقاذ الأراضي المقدسة تتردد في أرجاء أوربا. واتجهت الكنيسة إلى جمع الضرائب للحروب الصليبية، وشجعت الناس على الخروج لقتال المسلمين، وأعلن البابا أن من لم يستطع أن يخرج بنفسه وتبرع بالمال غُفرت له ذنوبه، ثم تطور هذا الأمر إلى إصدار صكوك الغفران لكل من يتبرع لهذه الحرب، أو يخرج فيها. وتم تعبئة عدد من الحملات يقودها ملك إنجلترا "ريتشارد" الملقب بقلب الأسد، و"فيليب أوغسطس" ملك فرنسا، و"فريدريك بربوسا" ملك الألمان.
لقد كانت الحملة التى قادها فردريك فاشلة، وذلك لأن قائدها نفسه قد غرق في نهر بأرمينية، فعاد معظم جيشه من حيث أتي، ولم يصل منه إلى الأراضي المقدسة سوى عدد قليل. وهكذا وقع عبء الحرب على ريتشارد وفيليب.
وقبل وصول هذين الأخيرين، أخذ الصليبيون يجمعون قواتهم، ويحاولون القيام بعمل مضاد لحركات صلاح الدين.. فوجهوا قواتهم لتحاصر عكا من البر، وأساطيلهم لتحاصرها من البحر، وكان في استطاعة صلاح الدين أن يقضي على الجيش الصليبي لولا وصول ريتشارد وجيوشه في ذلك الوقت.
وقد طال الحصار البحري البري مدة عامين كاملين من سنة (586-588هـ/ 1189-1191م) ضرب فيها الفريقان أسمى أمثلة الشجاعة، وأخيرًا سقطت عكا في أيدي الصليبيين.
الصليبيون يقتلون الأسري:
وتوصل الجانبان إلى اتفاق يطلق بمقتضاه الصليبيون سراح حامية عكا، شريطة أن يدفع صلاح الدين 200 ألف قطعة ذهبية.
وقد حدث أن تأخر دفع المبلغ المتفق عليه، فأمر ريتشارد بإعدام كل أسراه، وعددهم 2700 أسير، وهذه نقطة سوداء في تاريخه، يقابلها من جانب صلاح الدين نبل عظيم في معاملة أسراه؛ حيث كان يتعامل معهم بالرحمة والتسامح.
صلح الرملة:
استمرت المناوشات البسيطة بين الفريقين، ولكن ريتشارد مَلَّ الحرب، وخاف على ملكه في أوربا، فجرت بينه وبين صلاح الدين مشاورات ومراسلات، ومن أهم ما جاء في هذه المراسلات ماكتبه ريتشارد إلى صلاح الدين يقول: إن المسلمين والفرنج قد هلكوا وخربت ديارهم، وتلفت الأموال والأرواح، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب، والقدس مُتَعَبَّدُنا ما ننزل عنه، والصليب خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم؛ فيَمُنّ به السلطان علينا ونستريح من هذا العناء.
فأجاب صلاح الدين: القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا تتصور أن ننزل عنه، وأما البلاد فهي لنا واستيلاؤكم كان طارئًا عليها لضعف المسلمين، وأما الصليب فهلاكه عندنا قُربة عظيمة فلا يجوز أن نفرط فيه إلا لمصلحة أوفي منه.
وقد أدت هذه المفاوضات إلى عقد اتفاق بين الجانبين وهو صلح الرملة سنة 589هـ/1192م، وشروطه: ترك أراضي الساحل للصليبيين، ومنها صور وعكا ويافا وعسقلان، في حين أصبح داخل البلاد لصلاح الدين على أن يسمح للمسيحيين بالحج إلى بيت المقدس، وأن يتعهد بحمايتهم.
موقف أبناء صلاح الدين من الصليبيين:
ولما مات صلاح الدين سنة 589هـ/1192م، حكمت أسرته من بعده، فحكم أخوه العادل مصر ومعظم أجزاء الشام، وخلفه ابنه الكامل الذي سقطت دمياط في عهده في يد الصليبيين لما هاجموا مصر سنة 615هـ، ثم انسحبوا منها مدحورين.. بعد هزيمة فادحة أدت بهم إلى الجلاء عن مصر سنة 618هـ، بعد الصلح مع الملك الكامل، فقد قطع المصريون جسر النيل فغرقت الأرض بالمياه وأوشك الصليبيون علي الهلاك، فطلبوا الصلح.
أسر ملك فرنسا:
كما تعرضت مصر أيضا لحملة صليبية جديدة قادها ملك فرنسا لويس التاسع الذي استولى على دمياط سنة 647هـ، ولكنه وقع أسيرًا فحمل مكبلا بالسلاسل إلى المنصورة حيث سجن في دار قاضيها ابن لقمان، وكان ذلك بفضل حكمة وقيادة ركن الدين بيبرس للقوات المصرية، وافتدى نفسه بتسليم دمياط للمسلمين ودفع فدية مالية، وعادت دمياط إلى الأيوبيين سنة 648هـ .
وأمام التهديد الدائم من قبل الصليبيين للإسكندرية وغيرها من مدن الشام، لم يقف المماليك البرجية مكتوفي الأيدي؛ بل راحوا يفكرون في قطع دابر الصليبيين "بقبرص" وكان لهم ما أرادوا، حتى تمكنوا في عهد الأشرف بَرْسِباي سنة 829هـ/ 1445م، من هذا الأمل، وأسروا ملك الصليبيين الذي ظل أسيرًا بمصر حتى سنة 830هـ/1427م، ولم يفك أسره إلا بعد دفع جزية كبيرة على أن يعترف بسيادة المماليك علي قبرص!
وتظل لمصر السيادة على قبرص في عهد المماليك البرجية حتى سنة 923هـ/ 1517م، وهي السنة التي آل فيها حكم البلاد إلى العثمانيين، وسقطت دولة المماليك البرجية.

نتائج الحروب الصليبية:
وبهذا فشلت الحروب الصليبية، ولكن برغم الفشل السياسي والحربي للحملات الصليبية فإن هذه الحروب كان لها نتائج بالغة الأثر؛ منها اتساع تجارة أوربا وبخاصة "جنوا" و"البندقية" و"بيزا" مع موانئ الشام. ولم يقتصر هذا الاتساع على الفترة التي سيطر فيها الصليبيون على الأراضي المقدسة، بل استمر حتى بعد أن أجلوا عن الإقليم كله. كما ساعدت علىانتقال الحضارة الإسلامية إلىأوربا.

بسم الله الرحمن الرحيم

دمتم لنا مفيدين ومستفيدين

وفقكم الله

شكرا لك على الموضوع
لقد افدتنا اخي

تاريخ الحروب الصليبية 2024.

منقول


في السابع والعشرين من شهر
نوفمبر من عام 1995م اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض
المتوسط هذا اليوم ليكون موعداً لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونة بأسبانيا يضم 15
دولة أوربية و12 دولة متوسطية من بينهما 8 دول عربية إضافة إلى تركيا وقبرص ومالطة
ودولة العدو الصهيوني، ما مناسبة هذا المؤتمر؟ ولماذا عقد؟ وهل جاء هذا الموعد في
زمانه ومكانه محض مصادفة؟.

الجواب: أن كل هذا الترتيب
وفي هذا الموعد بالذات لم يكن مصادفة، إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى
مرور 900 سنة على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر في عام
1095م، أطلق بابا النصارى "أوربان الثاني" دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان
الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض الاستيلاء على بيت المقدس. وكان
مما قيل في ذلك المؤتمر ما صرح به "ويلي كلاوس" حيث قال: "إن الأصولية خطيرة كما
كانت الشيوعية، ونرجوكم ألا تقللوا من شأن هذا الخطر". وقال أيضاً: "إن الخطر
الأصولي الإسلامي هو من أهم التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي
والكتلة الشرقية، ومن واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من
الصعوبات". فهل كان هذا المؤتمر تحضيراً لحروب صليبية جديدة؟ ألم تنته الحروب
الصليبية بعد؟ ألم يقل القائد "اللنبي" بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب
العالمية الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"! هل
كان مخطئاً؟ يبدو ذلك، بل بالتأكيد كان مخطئاً، هذا إن أحسنّا به الظنّ، ولم يكن
يعلم أن النصرانية لم تشبع بعد من دماء المسلمين ولم تكفها سبع أو ثماني حملات في
القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها الحملات المعاصرة قبل
وبعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن، بدليل أن صيحاتهم باتت تصم
الآذان منذرة بقيام المزيد من الحروب الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم
النصراني، وأنها لم تنته بعد، صرّح بذلك مؤخراً كبيرهم الذي علمهم
السحر.

إن القائد "اللنبي" قال:
إن الحروب الصليبية انتهت باستيلاء النصارى على القدس في القرن العشرين، ولكن جاء
الصرب وافتتحوا حملات جديدة حتى قال وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له:
"إن الصرب في معاركهم في البلقان إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة
لاستئصال شأفة الإسلام". إن العالم قد رأى بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب
المسلمين في البوسنة، فهل تستحق هذه الحرب وصفاً آخر غير الحرب
الصليبية؟!.

لقد فرغ النصارى من أمر
أكثر الدول والأنظمة في العالم العربي والإسلامي
تقريباً، ثم أقبلوا الآن على الشعوب المسلمة ذاتها ليناصبوا كل من بقي على
الوفاء للدين العداء، والأصولية أو الإرهاب التي نصبوها عدواً بديلاً بعد سقوط
الشيوعية ما هي إلاّ تعبير عن رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة
لأصول الدين. هذه الأصولية بهذا المعنى هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشّر
الغرب بقيامها، ثم باشر البدء فيها فعلاً أحياناً بالقوة العسكرية وأحياناً
بالمحاصرة الاقتصادية، وفي أحايين أخرى بالتسلط الدولي تحت مسمى الشرعية الدولية،
ومهما حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو
الاقتصادية أو الثقافية أو تحت ذريعة محاربة الإرهاب فإن تلك الأقنعة تسقط ويظهر
الوجه الحقيقي للصراع وأنها حرب صليبية، قال الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى
يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وقال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)
وقال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال تعالى: (إن
يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون).
إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية أو الأهداف السياسية والعسكرية أو
الحضارية للنصارى واليهود، ولكنه ركز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى
فتأتي بالتبع، لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين على بيت المقدس أيام الحروب
الصليبية الأولى: أمر الله، إنها إرادة الله. وباسم هذا الإله المُدّعى ذبح النصارى
المسلمين العُزّل وقت دخولهم القدس في الحملة الصليبية الأولى حتى بلغ عدد القتلى
من المسلمين في ساحات الأقصى وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً، وهذا ما يريده
النصارى الجدد في حروبهم الصليبية القادمة التي أعلنوا عنها. وتخبرنا الروايات
الصليبية نفسِها بأطراف من المأساة، فيقول أحدهم وهو: "ريمون داجيل" في رواية موثقة
لدى أدعياء المسيحية السمحة طرفاً من الحدث فيقول: "وقعنا على مشاهد لم يسبق لها
مثيل، فقد قُتِل عدد كبير من أبناء المدينة فكانوا يُرمَون بالنبال أو يجبرون على
القفز جماعات من فوق الأسوار، كما عُذّب بعضهم قبل أن يُرمَوا في النار، شوارع
المدينة كانت مليئة بالرؤوس والأيدي والأرجل، وكان الجنود في كل مكان يسيرون فوق
الجثث، لقد كانت مجزرة رهيبة، بعدها كنا نسير في بحيرات من الدم، لقد نهب الصليبيون
حتى ارتووا". وقال نصراني آخر: "إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف والحراب،
والأطفال الرضع يُختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم ويقذف بهم من فوق الأسوار أو
تهشّم رؤوسهم".

ولماذا نذهب بعيداً فقد
رصد التاريخ
الإسلامي الحدث ذاته بكثير من التفصيل والدقة سردها الإمام ابن الأثير رحمه
الله في كتابه الكامل: وذكر أن المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته واقتحم
النصارى المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت
ساحات المسجد بدماء العبّاد والزهّاد الركّع السجود، وتوجه قائد الحملة في الضحى
لدخول ساحة المسجد متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر لا
يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات، ونهب
النصارى جميع الأمتعة وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ونهبوا القناديل التي
بلغت نيفاً وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفاً
وعشرين قنديلاً من ذهب. وأبادوا أهل أنطاكية وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان
وقِنّسرين وطبرية وغيرها من البلاد وهجَّروا أهلها منها وفعلوا الأفاعيل العظيمة
التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.

إن هذا بل وأكثر ليس بغريب
أن يفعله النصارى لو تمكنوا من رقابنا، بل لماذا نذهب بعيداً ففي خلال الأعوام
الماضية القريبة كم قُتل من مسلمي البوسنة وطاجاكستان وألبانيا والشيشان، بل كم
قُتل من شعب الصومال والسودان والعراق على أيدي النصارى الصليبيين، وإلى الآن لم
يرتووا ولو حصل لهم فرصة أخرى لأحرقوا الأخضر واليابس.

أعود لتاريخ المؤتمر، إنه
اليوم الذي أرادوا أن يكون عيداً يحتفلون به على أنقاض أرض الأندلس الضائعة، بل
ليتهم أرادوا الاحتفال بالذكرى فحسب، بل أرادوا أن يجعلوها بداية انطلاق لبدء رحلة
جديدة من الحروب الصليبية، وقبل ذلك بالتعاون مع العدو القديم اليهود، الذين أصبحوا
اليوم أعز أصدقاء النصارى الصليبيين وأخلص معاونيهم، حتى إن الغرب النصراني كله قد
أجمع على تحويل الأرض المقدسة إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والكيميائية
والجرثومية الموجهة إلى صدور كل شعوب المنطقة الإسلامية، وإن دولة اليهود إسرائيل
هي الفرس الذي يعتليه النصارى ويوجهونه، واليهود يعرفون دورهم هذا تماماً وهم
يعلمون أن النصارى يدخرونهم ليوم معلوم، قد يحاول المسلمون فيه استعادة كرامتهم
ومقدساتهم. ولهذا فإن المراقب المسلم لا يمكنه أن يتجاهل الدور اليهودي في التبشير
بالصراع القادم، ودق الطبول للحرب المرتقبة، وتصريحاتهم القديمة في ذلك كثيرة
ومتواترة، ولا يزال قادتهم يرددون وبقوة أشد التحذيرات والصيحات والنذر، من خطورة
عودة الروح إلى الإسلام على يد دعاة الأصولية.

إن النصارى الجدد يريدون
أن يستمروا في إراقة الدماء ولو كان دماء شيوخ ونساء وأطفال، المهم أنهم مسلمون،
وقد يخترعون مسرحية أم شماعة يعلقون عليها أهدافهم. إنها حرب صليبية ولا تفسير لها
إلاّ ذلك.

إن الإسلام هو دين الله عز
وجل، فلا خوف على الإسلام من الحرب الصليبية الجديدة، إنما الخوف على موقفي أنا
وأنت من هذه الحرب التي قد دُقت طبولها، ماذا قدمنا وماذا سنقدم؟ وما هو الدور الذي
يجب أن يقفه كل مسلم؟ أما الإسلام فهو كتلك الحبة التي تبقى في باطن الأرض عشرات
السنين فإذا نزل المطر نبتت من جديد، وهذا الأمر واقع في الدنيا كلها، فلقد عمل
أعداء الإسلام للقضاء على دين الله بكل الوسائل: أباحوا المحرمات، حاربوا التعليم
الإسلامي، همشوا لغة القرآن، ألغوا تطبيق الأحكام الشرعية، شجعوا كل أنواع الملاهي
المفسدة للشباب، جعلوا من وسائل الإعلام معاول لهدم الأخلاق، نشروا الصحف والكتب
التي تشكك حتى في الإيمان بالله، ومع ذلك فهل تم القضاء على الإسلام؟.

لقد انتشر الإسلام على يد
الأتراك العثمانيين في مقدونيا وألبانيا وكوسوفا والبوسنة والهرسك، وأصبحت المآذن
في كل هذه الأرجاء تردد صباح مساء نداء: الله أكبر، ومنذ عام 1912م والمخططات تعمل
للقضاء على الإسلام في تلك الإنحاء، فالحكم الشيوعي حارب الإسلام حرباً لا هوادة
فيها، حتى وصل الأمر في ألبانيا إلى منع الأسماء الإسلامية وفي مقدمتها اسم: محمد،
ونشأت أجيال تحت الحكم الإلحادي الكافر القاضي بقهره وسفكه لدم كل من يُظهر شيئاً
من الإسلام، حتى ظن أعداء الإسلام أنهم قد قضوا تماماً على أي وجود إسلامي، لكنهم
فوجئوا كما فوجئ الغرب بنور الإسلام يشع في تلك الأرجاء بمجرد انحسار الحكم
الشيوعي، فما إن سقطت الأنظمة الشيوعية حتى ارتفعت المآذن وامتلأت المساجد وظهر
الشباب الحافظ لكتاب الله والمتقن للغة العربية وتيقن أعداء الإسلام أن نور الله لا
ينطفئ أبداً، كيف ينطفئ وقد قال الله عز وجل: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

لقد ارتكب النصارى جرائم
وحشية في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس،
وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة ومحوا شعائرهم
وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق، فقتلوا وعذّبوا
ونكَّلوا وشرَّدوا. وفي القرن المنصرم فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين من
قتل وتشريد وفساد وإفساد وتخريب ودمار ونهب للأموال والممتلكات ما تقشعر له
الأبدان، وحُرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست
مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منّا ببعيد. وها هم اليوم يتغنون كذباً وزوراً
بالأمن والسلام والوحدة والوئام، فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة
أمن، وتلك صِلاة سلام، فبالله عليكم متى علمتم الوحوش الضارية استأنست؟ ثم هل تلد
الوحوش غير الوحوش؟ والأعجب أن المسلمين لا يعتبرون من التاريخ، وما يزال
البعض يثق بالنصارى ويصدق بأنهم عادلون منصفون يرعون حقوق الإنسان، وصدق الله
العظيم: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).

لقد بدأت محاولات الغزو
الصليبي الحديث منذ القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، بعد أن طَرد
الأوروبيون الإسلام من الأندلس بعد معارك وحشية طويلة، بارك البابا الانتصار
الصليبي وشجع الصليبيين على متابعة المسلمين لطردهم من بقية بلاد الإسلام، يدفع إلى
ذلك حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين، ثم تبعتها الرحلات الاستكشافية تحت غطاء
العلم، لأن المقصود من تلك الرحلات هو تطويق العالم الإسلامي آنذاك، وقد صرح بذلك
الرحالة "فاسكوداجاما" الذي استعان بالبحّارة المسلم "ابن ماجد" الذي أَمَدّه
بالمعلومات والخرائط وقاد معه سفينته نحو جُزر الهند الشرقية، فلما وصل قال ذلك
الصليبي الحاقد بعد إتمام الرحلة: "الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل
فيختنق ويموت". ثم تتابعت الرحلات الأخرى التي قام بها الصليبيون في العالم
الإسلامي يدرسون مداخله ومخارجه، هذه الرحلات التي نُدرِّسها لطلابنا على أنها من
أعظم الرحلات وأنها كانت رحلات علمية.

أما اليوم فها هو التبشير
والتنصير قد أنشب أظفاره وكشر أنيابه وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلّح،
ومولود من مواليد القوة الطاغية، التي تُسمِي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة
حرية دين، أو حرية فكر، أو حرية رأي، وتُسمي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق
المغصوبة وغير ذلك، تسميه إرهابًا وعنفًا وأصوليةً وتشددًا.

إن عداوة أهل الكتاب
للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بينها الله في القرآن الكريم،
وشهد بها التاريخ
والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة
إليه.

لقد غزت أوربا النصرانية
بلاد المسلمين بجيوش جرارة لأحقاد دفينة ترفضها جميع الأديان السماوية، وأرادوا
تحقيق أغراض توسعية لمصلحة الكنائس الغربية واستغلالاً لخيرات بلاد
المسلمين.

إن الدافع الأول من أهداف
الحروب الصليبية القديمة والجديدة هو الدافع الديني، ومن أشهر من تبنى الدعوة إلى
الحروب الصليبية، هو البابا نفسه والذي يعتبر المسؤول الأول عن الترويج لحرب
المسلمين، وقد وعد البابا الجموع المشاركين بالحرب برفع العقوبات عن المذنبين منهم،
وإن كانت حملاتهم لا تخلوا من مآرب اقتصادية لاستغلال خيرات العالم الإسلامي. فهل
توقفت الحملات الصليبية الآن؟.

أنّى لها أن تتوقف، وأحقاد
القوم لا يطفئها إلا الانتقام وإراقة الدماء. الحروب الصليبية لم تتوقف أبداً منذ
مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
صدورهم أكبر).

يعود تاريخ الحروب
الصليبية إلى بداية المواجهة ضد النصارى في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حملة
الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام. غزوة مؤتة كانت مثالاً
للصراع المبكر بين المسلمين والنصارى في السنة الثامنة من الهجرة، وكان الصليب هو
شعار الروم آنذاك، واستمر الصراع فجاءت معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة، ورُفعت
رايات الإسلام على بلاد الشام خفّاقة مشرقة، ودخل الإسلام أرض الكنانة. ومن المعارك
الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين، موقعة ملاذكَرد، انهزم فيها النصارى
هزيمة ساحقة وامتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأُسر الامبرطور نفسه على
يد القائد المسلم ألب أرسلان. ثم جاءت الحروب الصليبية الشهيرة واستمرت قرنين من
الزمان، وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي على بلاد المسلمين كالأمواج
المتلاطمة، وكان الصليب فيها شعارهم، فكانت عدواناً صارخاً حاقداً ليس له نظير في
تاريخ الحروب العالمية، إذ خلّفت الخراب والدمار، وكانت سمتها المجازر الوحشية، مما
يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني. وكل حملة من هذه الحملات كانت توجه لبقعة
من أراضي المسلمين، فجاءت الحملة الصليبية الأولى نحو بيت المقدس، ثم الثانية، ثم
الثالثة، وهكذا حتى جاءت السابعة بقيادة ملك فرنسا موجهةً إلى مصر، فتصدى لهم
المجاهدون قرب المنصورة، وألحقوا بهم هزيمة ساحقة، بلغ فيها عدد القتلى من
الصليبيين ثلاثين ألفاً، أما الأسرى فحدث ولا حرج والحمد لله. والحملة الثامنة
توجهت نحو المغرب ونزل في تونس، وبعد أربعة أشهر نزل وباء قضى على أكثر الجيش
الصليبي والحمد لله.

أما الدولة العثمانية
فتاريخها مع الحروب الصليبية النصرانية تاريخ عريق، فلم تنس أوربا النصرانية
هزيمتها أمام الدولة العثمانية، أحرز فيها العثمانيون نصراً مؤزراً، فقد قُتل من
النصارى الكثير، وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب والحمد لله. ولن تنسى أوربا
النصرانية سقوط القسطنطينية بيد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلكالتاريخ
وقادة أوربا النصرانية يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام
تركتها، واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم
المجرمين من اليهود والصرب واليونان، حتى تمكنوا من عزل السلطان عبدالحميد وإسقاط
الخلافة، ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي ومعظم قادتها وأعضائها من يهود
الدونمة، فتمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائياً على الخلافة، واصطناع الحدود
بين أقطارها عن طريق اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة عام 1915م، وتم إلغاء الخلافة
الإسلامية وطَرْدِ الخليفة خارج الحدود، ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة،
وإلغاء الشريعة الإسلامية. ولم يكتف الصليبية النصرانية بكل هذا، بل استمروا في
حربهم الصليبية ضد المسلمين واستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر
وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية من ذلك حتى باكستان وأندونيسيا.

شكراااا سيف قطز بل عنتر يحيى

الصلاة بأقمصة البارصاولريال الصليبية "حرام" 2024.

الصلاة بأقمصة البارصا والريال* ‬*الصليبية ‬حرام

الجيريا

أكدلناالشيخشمسالدينصحةالفتاوىالتيتحرمالصلاةبأقمصةتحملالصليب،وفيمقدمتهاقميصاالبارصاوالرياللحملهماالصليب،مبرزافيذاتالسياق- أنالأصلفيالتحريمليسفيهذاالناديأوآخر،إنماالأصلفيحملهماالصليبوهومحرمشرعا،قائلافيهذاالشأن: ”الصلاةبقميصيحملالصليبأوأيشيءيمجدالكفرسواءأكانلبرشلونةأوأينادٍآخرأجنبيفهوحراموغيرجائزشرعا،أماغيرذلكفلاضررفيالأمر”،علىحدقوله.
ولميتوانَمحدثنافيمطالبةرؤساءالأنديةالجزائريةبتوجيهالأنصاروتوعيتهمفيالموضوع،عوضالاكتفاءبأمورلاتسمنولاتغنيمنجوع،باعتبارأنالمناصرالجزائريعندمايصليبأيقميصيحملالصليبأوأمريدعوإلىالكفرفهولايعلمذلك،ملقياالمسؤوليةعلىالمربيينالذيلهمالدورفيتوعيةالشبابفيالوقوعفيمثلهاتهالمحرماتالتيتبدوظاهرياأمراعاديالشبابجزائريكباقيالشبابالمسلملهميولاتلمناصرةنواديأوروبيةكبيرةكالبارصاوالريالبدرجةخاصة،إلاأنتوفرالعديدمنالاقمصةالخاصةبالنواديالأوروبيةوفيمقدمتهاالبارصاوالريالعلىالصليب،يجعلالصلاةباطلة،ويأتيذلكبالموازاةمععودةالحديثعنهذاالموضوعبقوة،فيظلالتوافدالكبيرللشبابالمسلمومنبينهالجزائريعلىاقتناءأقمصةالنواديالأوروبية،وفيمقدمتهاقميصاالبارصاوالريالالناديانالأكثرشعبيةفيالجزائروالعالمالعربيوالإسلاميوحتىالعالمبأسره،منخلالالعروضالمميزةالتييقومانبهاوالتيجذبتلهماجمهوراكبيرا.
ولدىتعريجهعلىتحذيرالشيخالسعوديسعدبنجمهورالسهيمي،والتيحذرمنخلالهاعلىأنتناسياللاعبينشكراللهبعدالفوزوإرجاعهإلىالمدربأواللاعبينلايعدأمراجانبيابلمنعقيدةالإيمان،وصفالشيخشمسالدينالأمربأنهمبالغفيهوسخفحقيقيقائلافيهذاالشأن: ”التيارالوهابييريدأنيكفرأيأمرويحرمه،وهذاالأمرغيرجائز،ويأخذونمنعامةالناسأيكلامويبنونعليه”،مبرزابأنشكراللهلايتطلبالجهربه.

بارك الله فيك …..و جزاك الله خيرا

مشكور اخي على التنبيه…وفيه من يصلي باقمصة تحمل عبارات مسيحية …صور حيوانات أو بشر…أو رموز معادية للإسلام…

من المؤكد اخي
فعديد الاقمصة تحمل صور الصليب او صور حيوانات او ماركات معادية للاسلام
بارك الله فيك على الموضوع

شكرا على ردودكم

قصة الحروب الصليبية 2024.

قصة الإسلام

قصة مائتي عام

الجيريافي تاريخ الأمة الإسلامية فترات تأججت فيها الحروب بينها وبين أعدائها، منها ما استمرَّ فترةً قصيرة، ومنها ما امتد عقودًا طويلة، أو قرونًا.

ومن الفترات التي شهدت حروبًا طويلة الأمد؛ فترة الحروب الصليبية التي استمرت حوالي مائتي عامٍ، شهدت سبع حملات صليبية قام بها العديد من ملوك أوربا، وقاومت فيها الأمة الإسلامية بكل ما استطاعت من قوة بقيادة عدد من أبرز قادتها المخلصين.

تبدأ قصة الحروب الصليبية عندما تآزرت عوامل عديدة دفعت ملوك أوربا إلى شنِّ هذه الحملات؛ فلم يكن الدافع واحدًا.

دوافع كثيرة لكنها كاذبة

تعصب البابا والملوك

فقد كان التعصب الديني المسيحي ضد الإسلام على رأس هذه العوامل، وكان هو المسيطر على البابا وبعض الملوك الذين قرروا المشاركة في الحملات، وكذلك بعض الجنود كفرسان المعبد. واشتعلت الأحقاد مطالبةً باحتلال الأراضي الإسلامية في بيت المقدس خاصةً، وإخراج المسلمين منها، كما أرادت الكنيسة الكاثوليكية الغربية أن تكون لها السيطرة الدينية في الشرق كما لها في الغرب؛ لذا استباحت الكذب على الشعوب المسيحية الأوربية، وأشاعت بينهم أن المسلمين يضطهدون المسيحيين في الشرق، ويمنعونهم حرياتهم الدينية، كما أجَّجت الأحقاد التي غرستها في نفوس هذه الشعوب ضد الإسلام والمسلمين طَوَال قرون عديدة.

الأطماع التجارية

كما كان هناك دافع السيطرة والتملُّك؛ إذ إن البابوية قد تمسكت بفكرة ملء الفراغ الذي نجم عن هزيمة البيزنطيين في موقعة ملاذكرد سنة 463هـ/ 1071م؛ بسبب اندفاع السلاجقة في الأراضي البيزنطية، وعجز البيزنطيين عن صدهم، فرأت أن تَهُبَّ أوربا الغربية في الدفاع عن هذه المنطقة وحُجَّاجها الأوربيين، وذلك باحتلال بلاد الشام، وقد ناصرها في ذلك معظمُ ملوك أوربا الغربية.

كذلك اشترك عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية في الحروب الصليبية بغرض استغلالي بحت؛ من أجل السيطرة على الطرق التجارية للسلع الشرقية التي أصبحت مصدر ثراء للمشتغلين بها.

الحروب المدمرة بين الإقطاعيات

كما كان للعوامل الداخلية شأن في إذكاء هذا الدافع؛ إذ كان الإقطاع يشكِّل الدعامة الأساسية للنظام السياسي والاجتماعي في أوربا، حيث كان لكل إقطاعية محاربوها، وكانت هذه الإقطاعيات تخوض حروبًا مدمرة فيما بينها؛ مما استنزف طاقاتها، وخلَّف وراءها مشاكل اجتماعية وسياسية قاسية. لذلك عمل الباباوات على توجيه الفرسان لقتال المسلمين بدلاً من الانصراف إلى الحروب الداخلية والمنازعات فيما بينهم، أي تحويل تفاقم الخطر الداخلي وتنامي الأطماع والمكاسب إلى اتجاه خارجي .

المجتمع الأوربي يعاني ظروف قاسية

أمَّا الدافع الثالث فقد كان الدافع الاقتصادي؛ فقد كان نشاط المسلمين التجاري قد أزعج الجمهوريات الإيطالية التي كانت تريد احتكار البحر الأبيض المتوسط لصالحها؛ لذا أرادت الدفع في اتجاه البدء في الحملات، لتحقيق تلك المصالح الاقتصادية. كما طمع هؤلاء الملوك في خيرات الشرق التي كانوا يشترونها من التجار المسلمين بأسعارٍ عالية.

إضافةً إلى ذلك كانت الغالبية العظمى من الطبقات الدنيا في المجتمع الأوربي تحيا حياةً ملؤها البؤس والشقاء في ظلِّ النظام الإقطاعي؛ فانتشرت بينها الأوبئة والمجاعات، وكان ذلك بسبب الظروف القاسية التي عاشها الفلاحون في غرب أوربا في تلك الفترة، فكثير من الأراضي الزراعية تعرَّض للخراب نتيجة لهجمات البرابرة؛ فقلَّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت فيه أعداد السكان، وزاد الأمر سوءًا الحروبُ والمنازعات بين الأمراء الإقطاعيين، إضافة إلى النكبات الطبيعية والاقتصادية التي عانى منها الغرب الأوربي حينذاك، فعاش الناس في المنطقة عيشة الفَقر والحِرمان والخوف. وقد دفعتهم هذه الأوضاع إلى الاشتراك في الحروب الصليبية 2.

البابا يستنفر الجائعين

وقد ضرب البابا على هذا الوتر، فقال: "لا تدعوا شيئًا يقعد بكم، ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن -والتي تحيط بها البحار وتلك الجبال- ضيقة على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضًا، ويلتهم بعضكم بعضًا. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، بل هي فردوس المباهج".

وإن جميع الوثائق تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت فرنسا بالذات تعاني من مجاعة شاملة قبيل الحملة الصليبية الأولى؛ ولذلك كانت نسبة المشاركين منها تفوق نسبة الآخرين، فقد كانت الأزمة طاحنة حيث ألجأت الناس إلى أكل الحشائش والأعشاب. وبذلك جاءت هذه الحرب لتفتح أمام أولئك الجائعين بابًا جديدًا للخلاص من أوضاعهم الصعبة، وهذا ما يفسِّر أعمال السلب والنهب للحملة الأولى ضد الشعوب النصرانية التي مرّوا في أراضيها 3.

بهذا العرض يتبين أنَّ الوضع الأوربي الداخلي كان مهيَّأً لبداية هذه الحملات العنيفة على العالم الإسلامي، ومن ثَمَّ حانت لحظة البداية!!

الأرض المقدسة بين البابا والمسيح

فقد شهدت مدينة "كليرمونت" الفرنسية حدثًا خطيرًا في (26 من ذي القعدة 488هـ/ 27 من نوفمبر 1095م) كان هو نقطة البداية للحروب الصليبية؛ حيث وقف البابا "أوربان الثاني" بابا الفاتيكان في جمعٍ حاشدٍ من الناس يدعو أمراء أوربا إلى شنِّ حرب مقدَّسة من أجل المسيح، وخاطب الحاضرين بلغة مؤثرة تكسوها الحماسة، ودعاهم إلى تخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، ونجدة إخوانهم في الشرق، ودعا المسيحيين في غرب أوربا إلى ترك الحروب والمشاحنات، وتوحيد جهودهم لقتال المسلمين في الشرق 4.

أحوال المسلمين.. فُرقة وخلافات

في هذه الفترة كانت أحوال المسلمين في الشرق في غاية السوء؛ إذ ضربت الفُرقَة أطناب البلاد والشعوب الإسلامية، فمزقتهم شرَّ ممزَّق، وجعلتهم شراذم لا يقيم لهم الناس وزنًا، واشتعلت الخلافات والحروب بينهم من أجل التنازع على النفوذ والسلطان، ومن جرَّاء ذلك كانت أراضي الخلافة الإسلامية في نهاية القرن الخامس ومطلع القرن السادس الهجريين تخضع لقوى متعددة متنافرة، وقع بينها الخلاف، وعملت كل منها على التوسُّع على حساب الأخرى، وعلى رأس هذه القوى:

1- الخلافة العباسية:وكان خلفاؤها قد قبعوا في مدينة بغداد، ورضُوا من الحكم بالاسم بعد أن خرجت عن سلطتهم غالبية أراضي الخلافة الإسلامية، ولم يبقَ بأيديهم إلا بغداد وما يحيط بها، والأمر والقول الفصل في هذه البقعة للسلاجقة سلاطين بغداد.

2- السلاجقة: وقد توسَّعت سلطتهم تدريجيًّا حتى شملت أغلب مناطق الخلافة العباسية الشرقية، ونهضوا في عهد سلاطينهم: طُغرل بك، وألب أرسلان، ومَلِكْشاه بحماية أراضي الخلافة الإسلامية، وأثبتوا أنهم سيوف الإسلام الذائدون عنه؛ فقد نهضوا للوقوف في وجه البيزنطيين، وتوسّعوا غربًا على حسابهم. وتوّج ألب أرسلان نضاله مع البيزنطيين بمعركة ملاذكرد، تلك المعركة التي كانت آثارها كبيرة على الصعيدين المحلي والدولي؛ فعلى صعيد المنطقة، فإنها فتحت أبواب آسيا الصغرى أمام السلاجقة، ودحرت القوات البيزنطية باتجاه الغرب، وأتاحت الفرصة للسلاجقة لتأسيس دولة سلاجقة الروم. وعلى الصعيد الخارجي، فإن هذه المعركة كانت سببًا من أسباب توحيد قلوب أوربا المسيحية ضد المشرق الإسلامي، إِثْر استنجاد أباطرة القسطنطينية بالبابوية لرد خطر السلاجقة، الذين أخذوا في اجتياح ممتلكاتهم 5. ولم تستمر قوة السلاجقة بالصعود، فقد أخذت قوتهم بالانحلال إثر وفاة ملكشاه سنة 485هـ/ 1902م. وانقسم السلاجقة على أنفسهم، ووقعت الحروب بينهم.

ولعل أكبر مظهر لانحلال سلطان السلاجقة في بلاد الشام والعراق وغيرها، ظهور عدد كبير من البيوت الحاكمة لا يجمعها رابطة سوى الاتصال بالبيت السلجوقي، ومن تلك البيوت ظهرت وحدات سياسية أطلق عليها اسم الأتابكيات، وعلى أصحابها اسم الأتابكة.

3- الدولة العُبَيْدِيَّة (المسمَّاة بالفاطمية):

أمَّا القوة الثالثة التي كان لها أثر كبير في أحداث المنطقة في تلك الفترة، فهي الدولة العبيدية (التي تنتسب زورًا للسيدة فاطمة بنت رسول الله r)، وقد كانت تلك الدولة على مذهب الشيعة الإسماعيلية الباطنية الخارجة عن الإسلام، وكان قيامها بشمال إفريقية سنة 296هـ/ 909م، ثم انتقلت إلى مصر سنة 358هـ/ 972م. وأخذت من ثَمَّ تُنازع الخلافة العباسية زعامة العالم الإسلامي؛ فبعدما دان المغرب العربي ومصر لسيطرتها اتجهت بأطماعها إلى الشام، واستطاعت بسط هيمنتها على معظم بلاد الشام، حتى أصبحت ملحقات مصر في بلاد الشام حتى دمشق تابعةً للفاطميين.

وكانت الدولة العبيديَّة على أتم الاستعداد لفعل كل ما يضر بالمسلمين، وقد ظهر ذلك فيما بعد بتعاونها مع الصليبيين ضد العالم الإسلامي، وقد دخلت -في ذاك الوقت- في طور من الضعف جعل السلطة الحقيقية بأيدي الوزراء لا الخلفاء.

الحملة الصليبية الأولى

بداية الحملات وتعطُّش الصليبيين للدماء

بدأت قصة الحملات الصليبية -التي ستبلغ سبعًا- بالحملة الأولى، والتي كان الرُّعاة من فرنسا هم أغلب المشاركين فيها؛ نظرًا لسوء الأحوال الاقتصادية، وندرة الغلال وارتفاع أثمانها هناك[6] وقد كان من أبرز الأمراء المشاركين في الحملة جودفري البولوني (تقع بولونيا في شمالي إيطاليا) ( Godfrey de Bouillon) الذي تولى قيادة الجيش الذي جمعه من اللورين (شمالي فرنسا)، واشترك معه أخوه بلدوين. وتولى روبرت دوق نورماندي (غربي فرنسا) (Robert Duke of Normandy) قيادة الفرسان القادمين من غرب فرنسا ونورماندي وبعض مناطق الشمال، فضلاً عن الكثير من الفرسان الإنجليز من أتباع أخيه الملك الإنجليزي وليم روفوس. أما الجيش الثالث فكان تحت قيادة ريموند الرابع كونت تولوز (جنوبي فرنسا) (Raymond IV of Toulouse)، وقد تألَّف جيشه من فرسان جنوب فرنسا، وكان في صحبته أديمار أسقف لوبوي، والمندوب البابوي في هذه الحملة. أمَّا أصغر الجيوش فكان جيش هيو كونت فرماندوا، المعروف باسم الأشغر، وهو شقيق فيليب الأول ملك فرنسا آنذاك، وكان جيشه هو أول الجيوش الصليبية في الوصول إلى الأراضي البيزنطية. وثمة جيش خامس قاده بوهيموند النورماني (bohemond) ابن روبرت جويسكارد، تألَّف من المقاتلين النورمان الأشداء في جنوب إيطاليا (هم أهل الشمال الأوربي، وهو اسم أُطلِق على الغزاة (الفايكنج) القادمين من بحار إسكندنافيا في القرن الثامن الميلادي)7، واتجه الأمراء بعدها بحملة تُعرَف باسم حملة الأمراء، وقد بلغ تعداد الحملة مليون صليبي، وهو أكبر رقم في التاريخ الإسلامي حتى الآن.

إذن كانت هذه الحملة -بالنسبة لعدد الدول المشاركة فيها، وتعداد الجيوش- تمثل حربًا عالميةً حقيقية ضد المسلمين.

الطريق إلى القدس

توجهت الحملة الصليبية الأولى (488- 492هـ/ 1095- 1099م) إلى القدس، وفي الطريق إليها أسَّس الصليبيون إمارة الرُّهَا بزعامة بلدوين البولوني، الذي انفصل عن الحملة واتجه نحو الشرق بناءً على دعوة من حاكم الرُّها لمساعدته أمام الزحف الإسلامي بقيادة كربوغا حاكم الموصل القادم لنجدة أنطاكية، ثم أشركه حاكم الرها معه في الحكم، وبعد اغتياله بأيدي الأرمن تزوج بلدوين أرملته، وتسلَّم الحكم في (ربيع الآخر 491هـ/ مارس 1098م)، ثم أسس الصليبيون إمارتهم الثانية في أنطاكية عام 491هـ/ 1098م، بزعامة بوهيمند النورماني (bohemond).

تحالف فاطمي صليبي

وفي أثناء حصار الصليبيين لأنطاكية، استقلَّ بطرابلس القاضي ابن عمَّار أحد أتباع الفاطميين، بل أرسل الفاطميون للصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكية سفارة للتحالف معهم، وعرضوا عليهم قتال السلاجقة بحيث يكون القسم الشمالي (سوريا) للصليبيين وفلسطين للفاطميين، وأرسل الصليبيون وفدًا إلى مصر ليدلِّلوا على «حُسن نيَّاتهم»!! هكذا…!!

تابع ريموند دي تولوز (أمير إقليم بروفانس وتولوز بفرنسا) قيادة بقية الصليبيين إلى بيت المقدس، وكان عددهم أربعين ألفًا!! وفي ربيع 1099م دخلوا مناطق فلسطين فمرّوا بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين!! ثم قيسارية ثم أُرْسُوف، ثم احتلوا الرَّمْلَة واللُّدَّ وبيت لحم، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم كربوغا صاحب الموصل، وصـاحب دمشق دقاق، وصاحب حمص جناح الدولة، غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم، ودخلوا معـرَّة النعـمان فقتلوا مائة ألف مسلم.

وكان العبيديون (الملقبين زورًا وبهتانًا بالفاطـميين) قد استغـلوا تقـدُّم الصليبيين من الشمال، فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا بيت المقدس وطردوا السلاجـقة منها قبل وصول الصليبيين إليها، وجرت مفاوضات بين الأفضل الجمالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبها للعبيديين، ونصَّب العبيديون افتخار الدولة حاكمًا على القدس.

مذبحة داخل بيت المقدس

وصل الصليبيون إلى بيت المقدس، ودخلوها في (23 من شعبان 492هـ/ 15 من يوليو 1099م)، بعد حصار دام واحدًا وأربعين يومًا، ولما لم يصل حاميةَ القدسِ المددُ من مصر حيث الدولة العبيدية، استطاع الصليبيون اقتحـام المدينة، ولم يكن أمام الجنود إلا الاحتماء بالمسجـد، بعد أن قاوموهم ما استطاعوا، وقد تبعهم الصليبيون داخل المسجد وذبحوهم بوحشية بالغة، ونهبوا قبـة الصـخرة، وأَسَالُوا بحرًا من الدماء، وانتُخِبَ جودفري الفرنسي ملكًا على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح.

وفي بيت المقدس ارتكب الصليبيون أشنع المجازر، والتي تليق بقومٍ مثلهم أحرقت الأحقاد قلوبهم؛ يقول ابن خلدون في كتابه العِبَر: "استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمرون، وأُحصِي القتلى بالمساجد فقط من الأئمة والعلماء والعبّاد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون…"8.

قتلوا في بيت المقدس ما يزيد على سبعين ألفًا في خلال أسبوع فحسب، وكانوا يبقرون بطون الموتى، ويذبحون الأطفال بلا شفقة ولا رحمة. ويصف الأسقف وليم الصوري هذه المذبحة وصفًا تقشعرُّ له الأبدان، إذ يقول: "ويُروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط، قُرابة عشرة آلاف من الكفرة (المسلمين)، إضافة إلى القتلى المطروحين في كل مكان من المدينة، في الشوارع والساحات، حيث قدّر عددهم أنه كان مساويًا لعدد القتلى داخل حرم الهيكل، وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكنهم أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأى الجميع وذُبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زُمَرٍ واقتحموا المنازل حيث قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم وجميع أسرهم، وقتلت هذه الضحايا أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي" . وقد تركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع أنحاء العالم.

الإمارة الصليبية الرابعة وظهور البطل

نجح الفرنجة في تأسيس المملكة الصليبية الرابعة وهي طرابلس في 11 من ذي الحجة 503هـ/ 12 من يوليو 1109م بعد حصارٍ دام سبعة أعوام، وكانت الصدمة عنيفةً على المسلمين في أقطار الأرض، وأصابت العديدين بالإحباط واليأس، إلا أن هذه الأمَّة التي لا ينقطع خيرها ما لبثت أن أخرجت بطلاً ظهر على مسرح الأحداث مجاهدًا في سبيل الله، ساعيًا إلى توحيد الكلمة، كان هذا البطل هو عماد الدين زنكي بن آق سُنْقُر أمير الموصل الذي مَلَكَها سنة ٥٢١هـ/ ١١٢٧م.

عماد الدين زنكي

لم ينشأ عماد الدين زنكي على حبِّ الجهاد، ووَحْدة المسلمين من فراغٍ، فقد قضى فترة الثلاثين عامًا الأولى من حياته في تربيةٍ عقائديةٍ وأخلاقية مستمرة؛ كان قوام هذه التربية العودة إلى الأصول الإسلامية في القرآن والسُّنَّة، وكان القائمون على تلك التربية هم كبار علماء زمانه؛ كأبي حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلاني، واق سنقر والد عماد الدين.

وقد أصبح عماد الدين زنكي أقوى حاكم مسلم في زمانه؛ لأنه سخَّر إمكانياته وقوته في الجهاد ضد الصليبيين.

استطاع عماد الدين التغلب على النعرات الانعزالية في كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة؛ ففي سنة ( جمادى الأولى ٥٢٢هـ/ يونيو 1128م) مَلَكَ مدينة حلب وقلعتها، وكان هذا أمرًا غاية في الخطورة على الصليبيين في شمال بلاد الشام؛ لأنه كان يقطع الطريق بين الرُّها وغيرها من المستوطنات الصليبية، وفي العام التالي استولى على حماة، ثم حاز حمص سنة ٥٣٢هـ/ 1138م، وبذلك صار الطريق ممهدًا أمامه لتوجيه ضربة قوية للصليبيين9.

الرُّها في يد المسلمين

وجاءت هذه الضربة في 26 من جمادى الآخرة ٥٣٩هـ/ 23 من ديسمبر ١١٤٤م حين استطاعت قوات عماد الدين زنكي أن تستولي على الرها بعد حصار دام ثمانية وعشرين يومًا فقط، وكان ذلك السقوط ضربة مؤلمة لنفوس الصليبيين بددت أوهام الأمن والقوة التي عاشوا فيها؛ إذ سقطت المدينة بأيدي المسلمين بعد ما يقرب من خمسين عامًا من احتلالها من قِبَل بلدوين البولوني.

نور الدين على الدرب يسير

وبعد وفاة عماد الدين زنكي استكمل نورالدين محمود بن عماد الدين زنكي مسيرة جهاد أبيه.

وُلِد نور الدين محمود في السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية، وكان يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم؛ قال ابن الأثير: "لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه"10. وقد اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وأعطى عرب البادية إقطاعيات؛ لئلاّ يتعرضوا للحجاج، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية والنورية ودار الحديث، ويُعتَبَر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام كذلك ببناء الجامع النوري بالموصل، وبنى الخانات (الفنادق) في الطرق، وكان متواضعًا مهيبًا وقورًا، يكرم العلماء، وكان فقيهًا على المذهب الحنفي، فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحُجَّاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمّا يشكل عليه، وقد وقف نور الدين كُتُبًا كثيرة ليقرأها الناس، وتُوُفِّي بدمشق سنة 569هـ11.

وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم، وقرب إمارته في حلب من الصليبيين؛ مما جعله أكثر الناس إحساسًا بالخطر الصليبي.

استهلَّ نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكية الصليبية، واستولى على عِدَّة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة (جوسلين الثاني) لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي، وذلك في جمادى الآخرة 541هـ/ نوفمبر 1146م، وكانت هزيمة الصليبيين في الرُّها أشد من هزيمتهم الأولى. * نور الدين وحكام الأقطار

وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب وُدِّها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع (معين الدين أَنُر) حاكم دمشق، وحليف الصليبيين، والذي كان حاكمًا ظالمًا، وذلك سنة (541هـ/ 1147م)، وتزوج ابنته من أجل تحييده، فلمّا تعرض (أنر) لخطر الصليبيين -وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف- لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معًا واستوليا على بُصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق، حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة أنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.

وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكان سِنُّه إذ ذاك تسعًا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرًا كثيرًا.

الحملة الصليبية الثانية

بعد سقوط إمارة الرّها وتحريرها على يد عماد الدين زنكي ذهب وفد من فرنج الشرق إلى البابا إيجينيوس الثالث، بعد أن اعتلى العرش البابويّ بوقت قصير، كما ذهب وفد آخر من الأرمن الكاثوليك يستنهض همم البابوية وملوك الغرب لمحاولة استرداد الرها التي ضاعت منهم.

ونتيجة لتلك المساعي تجمَّع جيش فرنسي كبير قوامه سبعون ألفًا على رأسه لويس السابع ملك فرنسا، وتجمع جيش ألماني قوامه سبعون ألفًا أيضًا على رأسه إمبراطور ألمانيا كونراد الثالث، وشنَّ الجيشان الحملة الصليبية الثانية سنة 542هـ/ 1147م.

اتخذ الجيشان طريقين مختلفين للوصول إلى المشرق الإسلامي؛ فالجيش الألماني اتخذ طريق البحر، ورست سفنه على شواطئ آسيا الصغرى ثم عبر البسفور، فشعر به السلاجقة، وهزموه شر هزيمة. أمّا الجيش الفرنسي فسار بطريق البر حتى وصل إلى القسطنطينية[12]ثم نقل جنوده على دفعات لعدم وجود سفن كافية.،

فشل كونراد ولويس التاسع

وصل كل من لويس بقواته، وكونراد وشراذم جيشه إلى القدس عام 543هـ/ 1148م، وهناك اتفق قواد الحملة الصليبية الثانية على الاتجاه لمحاصرة مدينة دمشق، التي كانت بالغة القوة والتحصين، وفي نفس الوقت سارعت قوات إسلامية كثيرة لإنقاذ دمشق وفك الحصار المضروب حولها؛ مما اضطر الجيوش الصليبية إلى التقهقر والانسحاب ليتفادوا معركة دموية كبرى لم تكن في حسبانهم.

وهكذا فشلت الحملة الصليبية الثانية التي كان هدفها استرداد إمارة الرها، وانسحبت جيوش الصليبيين إلى أوربا وهي تشعر بمرارة الخزي والهزيمة[13]نور الدين محمود دمشق سنة ٥٤٩هـ/ ١١٥٤م برغبة أهلها الذين سَئِموا ظلم حاكمهم.، ولكنها أسدت خدمةً عظيمةً للمسلمين؛ إذ إنها تسبَّبَتْ في إقامة تحالف بين دمشق وحاكمها
الضعيف وبين البطل المجاهد نور الدين محمود. وقد أسفر ذلك عن دخول

الوَحْدة بين مصر والشام

كان نور محمود يؤمن أنه لا سبيل للانتصار على الصليبيين إلا بالوحدة بين مصر والشام؛ ولمَّا كانت مصر في ذلك الوقت واقعةً تحت سيطرة الدولة العبيدية الخائنة، كان لا بد من عودتها إلى حظيرة أهل السُّنة والجماعة، وتوحيدها مع الشام، لتتكامل القوة الضاربة لمواجهة الصليبيين؛ لذا أرسل نور الدين قائده أسد الدين شيركوه
، برفقة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي؛ لمعاونة الوزير المصري شاور الذي طلب معاونة نور الدين ضد غريمه ضرغام الذي استعان بالصليبيين، واستطاع شيركوه الانتصار على ضرغام، ثم تولى الوزارة في مصر بعد خيانة شاور له، واستعانته بالصليبيين.

صلاح الدين وزيرًا لمصر

توفِّي أسد الدين شيركوه فجأة إثر وقوعه من فوق فرسه، وتولى الوزارة من بعده ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي بعد منافسة العديد من القادة العبيديين.

وصلاح الدين هو يوسف بن أيوب بن شادي، ولُقِّب بالملك الناصر، ولد سنة 532هـ في تكريت إحدى قرى الأكراد بشمال العراق، وانتقل مع أبيه وعمِّه إلى بعلبك، وهناك حفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة، والحديث والفقه، واللغة العربية، والطب وأنساب العرب.

لم يكن صلاح الدين شابًا غِرًّا، بل كان فارسًا مغوارًا، وقائدًا حكيمًا رغم صغر سنِّه؛ فقد تربى على أيدي نور الدين محمود نفسه، الذي كان يُعِدُّه منذ صغره لتولي معالي الأمور، وكان يشرف على تعليمه وتربيته؛ فنشَّأه على الفروسية وحب الجهاد.

أسند إليه نور الدين محمود رئاسة الشرطة في دمشق، ثم أرسله مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر، فاستطاع أن يصبح وزيرًا عليها بعد وفاة عمه.

وفي هذه الأثناء كانت راية نور الدين محمود ترفرف على دولة متسعة الأرجاء فيها خمس عواصم هي: دمشق، والرُّها، وحلب، والموصل، ثم القاهرة. وأخذ نور الدين يُلِحُّ على رجله في مصر صلاح الدين الأيوبي -الذي كان يتولَّى الوزارة فيها للفاطميين- لاتخاذ الخطوات الحاسمة لإعلان نهاية الخلافة الفاطمية، وإعادة مصر إلى الخلافة العباسية. وانتظر صلاح الدين حتى واتته الفرصة في أول يوم جمعة من سنة ٥٦٧هـ/ ١٠ من سبتمبر ١١٧١م فأحلَّ اسم الخليفة العباسي محل اسم الخليفة الفاطمي في الخطبة التي أُلقِيت في مسجد عمرو بن العاص. وكان الخليفة الفاطمي العاضد طريح الفراش، ثم مات بعد أسبوع واحد دون أن يدري أن دولة آبائه قد دالت، وأنه آخر الفاطميين.

ورحل المجاهد نور الدين محمود

فُجِع العالم الإسلامي بوفاة البطل المجاهد نور الدين محمود في دمشق، إِثْر إصابته بالحمى، وذلك في (11 من شوال 569هـ/ 15 من مايو 1174م)، وكانت صدمةً كبيرة للمسلمين، أثارت خوفهم على حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، التي نذر نور الدين حياته لها ولفكرة تحرير بيت المقدس، حتى إنه قد جنَّد العديد من أبرع المهندسين لبناء منبر يضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره، ولكنَّ أجله كان أسرع إليه من تحقيق تلك الأمنية.

صلاح الدين وحطين

صلاح الدين أمير مصر والشام

بعد وفاة نور الدين محمود، واختلاف أمراء البيت الزنكي، وصراعهم فيما بينهم، عمل صلاح الدين على تحقيق الوحدة بين مصر والشام؛ لكي يستطيع الانتصار على الصليبيين، وبعد عدة تطورات سياسية أعلن صلاح الدين الأيوبي نفسه ملكًا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسي سنة ٥٧٠هـ/ ١١٧٥م.

وقد اهتم صلاح الدين بالإصلاحات في مصر، فنشطت الحركة العلمية في عصره، وأخرج المخطوطات من الخزائن، وأقام سوقًا في القصر لبيع الكتب، وأنشأ المستشفيات، وبنى القلعة فوق جبل المقطم لتكون حصنًا لمصر.

وكان -على بطولته- رقيقَ النفس والقلب، رجل سياسة وحرب بعيد النظر، وترك مصر إلى سوريا وأقام بها تسعَ عشرةَ سنة بنى فيها المدارس والمستشفيات14.

وقضى صلاح الدين في مصر حوالي ست سنوات من (٥٧٢- ٥٧٧هـ/ ١١٧٦- ١١٨١م) لترتيب الأوضاع الداخلية في مصر والشام استعدادًا للمواجهة مع الصليبيين15.

وفي تلك الأثناء قام الصليبيون بعدة غارات عبر شبه جزيرة سيناء، بل إن قواتهم وصلت حتى بحيرات منطقة السويس (البردويل حاليًا)، كما شنوا غارات أخرى على تيماء شبه الجزيرة العربية. وحاول رينالد دي شاتيون أمير الكرك (أرناط) أن يقتحم البحر الأحمر، ويغزو مكة والمدينة، وأن يتحكم في حركة التجارة الدولية المارة بهذا البحر، وهاجم بعض موانئ مصر والحجاز، ولكن الأسطول المصري سحق أسطوله تمامًا.

وبعد مطاولات كثيرة بينه وبين الصليبيين تمكَّن صلاح الدين بجيوشه من إنزال هزيمة ساحقة بقوات الصليبيين في معركة حطين يوم ٢٤ من ربيع الثاني 583هـ/ ٤ من يوليو ١١٨٧م، وفي هذه المعركة فقدت مملكة بيت المقدس قواتها العسكرية الرئيسية. ولم تكن حطين مجرد هزيمة عسكرية ثقيلة كالتي حدثت قبل ذلك للصليبيين، وقُتِل فيها بعض أمرائهم، ووقع بعضهم في الأسر، ولكن ما حدث في حطين كان أخطر من ذلك بكثير، فقد تمَّ تدمير أكبر جيش صليبي أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبي، كما وقع ملك بيت المقدس جاي لوزينان في الأسر.

حطين ودخول بيت المقدس

وبعد حطين تمكنت جيوش صلاح الدين من استرداد عكا، ويافا، وبيروت، وجُبَيْل، ثم عسقلان، وغَزَّة. وفي أواخر جُمادى الآخرة سنة ٥٨٣هـ/ سبتمبر ١١٨٧م اتجه صلاح الدين صوب القدس.

وبعد حصار قصير دخل صلاح الدين وقواته المدينة المقدسة في ٢٧ من رجب ٥٨٣هـ/ ٢ من أكتوبر ١١٨٧م بصورة إنسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحرَّرة بعد أن ظلت ممنوعة طويلاً.

سماحة القائد أم سماحة الإسلام!!

لم يصدق الصليبيون أنفسهم وهم يرون سماحة القائد صلاح الدين والمسلمين معه؛ ذلك أنه أبى إلا أن يُكرِم أسرى الصليبيين في كل بلد استولى عليه، فحرَّم على جنوده الاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، وسمح لهم بالخروج آمنين سالمين إلى حيث شاءوا من المدن الصليبية الأخرى القريبة. فإذا فرض أموالاً على الأسرى مقابل إطلاق سراحهم، فإنه كان يحرص على إعفاء فقراء الصليبيين من ذلك المال؛ وبذلك استطاع صلاح الدين أن يلقِّن البرابرة الغربيين درسًا في الأخلاق كانوا في أشد الحاجة إليه.

وقد كان صلاح الدين في قمة التسامح مع الأسرى وغيرهم، وكان يعطي الأمان لمن يريده، ويسيِّر رجاله من الشرطة في الشوارع لمنع أي اعتداء على النصارى، وكان من رحمته بأعدائه أن أمر رجاله بالبحث عن ابن امرأة صليبية زعمت أن الجنود خطفوه فأحضروه لها.

الحملة الصليبية الثالثة

أوربا تستعد لحملة جديدة

بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين في حطين وما تلاها من انتصارات حتى سقوط بيت المقدس وما بعدها من مدن وقلاع، أسرعت رسل الصليبيين من الممالك الصليبية إلى غرب أوربا لتخبر بنبأ الكارثة التي حلَّت بهم على يد المسلمين، ولما علم البابا أوربان الثالث (1180- 1187م) بهذه الأخبار لم يتحمل الصدمة، وكان مريضًا فمات في أكتوبر 1187م، وتولَّى بعده البابا جريجوري الثامن فأرسل إلى حكام الغرب الأوربي يدعوهم إلى بذل كل الجهود لمساعدة الممالك الصليبية، والدعوة إلى فرض هدنة داخل أوربا لمدة سبع سنوات، والدعوة أيضًا إلى الصيام، والوعد لجميع الصليبيين بغفران الذنوب16. وفرض البابا ضريبةً مقدارها 10% على الدخل وعلى الأملاك المنقولة سمّاها: (عشور صلاح الدين) لتمويل الحملة الصليبية الجديدة.

واستجاب لدعوة البابا عدد من ملوك أوربا على رأسهم الإمبراطور الألماني فريدرك باربروسا الأول، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد الأول ملك إنجلترا الذي كان يُلقَّب بقلب الأسد17

وفي ١١ من مايو ١١٨٩م تحركت قوات الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا قَبْل القوات الفرنسية والقوات الإنجليزية مشكِّلةً الحملة الصليبية الثالثة. وسارت قوات الألمان عبر الطريق البري الذي سارت عليه من قبل قوات الحملة الأولى، ولكنَّ الإمبراطور لقي حتفه في أحد أنهار آسيا الصغرى غريقًا في ١٠ من يونيو ١١٩٠م. وكانت تلك خسارة فادحة لحقت بالجيش الصليبي قبل أن يصل إلى هدفه، وانتهى أمر الألمان بالمشاركة الرمزية في الحملة الصليبية الثالثة18.

خيانة العهد صفة الصليبيين

اتجهت قوات الصليبيين إلى صقلية وظلُّوا بها في شتاء 586- 587هـ/ 1190- 1191م في نزاع حول الأمور الداخلية في صقلية، وبعد ذلك أبحروا تجاه فلسطين حيث وصلوا مدينة صور التي كانت ما تزال بأيدي الصليبيين، ثم بدءوا مسيرهم نحو عكا وحاصروها بدايةً من (10 من رجب 585هـ/ أواخر أغسطس 1189م) إلى أن سقطت في أيديهم بعد أن دافع عنها أهلها دفاعًا مستميتًا. دخل الصليبيون عكا في (16 من جمادى الآخرة 587هـ/ 11 من يوليو 1191م) بعد أن حاصروها نحو عامين، غير أن ريتشارد قلب الأسد تجاهل بنود الاتفاق عندما دخل عكا، ونقض ما اتّفق عليه وخان العهد؛ حيث قبض على من بداخلها من المسلمين، وكانوا نحو 3 آلاف مسلم وقام بقتلهم، ولم يقابل صلاح الدين الإساءة بالإساءة، ورفض أن يقتل من كان بحوزته من أسرى الصليبيين.

ريتشارد الغادر الخائن

لم يكن غدر ريتشارد بالمسلمين، ونقضه للعهد غريبًا على شخصيته؛ فلم يكن ريتشارد نبيلاً كما صوّرته وسائل الإعلام في العالم الإسلامي من خلال فيلم الناصر صلاح الدين، بل كان على النقيض من ذلك غادرًا خائنًا متآمرًا حتى على أقرب الناس إليه، ولا يرقب فيهم قَرابة، ومن ذلك أنه اشترك مع إخوته في مؤامرة ضد والدهم سنة (569هـ/ 1173م)، ولكنها فشلت، ثم ما لبث أن عفا عنه والده، وانصرف إلى دعم سلطانه على المقاطعات التابعة له، ولكنه شرع في الضغط على أبيه ليعترف به وريثًا شرعيًّا يخلفه على عرش إنجلترا والمقاطعات الفرنسية التابعة لها.

ولم يرعوِ ريتشارد بعد عفو والده عن خيانته، بل تحالف مع فيليب أوغسطس لتحقيق غرضه في الوصول إلى عرش إنجلترا، وأعلن تمرده على والده وثار ضده سنة (584هـ/ 1188م)، ولم يكن أبوه في سن تسمح له بمقابلة تمرد ابنه بضربات قوية؛ فقد كان كبير السن عليل البدن، الأمر الذي عجَّل بوفاته سنة (585هـ/ 1189م)، وخلفه ريتشارد ملكًا على عرش إنجلترا في (20 من جمادى الأولى 585هـ/ 6 من يوليو 1189م) باسم ريتشارد الأول.

بعد الاستيلاء على عكا، زحف الصليبيون على ما جاورها من موانئ المسلمين على البحر المتوسط واستولوا عليها.

صلح الرملة ووفاة صلاح الدين

صلح الرَّمْلَة

بعد ذلك دخل الصليبيون في مفاوضات مع صلاح الدين الأيوبي انتهت بعقد صلح الرملة سنة 588هـ/ 1192م، والذي بمقتضاه خضعت المساحة الواقعة على ساحل البحر المتوسط ما بين مدينتي صور ويافا للنفوذ الصليبي، بينما ظلَّ المسلمون مسيطرين على كل المناطق التي حرّروها بما في ذلك القدس، مع السماح بحرية النصارى في زيارة الأماكن المقدسة في المدينة19.

لماذا قَبِل صلاح الدين الصلح؟

لم يكن صلاح الدين مختارًا في قَبُوله صلح الرملة، بل كان هناك من العوامل ما ضغط عليه ليقبله، ولو سارت الأمور وَفْق ما كان يتمنى لاستمر في الجهاد حتى تتحقق غايته الكبرى بتطهير بلاد الشام من الوجود الصليبي، وقد أشار صلاح الدين إلى هذه العوامل، ومنها:

1- النزاع بين الأكراد والأتراك في جيشه.

2- ملَّ الجنود من طول فترة الحروب.

3- ازدياد قوة العدو.

4- خشيته من حدوث الخلاف بين أسرته بعد وفاته، وانصرافهم عن الاهتمام بالمصلحة العامَّة20.

ورغم ذلك فإن هذا الصلح لم ينتقص مما في أيدي المسلمين شيئًا، ولم يعطِ الصليبيين شيئًا مما استطاع المسلمون استرداده؛ لذا يعتبر المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصليبية؛ لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذِل فيها من جهد ضخم، فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين21.

وفاة صلاح الدين وانقسامالدولة الأيوبية

توفِّي السلطان صلاح الدين الأيوبي في (27 من صفر 589هـ/ 4 من مارس 1193م) بقلعة دمشق بعد أن أُصيب بحمَّى؛ فحزن المسلمون كبارًا وصغارًا، وتنفّس الصليبيون الصعداء، وعوَّلوا على قلة خبرة أبنائه من بعده. وقد حدث ما كانوا يؤمِّلونه؛ إذ انشغل ورثة صلاح الدين بالصراعات الداخلية على الولايات والمدن، وقضوا تسع سنوات في مؤامرات داخلية، حتى وصل الأمر إلى انفصال الشام عن مصر مرةً أخرى في ضربة قاصمة للوَحْدة الإسلامية.

لذا فإنه في السنة التي تولى فيها السلطان العادل الأيوبي شقيق صلاح الدين منصب السلطنة الأيوبية في القاهرة، أي سنة 596هـ/ 1200م، كانت فكرة الاستيلاء على بيت المقدس وضرب مصر لا تزال تشغل بال الأوربيين.

وحين رأى الصليبيون أن السلطان العادل يفرض نوعًا من الوحدة على أبناء البيت الأيوبي، خافوا أن يعودوا إلى الموقف المرعب الذي عانوا منه كثيرًا أيام صلاح الدين الأيوبي؛ لذا بدءوا يفكرون في حملة صليبيةٍ جديدة.

وأدرك البابا والغرب الأوربي والصليبيون في الشرق أن الاستيلاء على مصر هو الخطوة المنطقية والضرورية لتأمين وجودهم في بلاد الشام، وبات غزو مصر حتميًّا لضمان استرداد ما حرَّره صلاح الدين من أراضي مملكة بيت المقدس، بل وبيت المقدس ذاته. وهكذا أخذ البابا (إنوسنت الثالث) على عاتقه مهمَّة الدعوة إلى حملة صليبية جديدة يكون هدفها مصر.

الحملة الصليبية الرابعة

وبدأت الاستعدادات لتجميع الحملة الجديدة، بَيْدَ أنَّ مشكلة نقل القوات والعتاد الصليبي الحربي إلى الشواطئ المصرية فرضت على قادة الصليبيين أن يدخلوا في مفاوضات مع جمهورية البندقية التجارية التي كانت تملك أقوى وأكبر الأساطيل العاملة في البحر المتوسط، وتمت المفاوضات، وتوجهت جيوش الصليبيين إلى البندقية لكي تنقلهم سفنها إلى شواطئ مصر، كان ذلك سنة 597هـ/ 1201م، لكن البندقية -التي كانت لها مصالح تجارية مع مصر- رأت أن تحوِّل اتجاه القوات إلى جهة أخرى. وفي أغسطس 1202م وصل إلى البندقية القائد الأعلى للصليبيين بونيفاس دي مونفيرات، وتواطأ بونيفاس مع دوق البندقية على تحويل الهجوم الذي نال تأييدًا مستترًا من بابا الفاتيكان الذي كان يشعر بالكراهية الشديدة للكنيسة الأرثوذكسية، ويريد توحيد الكنيستين: الشرقية والغربية تحت قيادته.

الاستيلاء على القسطنطينية

في القسطنطينية واجه الصليبيون خَصْمًا ضعيفًا؛ فبيزنطة قد أرهقتها الحملات السابقة والإتاوات والضرائب المتزايدة، وتناقص واردات الدولة؛ فوصلوا إلى شواطئها في 11 من شوال 599هـ/ 23 من يونيو 1203م، وبدأت العمليات العسكرية في 23 من شوال 599هـ/ 5 من يوليو 1203م، ففرَّ إمبراطور بيزنطة ألكسيوس الثالث، واقتحم الصليبيون القسطنطينية في (10 من شعبان 600هـ/ 13 من إبريل 1204م)، وسلبوها ونهبوها، وقتلوا أهلها المسيحيين على مدى ثلاثة أيام مرعبة، ثم أرسوا بها دعائم دولة جديدة تكون بديلاً للإمبراطورية البيزنطية، وعقدوا مع حاكمها الجديد معاهدة فصَّلوا بنودها حسب أهوائهم؛ وبذلك انتهت تلك الحملة الصليبية الرابعة بعد أن نسي قادتهم هدفهم الأصلي وهو غزو مصر.

الحملة الصليبية الخامسة

تجديد الحملة على مصر

بعد سبع عشرة سنة من الحملة الرابعة قرَّر قادة أوربا أن يستدركوا ما فاتهم من الهجوم على مصر والاستيلاء عليها؛ لذا تجهَّزوا وحشدوا الحشود. وبالفعل بدأت بعض قوات الحملة الصليبية الخامسة في الوصول إلى عكا، وفي أوائل شعبان 614هـ/ نوفمبر سنة ١٢١٧م خرج الصليبيون من عكّا لكي يشنوا هجومًا مباغتًا ضد مصر في جيش ضخم لم تشهد بلاد الشام مثله منذ أيام الحملة الصليبية الثالثة، بيد أن فوضى القيادة في الجيش الصليبي الضخم جعلته عاجزًا عن القيام بأي عمليات عسكرية حقيقية، وسرعان ما عاد الجيش إلى داخل أسوار عكا لكي يظل هادئًا حتى المحرم 615هـ/ إبريل سنة ١٢١٨م حين وفدت قوات صليبية جديدة من أوربا، وقرر مجلس الحرب الصليبي الذي اجتمع في عكا مهاجمة دمياط على دلتا النيل.

معسكر الشاطئ الغربي

وعند أوائل شهر ربيع الأول 615هـ/ نهاية شهر مايو سنة 1218م وصلت القوات الصليبية قُبَالة دمياط التي كانت بها قلعة حصينة، كما كانت أهم ثاني ميناء في مصر بعد الإسكندرية، وخرج الكامل أكبر أبناء السلطان العادل وخليفته؛ للدفاع عن دمياط ضد الصليبيين الذين أقاموا معسكرهم على الشاطئ الغربي للنيل وأحاطوه بخندق يفصلهم عن عدوِّهم، ويحميهم منه. وظل الوضع متجمدًا قُرابة أربعة أشهر حتى امتلكوا برج السلسلة، ولكن القوات المصرية ظلت تقاتلهم في البر وفي فرع النيل الدمياطي، ثم توفِّي الملك العادل في جمادى الآخرة ٦١٥هـ/ سبتمبر 1218م، وغادر الكامل العادلية (بين دمياط وفارسكور على الضفة الشرقية للنيل، وأسسها العادل سنة 614هـ/ 1217م) بعدما عرف بمؤامرة انقلاب دبّرها أحد الأمراء ضده، وخشي أن يقع بين مطرقة الأمير الخائن وسندان الصليبيين، ولكنَّ ذلك الانسحاب ضعضع صفوف المسلمين؛ مما أدى لتفرُّق جموع المدافعين عن العادلية التي سقطت بأيدي القوات الصليبية في (19 من ذي القعدة 615هـ/ 5 من فبراير 1219م)، وشرع الصليبيون في محاصرة دمياط، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها.

الملك العادل يضحِّي بالأماكن المقدسة

وفي أثناء الحصار، قبل سقوط المدينة، كان السلطان الكامل قد يئس من إمكانية صمود دمياط (ويبدو أن نفاد الصبر صفة ملازمة له، كما أنه غير مهتم بالمقدسات، ويستطيع التنازل عن أي شيء بسهولة ويُسرٍ في سبيل أمانه الشخصي وأمان ملكه؛ كما سيتضح بعد ذلك)، وأرسل في نهاية شهر أكتوبر يقترح على الصليبيين الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس، وأن يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل، على أن يدفع المسلمون جزية عن الحصون التي تبقى بأيديهم22. ورغم غرابة العرض الذي قدمه الكامل ومهانته -والذي يقدم للصليبيين ما لم يحلموا به، ويسلم لهم بيت المقدس على طبق من ذهب (وهو الأمر الذي يثبت ما ذكرنا عنه)- لم يوافقوا على العرض، وفوَّتوا على أنفسهم فرصة كبيرة.

شدَّد الصليبيون الحصار حول دمياط حتى بدأت حاميتها في الانهيار، ثم سقطت المدينة بأيدي الصليبيين في (25 من شعبان 616هـ/ 5 من نوفمبر 1219م).

فيضان النيل وفشل الحملة الخامسة

جمّد الصليبيون نشاطهم في دمياط على مدى ثمانية عشر شهرًا كاملة، وعندما وصلت قوات إضافية من أوربا وعكا بدءوا يزحفون جنوبًا حتى مدينة فارسكور في منتصف شهر يوليو سنة ١٢٢١م، وهذا هو وقت فيضان النيل السنوي الذي يشتد في شهر أغسطس، وعبرت قوات الجيش المصري لكي تحاصر الصليبيين قرب المنزلة، ثم بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور فأغرقت كل الطرق أمام الجيش الصليبي المحاصر، وعلى صفحة النهر كانت سفن البحرية المصرية تستولي على عدد من سفن العدو ومعداته، وتقتل وتأسر بحّارته. وهكذا غرقت أحلام الصليبيين بالاستيلاء على مصر في أوحال الدلتا، وتحدد مصير الحملة الخامسة بشكل نهائي. وفي التاسع من شهر رجب سنة ٦١٨هـ/ سبتمبر ١٢٢١م دخلت القوات المصرية دمياط التي كان الصليبيون قد حصَّنوها جيدًا23.

كانت نتائج الحملة الخامسة مؤلمة لأوربا كلها، وبدا أنهم يريدون الانتقام لما حدث، ويبحثون عن تعويض

البوسنة والهرسك الحرب الصليبية الجديدة ضد المسلمين 2024.

بسم الله الرحمان الرّحيم

الجيريا

عنوان الكتاب: البوسنة والهرسك الحرب الصليبية الجديدة ضد المسلمين، ومعه ملحق البوسة والهرسك أمة تذبح وشعب يباد

المؤلف: دار الدعوة

حمّل الكتاب على هذا الرابـــــــــــــــــــــــط

بارك الله فيك

جزاكَ الله خيراً أخي الكريم عن هذا الطرح القيم والنافع والمفيد ..

موضوع في القمة بارك الله فيك

جزاكم الله خيرا

موضوع في القمة جزاكم الله خير