شكوى الإمامين : ابن بطة و الشاطبي رحمهما الله من أهل زمانهم ! 2024.

إن الحمد لله نحمده و نستعين به و نستغفره
و نصلّي و نسلّم على محمّد و آله ..

أما بعد فقد قال العلامة المحدّث مقبل بن هادي الوادعي رحمة الله عليه :

والدعاة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبتلون بالاتّهامات إذا خالفوا
الناس وابتغوا الدليل، وإليك ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله في ((الاعتصام)) متوجعًا من أهل عصره،
بسبب مخالفته الناس فيما يراه حقًا. قال رحمه الله (ج1 ص27):

وربما ألمُّوا في تقبيح ما وجهتُ إليه وجهتي بما تشمئزُ منهُ القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق
الخارجة عن السنة، شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.

فتارةً نسبت إلى القول بأنَّ الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه: كما يُعزَّي إلي بعض الناس؛ بسبب أنَّي لم ألتزم
الدعاء بهيئةِ الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة، وللسلف
الصا لح والعلماء،

وتارةً نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم– بسببِ أنَّي لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم
في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأنِ السلف في خطبهم، ولا ذكرهُ أحدُ من العلماء المعتبرين
في أجزاءِ الخطب. وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: [هو بدعة، ولا ينبغي العمل
به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة]. قيل له: فدعاؤهُ للغزاة والمرابطين؟
قال: [ما أرى به بأساً عند الحاجة إليه، وأمَّا أن يكون شيئاً يصمدُ له في خطبته دائماً، فإني أكره ذلك].
ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام على أنَّ الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.

وتارةً أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلاَّ من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها
محدث لم يكن عليه من تقدم،

وتارةً حمل علي التزام الحرج والتنطع في الدين،وإنَّما حملهم على ذلك أنَّي التزمتُ في التكليف والفتيا
الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه،
وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسطٌ
في كتاب " الموافقات".

وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله؛ وسبب ذلك أنَّي عاديتُ بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة،
المنتصبين- بزعمهم- لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملةٍ من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم
إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم،

وتارةً نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أنَّ الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية
– ما عليه العموم، ولم يعلموا أنَّ الجماعة ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه والتابعون
لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال.

فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة، الحافظ مع أهل زمانه؛ إذ حكى عن نفسه فقال
[عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين،والعارفين والمنكرين، فإنِّي
وجدتُ بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً، دعاني إلى متابعتهِ
على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له،

فإن كنتُ صدقته فيما يقول، وأجزتُ له ذلك- كما يفعله أهل هذا الزمان– سماني موافقاً،

وإن وقفتُ في حرفٍ من قوله، وفي شيءٍ من فعله؛ سماني مخالفاً،

وإن ذكرتُ في واحدٍ منها أنَّ الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد؛ سماني خارجياً،

وإن قُرئ عليَّ حديثٌ في التوحيد سمَّاني مُشبهاً،

وإن كان في الرؤيةِ سمَّاني سالمياً.

وإن كان في الإيمان؛ سماني مرجئاً،

وإن كان في الأعمال؛ سماني قدرياً،

وإن كان في المعرفة سماني كرامياً،

وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر؛ سماني ناصبياً،

وإن كان في فضائل أهل البيت؛ سماني رافضياً.

وإن سكت عن تفسير آية أو حديث، فلم أجب فيهما إلاَّ بهما؛ سمَّاني ظاهرياً،

وإن أجبت بغيرهما؛ سمَّاني باطنياً،

وإن أجبتُ بتأويل سمَّاني أشعرياً،

وإن جحدتُهما سمَّاني معتزلياً.

وإن كان في السنن مثل القراءةِ سمَّاني شافعياً،

وإن كان في القنوت سمَّاني حنفياً.

وإن كان في القرآن سمَّاني حنبلياً،

وإن ذكرت رجحان ما ذهبَ كل واحدٍ منهم إليه من الأخبار- إذ ليس في الحكم والحديث
مُحاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.

ثم أعجبُ من ذلك أنَّهم يُسمُونني فيما يقرؤون عليَّ من أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم –
ما يشتهون من هذه الأسامي؛
ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا
عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو
وهو الغفور الرحيم

ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا
عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو
وهو الغفور الرحيم

تقبل الله منك و جزاك خيرا
و جعلك في هذا المنتدى مفتاحا للخير
مغلاقا للشر
ورزقنا الله و إياك الاخلاص
في الاقوال والاعمال
حفظك الله بما يحفظ به عباده الصالحين

بارك الله فيك
كلام قيم
يحكي حالنا فعلا

اقتباس:
ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا
عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو

تقبل الله منك و جزاك خيرا

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فتحون الجيريا
ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا
عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو
وهو الغفور الرحيم

تقبل الله منك و جزاك خيرا
و جعلك في هذا المنتدى مفتاحا للخير
مغلاقا للشر
ورزقنا الله و إياك الاخلاص
في الاقوال والاعمال
حفظك الله بما يحفظ به عباده الصالحين

جزاك الله خيرا أخي الكريم ..
أسأل الله أن يوفقنا و إياك لكلّ خير …

لاحظوا أن هذا كله من أجل ابتغاء الدليل كما قال المحدث الوادعي رحمه الله.

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوإبراهيم الجيريا
لاحظوا أن هذا كله من أجل ابتغاء الدليل كما قال المحدث الوادعي رحمه الله.

اصبت وصدقت بارك الله فيك

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة benhebba الجيريا
تقبل الله منك و جزاك خيرا
آمين ، جزاك الله خيرا …

الجيريا

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوإبراهيم الجيريا
لاحظوا أن هذا كله من أجل ابتغاء الدليل كما قال المحدث الوادعي رحمه الله.
رحم الله الإمام الوادعي رحمة واسعة ..

جزاك الله خير
وجعلها في ميزان حسناتك
أثابك الله وسلمت اناملك
ودام نبض عطائك وتميزك
الله يعطيك العافية

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة newfel.. الجيريا
الجيريا
و فيك بارك الله ..

بارك الله فيك
أخي المحترم علي الجزائري
وجزاك خيرا
وادخلك جنة الفردوس من غير حساب ولاعذاب

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة علي الجزائري الجيريا
إن الحمد لله نحمده و نستعين به و نستغفره
و نصلّي و نسلّم على محمّد و آله ..

أما بعد فقد قال العلامة المحدّث مقبل بن هادي الوادعي رحمة الله عليه :

والدعاة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبتلون بالاتّهامات إذا خالفوا
الناس وابتغوا الدليل، وإليك ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله في ((الاعتصام)) متوجعًا من أهل عصره،
بسبب مخالفته الناس فيما يراه حقًا. قال رحمه الله (ج1 ص27):

وربما ألمُّوا في تقبيح ما وجهتُ إليه وجهتي بما تشمئزُ منهُ القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق
الخارجة عن السنة، شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.

فتارةً نسبت إلى القول بأنَّ الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه: كما يُعزَّي إلي بعض الناس؛ بسبب أنَّي لم ألتزم
الدعاء بهيئةِ الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة، وللسلف
الصا لح والعلماء،

وتارةً نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم– بسببِ أنَّي لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم
في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأنِ السلف في خطبهم، ولا ذكرهُ أحدُ من العلماء المعتبرين
في أجزاءِ الخطب. وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: [هو بدعة، ولا ينبغي العمل
به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة]. قيل له: فدعاؤهُ للغزاة والمرابطين؟
قال: [ما أرى به بأساً عند الحاجة إليه، وأمَّا أن يكون شيئاً يصمدُ له في خطبته دائماً، فإني أكره ذلك].
ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام على أنَّ الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.

وتارةً أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلاَّ من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها
محدث لم يكن عليه من تقدم،

وتارةً حمل علي التزام الحرج والتنطع في الدين،وإنَّما حملهم على ذلك أنَّي التزمتُ في التكليف والفتيا
الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه،
وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسطٌ
في كتاب " الموافقات".

وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله؛ وسبب ذلك أنَّي عاديتُ بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة،
المنتصبين- بزعمهم- لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملةٍ من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم
إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم،

وتارةً نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أنَّ الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية
– ما عليه العموم، ولم يعلموا أنَّ الجماعة ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه والتابعون
لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال.

فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة، الحافظ مع أهل زمانه؛ إذ حكى عن نفسه فقال
[عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين،والعارفين والمنكرين، فإنِّي
وجدتُ بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً، دعاني إلى متابعتهِ
على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له،

فإن كنتُ صدقته فيما يقول، وأجزتُ له ذلك- كما يفعله أهل هذا الزمان– سماني موافقاً،

وإن وقفتُ في حرفٍ من قوله، وفي شيءٍ من فعله؛ سماني مخالفاً،

وإن ذكرتُ في واحدٍ منها أنَّ الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد؛ سماني خارجياً،

وإن قُرئ عليَّ حديثٌ في التوحيد سمَّاني مُشبهاً،

وإن كان في الرؤيةِ سمَّاني سالمياً.

وإن كان في الإيمان؛ سماني مرجئاً،

وإن كان في الأعمال؛ سماني قدرياً،

وإن كان في المعرفة سماني كرامياً،

وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر؛ سماني ناصبياً،

وإن كان في فضائل أهل البيت؛ سماني رافضياً.

وإن سكت عن تفسير آية أو حديث، فلم أجب فيهما إلاَّ بهما؛ سمَّاني ظاهرياً،

وإن أجبت بغيرهما؛ سمَّاني باطنياً،

وإن أجبتُ بتأويل سمَّاني أشعرياً،

وإن جحدتُهما سمَّاني معتزلياً.

وإن كان في السنن مثل القراءةِ سمَّاني شافعياً،

وإن كان في القنوت سمَّاني حنفياً.

وإن كان في القرآن سمَّاني حنبلياً،

وإن ذكرت رجحان ما ذهبَ كل واحدٍ منهم إليه من الأخبار- إذ ليس في الحكم والحديث
مُحاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.

ثم أعجبُ من ذلك أنَّهم يُسمُونني فيما يقرؤون عليَّ من أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم –
ما يشتهون من هذه الأسامي؛
ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا
عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو
وهو الغفور الرحيم

بارك الله فيك على الموضوع القيم
حقا ان اهل السنة غرباء حتي بين أهليهم…
ولهم البشرى………………..طوبى للغرباء.ٌ

باااااااااااارك الله فيك

هل كل صاحب بدعة لا يوفق للتوبة تحرير الشاطبي رحمه الله تعالى للمسألة . 2024.

قال الشاطبي-رحمه الله تعالى- في "الاعتصام" :
((المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة والسلام : "أنه سيخرج من أمتي…" أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين:
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكَلَب بصاحبه فلا يرجع أبداً عن هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة، ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :
"يمرقون من الدين… ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه" وقوله : "إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة" ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء ، فأغفل ما يكون قد هاج .
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل يجوز ذلك، والشرع إن جاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عادياً ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا انحتام الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهما ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا حصل تخصيص العموم بمفرد لم يبق اللفظ عاماً وحصل الانقسام .
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها.
ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا تبين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى، استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام .
وذلك بأن يكون في الفرقة الواحدة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج، بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .
، ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه مذهب الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه.
وعلى ذلك نقول :
إن من خرج عن الفرق ببدعة وإن كانت جزئية، فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبّه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعةً من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغه ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أحد أمرين :
إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ،أو لا ينتصب للدعاء إليها.
ووجه ذلك: أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغاً عظيماً ، بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصرَه وأصمت سمعه،واستولت على كليته، وهي غاية المحبة .
ومن أحب شيئاً هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكته اهتدى إليها، فهي مدخرة في خزانة حفظه، يحكم بها على من وافق أو خالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة الإنكار ، أو القيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره،لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في "العواصم" قال : "أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم : فرأيت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد! قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها، ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدارئة فسكنوا ثورانهم" .
فهذا أيضاً من قبيل من أشرب قلبه حب البدعة، حتى أداهم ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ، حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعد من ذلك الحزب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك، فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أعينهم حَمَلة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها أن يناصب هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه، كالمثال في الحديث ، وكم من أهل البدع لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جداً ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهاراً كما فعل غيرهم ، ومنهم من يُعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق))اهـ . __________________

منقول من اهل الحديث

نفع الله بكم
وقد جاء في الآثار عن بعض السلف قولهم: (إن البدعة لا يُتاب منها)
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في شرحه لمعنى هذه العبارة:
(قال أئمة الإسلام ، كسفيان الثوري وغيره ‏: "‏إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها".‏
ومعنى قولهم‏ :‏ "إن البدعة لا يتاب منها‏": أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‏ .‏
فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب‏، ‏ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى – سبحانه وتعالى – من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى :{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏} ‏[‏محمد ‏:‏ 17‏]‏
وقال تعالى‏ :{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏.‏ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا‏.‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏ :‏ 66ـ 68‏]‏
وقال تعالى ‏:‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد ‏:‏ 28‏]‏
وقال تعالى‏ :{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏ :‏ 257‏]‏
وقال تعالى‏ :‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏.‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏ :‏ 15، 16‏]‏‏‏ وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‏).‏ أهـ

‏‏‏‏
" مجموع الفتاوى " مجلد " الآداب والتصوف " بعنوان :" كلمات في أعمال القلوب "

تأصيل هامّ حول حكم الذكر بصوت واحد و الغناء و الإنشاد للإمام الشاطبي رحمه الله تعالى !! 2024.

السلام عليكم و رحمة الله .
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده

أما بعد : لقد خصّص الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيّم الإعتصام فصلا مطوّلا
فيه تأصيل رائع لمسائل هامّة كمسألة الذكر الجماعي و مسألة الأناشيد و الغناء و نحو ذلك
فقال رحمه الله تعالى :

[فَصْلٌ الِاجْتِمَاعُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَالْأَخْذُ بِالذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ]
فَصْلٌ
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بِفَصْلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَغَيْرِهَا فِي مَعْنَاهَا،
وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخْرَى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ
طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يَتَسَمَّوْنَ بِالْفُقَرَاءِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي،
وَيَأْخُذُونَ فِي الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الْغَنَاءِ وَالرَّقْصِ إِلَى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ الْمُتَسَمِّينَ
بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ؛ هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا؟

فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقَةَ أَصْحَابِهِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَنَفَعَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْجَوَابَ وَصَلَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَقَامَتْ عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ وَانْقِطَاعَ أَكْلِهِمْ بِهَا،
فَأَرَادُوا الِانْتِصَارَ لِأَنْفُسِهِمْ، بَعْدَ أَنْ رَامُوا ذَلِكَ بِالِانْتِسَابِ بِالسُّنَّةِ إِلَى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ وَاشْتُهِرَتْ
فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ؛
فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ،
وَأَكْلِ الْحَلَالِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَلَا يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ.

وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ شُيُوخِ الْوَقْتِ فِي مَسْأَلَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ، لَكِنْ حَسَّنَ ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ
بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْمُتَأَمِّلِ، فَأَجَابَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا؛ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ
مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ.
وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ؛ أَرْسَلَ بِهِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَأَتَى بِهِ، فَرَحَلَ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ
أَنَّ بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وَأَنَّهُ طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فَدُعِيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:
(إِنَّ) هَذِهِ حُجَّتِي، وَأَلْقَى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وَكَانَ هُوَ وَمُحِبُّهُ وَأَشْيَاعُهُ يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا.
فَوَصَلَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَطُلِبَ مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا؛ إِلَّا أَنْ يُظْهِرَ
وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.

وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ الْبَحْرِ فِي اللَّيَالِي
الْفَاضِلَةِ، يَقْرَؤُنَ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمْكَنَ فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ
التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قَوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ
مَا تَتُوقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ
وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْتَهِلُونَ بِالْأَدْعِيَةِ إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِإِمَامِهِمْ،
وَيَفْتَرِقُونَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ؟ أَمْ يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ الْمُحِبِّينَ إِلَى مَنْزِلِهِ
بِقَصْدِ التَّبَرُّكِ؛ هَلْ يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ بِمَا مَحْصُولُهُ:
(( مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْإِنْشَادَاتُ الشِّعْرِيَّةُ؛ فَإِنَّمَا الشِّعْرُ كَلَامٌ؛ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شُعَرَاءِ الْإِسْلَامِ:
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227]، وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ،
وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]؛ بَكَوْا عِنْدَ سَمَاعِهَا، فَنَزَلَ الِاسْتِثْنَاءُ،
وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَقَّتْ نَفْسُهُ الْكَرِيمَةُ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لِأَبْيَاتِ أُخْتِ النَّضْرِ؛
لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَأَمَّا التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ رَقْدُ النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ فَيَتَأَثَّرُ الظَّاهِرُ بِتَأَثُّرِ الْبَاطِنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]؛ أَيِ: اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَوْ رَهَبًا، وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ؛
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] الْآيَةَ، وَقَالَ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات: 50].
فَإِنَّمَا التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَهَذَا هُوَ التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يُسْمَعُ فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ،
وَذَكَرَ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَرَكَةِ الْوَجْدِ فِي وَقْتِ السَّمَاعِ، (وَهِيَ): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا
فَقَالُوا رَبُّنَا}
[الكهف: 14] الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُلُوبَ مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا أَنْوَارُ الْأَذْكَارِ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا
مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ.
وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لَا عَنْ وَجْدٍ، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمِّ؛ لِمُخَالَفَةِ مَا ظَهَرَ لِمَا بَطَنَ، وَقَدْ يَعْزُبُ فِيهِ الْأَمْرُ عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ
الْعَزَائِمِ وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا؛ فَتَبَاكُوا».وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ.
فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، انْتَهَى مَا قَيَّدَهُ. ))

فَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْجَوَابِ:
أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ الصَّحِيحِ إِذَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ
لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جَاءَ
فِي مِثْلِهَا مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ
فِيمَنْ عِنْدَهُ»
، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ؛ فَإِنَّهُ اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ؛
إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ»
. . . . الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَوِ التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ ـ إِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ ـ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِلَيْهِ
مُتَعَلِّمُونَ، أَوِ اجْتَمَعُوا يُذَكِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ،
وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا جَاءَ.
كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ: " أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ وَيُحَدِّثُ
هَذَا بِمَا سَمِعَ وَهَذَا بِمَا سَمِعَ، فَأَمَّا أَنْ يُجْلِسُوا خَطِيبًا؛ فَلَا ".

وَكَالَّذِي نَرَاهُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ،
أَوْ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِاللَّهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ
الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، وَيَتَجَنَّبُوا مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا.

فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَهَا اللَّهُ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ
التَّصَوُّفِ.
فَقَلَّمَا تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَعَبَّدُ،
وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي، أَوْ يَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا
الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ؟!.
فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمْثَالِهِمْ، وَأَخَذُوا يَقْرَؤُنَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا
عَلَى آرَائِهِمْ لَا عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا، فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ
إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا
مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ طَيِّبَ النَّغْمَةِ جَيِّدَ التَّلْحِينِ تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الْغَنَاءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَذْكُرُ اللَّهَ،
فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ؛ يُمْشُونَ ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ
الْغِنَاءَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا.
وَكَذَبُوا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا؛ لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَوْلَى بِإِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَّا؛ فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ
أَوْ فِي السُّنَّةِ الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ عَالِيًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]؟!.
وَالْمُعْتَدُونَ – فِي التَّفْسِيرِ – هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى؛ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ»،
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ؛
لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ، وَجَاءَ
عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ الْمُتَّخَذَةِ لِذَلِكَ، وَهِيَ الرُّبْطُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالصُّفَّةِ. ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُمَا
مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ حَسَّنُوا الظَّنَّ بِأَنَّهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ (مُصِيبُونَ)، وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهْلِ الْعَمَلِ الرَّاجِحِ
الصَّرِيحِ وَأَهْلِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ؛ أَخَذُوا كَلَامَ الْمُجِيبِ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ، وَقَوَّلُوهُ مَا لَا يَرْضَى
بِهِ الْعُلَمَاءُ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذْ سُئِلَ عَنْ ذِكْرِ فُقَرَاءِ زَمَانِنَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛
أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّمُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تَعْمُرُ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛
كَمَجَالِسِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَضْرَابِهِمْ.
أَمَّا مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحِينَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَهْرًا بِالْكَلِمَاتِ،
وَلَا رَفْعَ أَصْوَاتٍ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ الْمَشْرُوعَ إِعْلَانُ الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وَأَتَى بِالْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] وَبِحَدِيثِ: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ».
قَالَ: وَفُقَرَاءُ الْوَقْتِ قَدْ تَخَيَّرُوا أَوْقَاتًا وَتَمَيَّزُوا بِأَصْوَاتٍ هِيَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الِاقْتِدَاءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ
إِلَى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً.
انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكْثَرِ الشَّوَاهِدِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ؛
فَإِنَّهُ سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فُقَرَاءِ الْوَقْتِ، فَأَجَابَ بِذَمِّهِمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ،
وَفِي الْأُولَى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا
فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ؛ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ الْمُعَلِّمِينَ
وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسَعُهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ؛ بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ (الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ).

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِنْشَادَاتِ الشِّعْرِيَّةِ؛ فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ وَلَا يُذَكِّرُ بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ
مِنْ غَيْرِهِ إِذَا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ وَيُسْمَعُ لِفَوَائِدَ:
مِنْهَا: الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ «كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَدْ نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذَا وَفَدَتِ الْوُفُودُ، حَتَّى يَقُولُوا: خَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ
مِنْ شَاعِرِنَا، وَيَقُولُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ»
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ فَضْلِهِ
فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الْأَبْيَاتِ بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَأُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ وَمِثْلُ مَا يَفْعَلُ الشُّعَرَاءُ مَعَ الْكُبَرَاءِ؛ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ،
وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ لِلْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ قِطَعًا مِنْ أَشْعَارِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَاتِهِمْ؛ كَمَا
يَفْعَلُهُ فَقُرَاءُ الْوَقْتِ الْمُجَرَّدُونَ لِلسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ،
وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»
، فَإِنَّهُمْ يُنْشِدُونَ الْأَشْعَارَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ رَسُولِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا،
وَيَتَمَنْدَلُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آلَةَ الْأَخْذِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ،
لَكِنْ بِأَصْوَاتٍ مُطْرِبَةٍ؛ يُخَافُ بِسَبَبِهَا عَلَى النِّسَاءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْشَدُوا الشِّعْرَ فِي الْأَسْفَارِ الْجِهَادِيَّةِ؛ تَنْشِيطًا لَكِلَالِ النُّفُوسِ، وَتَنْبِيهًا لِلرَّوَاحِلِ أَنْ تَنْهَضَ فِي أَثْقَالِهَا،
وَهَذَا حَسَنٌ.
لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَاتِ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ
أَنَّ يَتَعَلَّمُوا هَذِهِ التَّرْجِيعَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يُرَقِّقُونَ الصَّوْتَ وَيَمُطِّطُونَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِأُمِّيَّةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ
لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلْذَاذٌ وَلَا إِطْرَابٌ يُلْهِي، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ النَّشَاطِ؛
كَمَا
«كَانَ الْحَبَشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ عِنْدَ
حَفْرِ الْخَنْدَقِ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا … عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
فَيُجِيبُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِقَوْلِهِ):
اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ. فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ».
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَوِ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ؛
لِيَعِظَ نَفْسَهُ أَوْ يُنَشِّطَهَا أَوْ يُحَرِّكَهَا لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَوْ يَذَكِّرَهَا ذِكْرًا مُطْلَقًا:
كَمَا حَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الصُّوفِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ لَنَا إِمَامًا إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تَغَنَّى، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟ فَذُكِرَ لَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّا
إِنْ وَجَّهْنَا إِلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّا تَجَسَّسْنَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ. قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى أَتَوُا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ إِلَى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا حَاجَتُكَ؟
وَمَا جَاءَ بِكَ؟ إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا؛ كُنَّا أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَنْ نَأْتِيَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ؛ فَأَحَقُّ مَنْ عَظَّمْنَاهُ خَلِيفَةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ! بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ سَاءَنِي، قَالَ: وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهَا عِظَةٌ أَعِظُ بِهَا نَفْسِي. قَالَ عُمَرُ: قُلْهَا، فَإِنْ كَانَ كَلَامًا
حَسَنًا قُلْتُهُ مَعَكَ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ:

وَفُؤَادٍ كُلَّمَا عَاتَبْتُهُ … فِي مَدَى الْهِجْرَانِ يَبْغِي تَعَبِي
لَا أَرَاهُ الدَّهْرَ إِلَّا لَاهِيًا … فِي تَمَادِيهِ فَقَدْ بَرَّحَ بِي
يَا قَرِينَ السُّوءِ مَا هَذَا الصِّبَا … فَنِيَ الْعُمْرُ كَذَا فِي اللَّعِبِ
وَشَبَابٌ بَانَ عَنِّي فَمَضَى … قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي
مَا أُرَجِّي بَعْدَهُ إِلَّا الْفَنَا … ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَطْلَبِي
وَيْحَ نَفْسِي لَا أَرَاهَا أَبَدًا … فِي جَمِيلٍ لَا وَلَا فِي أَدَبِ
نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى … رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى … رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: " عَلَى هَذَا فَلْيُغَنِّ مَنْ غَنَّى ".
فَتَأَمَّلُوا قَوْلَهُ: " بَلَغَنِي أَمْرٌ سَاءَنِي "، مَعَ قَوْلِهِ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؛ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِي الْإِنْكَارِ، حَتَّى
أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرَدِّدُ لِسَانُهُ أَبْيَاتَ حِكْمَةٍ فِيهَا عِظَةٌ، فَحِينَئِذٍ أَقَرَّهُ وَسَلَّمَ لَهُ.
هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مُجَرَّدِ الشِّعْرِ،
بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الْأَشْعَارِ الْمُغَنِّينَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ،
وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغِنَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزَمَانِنَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ فَقَالَ: " إِنَّ الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنُونَ
الْأَشْعَارَ وَلَا يُنَغِّمُونَهَا بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَمِ؛ إِلَّا مِنْ وَجْهِ إِرْسَالِ الشِّعْرِ وَاتِّصَالِ الْقَوَافِي، فَإِنْ كَانَ صَوْتُ
أَحَدِهِمْ أَشْجَنَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا يَتَصَنَّعُونَ وَلَا يَتَكَلَّفُونَ ".

هَذَا مَا قَالَ، فَلِذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ، وَحَتَّى سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْغِنَاءِ
الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ ".
وَلَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَيْضًا يَعُدُّونَ الْغِنَاءَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّعَبُّدِ وَطَلَبِ رِقَّةِ النُّفُوسِ وَخُشُوعِ الْقُلُوبِ،
حَتَّى يَقْصِدُونَهُ قَصْدًا، وَيَتَعَمَّدُوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ
فَيَجْتَمِعُوا لِأَجَلِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ وَالشَّطْحِ وَالرَّقْصِ وَالتَّغَاشِي
وَالصِّيَاحِ وَضَرْبِ الْأَقْدَامِ عَلَى وَزْنِ إِيقَاعِ الْكَفِّ أَوِ الْآلَاتِ وَمُوَافَقَةِ النَّغَمَاتِ.
هَلْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَنْهُ وَعَمَلِهِ الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ [فِي]
ذَلِكَ أَثَرٌ؟ أَوْ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا؟!
بَلْ سُئِلَ عَنْ إِنْشَادِ الْأَشْعَارِ بِالصَّوَامِعِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأَسْحَارِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ
مُضَافَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وَإِنْشَادَ (الشِّعْرِ) وَالْقَصَائِدِ بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ
السَّلَفِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ.

كَمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ أَمَامَ الْجِنَازَةِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ الصَّمْتُ وَالتَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ،
وَأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، وَاتِّبَاعُهُمْ سُنَّةٌ، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ
عَلَيْهِ أَوَّلُهَا.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ مِنْ أَنَّهُ أَثَرُ رِقَّةِ النَّفْسِ وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْأَثَرَ مَا هُوَ؛
كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى الرِّقَّةِ، وَلَا عَرَجَ عَلَيْهَا بِتَفْسِيرٍ يُرْشِدُ إِلَى فَهْمِ التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنَّمَا فِي كَلَامِهِ أَنَّ ثَمَّ
أَثَرًا ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ الْمُتَوَاجِدِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، ثُمَّ التَّوَاجُدُ (يَحْتَاجُ) إِلَى شَرْحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ
مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُدِ مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْبُكَاءُ وَاقْشِعْرَارُ
الْجِلْدِ التَّابِعِ لِلْخَوْفِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
[الزمر: 23].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].
وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، إِلَى قَوْلِهِ:
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَيْرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: " «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ
أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ»
(يَعْنِي: مِنَ الْبُكَاءِ) وَالْأَزِيزُ صَوْتٌ يُشْبِهُ (صَوْتَ) غَلَيَانِ الْقِدْرِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ – مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 – 8]، فَرَبَى
لَهَا رَبْوَةٌ عِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: " صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ،
فَقَرَأَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]؛ بَكَى حَتَّى انْقَطَعَ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: " لِمَا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]؛ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ
مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ.
وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ؛ قَالَ: " لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا ".

وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: " أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، فَسَجَدَ بِهَا،
فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ قَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[الكهف: 14]؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فَتَحَرَّكَتْ فَأْرَةٌ أَوْ هِرَّةٌ خَافَ لِأَجْلِهَا
الْمَلِكُ، فَنَظَرَ الْفِتْيَةُ إِلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَامُوا مُصَرِّحِينَ بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِينَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ
عَلَى الْمَلِكِ نِحْلَةَ الْكُفْرِ، بَاذِلِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَأَوْعَدَهُمْ ثُمَّ أَخْلَفَهُمْ، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ. . .
إِلَى أَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِيَاحٌ وَلَا شَطْحٌ وَلَا تَغَاشٌ مُسْتَعْمَلٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شَأْنُ فُقَرَائِنَا الْيَوْمَ.
وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ قَالَ: " قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ: كَيْفَ كَانَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ: تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ
جُلُودُهُمْ.
قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَأْخُذُهُمْ عَلَيْهِ غَشْيَةٌ. فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ".
وَخَرَّجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي حَازِمٍ؛ قَالَ: " مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَرُ؛ خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ
وَلَا نَسْقُطُ!
وَهَذَا إِنْكَارٌ.
وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: " إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَنْزِفَ عَنْهُ
عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
[الزمر: 23].

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيَصْعَقُونَ؟ فَقَالَ: " ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ "!.
وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ) ابْنَ الزُّبَيْرِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) قَالَ: " جِئْتُ أَبِي، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟،
فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيَرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ:
لَا تَقْعُدْ بَعْدَهَا. فَرَآنِي كَأَنِّي لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ
أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟! فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَرَكْتُهُمْ ".

وَهَذَا يَشْعُرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَعَمُّلٌ وَتَكَلُّفٌ لَا يَرْضَى بِهِ أَهْلُ الدِّينِ.
وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنِ الرَّجُلِ يُقَرَأُ عِنْدَهُ فَيَصْعَقُ؟، فَقَالَ: " مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ؛ فَهُوَ كَمَا قَالَ ".
وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ فِي الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ الْقِحَّةِ فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا هُوَ
وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فَإِنَّ مَبْنَاهُمْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْأَدَبِ
وَالْمُرُوءَةِ.
نَعَمْ؛ قَدْ (لَا) يُنْكِرُ اتِّفَاقُ الْغَشْيِ وَنَحْوِهِ أَوِ الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بِحَقٍّ، فَضَعُفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا،
فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْقِحَّةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقُوطِ (مِنَ الْحَائِطِ)،
فَقَدِ اتَّفَقَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ النَّوَادِرِ، وَظَهَرَ فِيهَا عُذْرُ التَّوَاجُدِ.
فَحُكِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ؛ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّادٍ،
فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلَى حَدِيدَةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِلَيْهَا، فَتَمَايَلَ لِيَسْقُطَ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتَيْنَا
عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُونٍ، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ، قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}
[الفرقان: 12]، إِلَى قَوْلِهِ: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]، فَصَعِقَ الرَّبِيعُ؛ يَعْنِي: غُشِيَ
عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَأَتَيْنَا بِهِ أَهْلَهُ.
قَالَ: " وَرَابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ فَلَمْ يَفِقْ، فَرَابَطَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَأَفَاقَ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ ".
فَهَذِهِ حَالَاتٌ طَرَأَتْ لِوَاحِدٍ مَنْ أَفَاضِلِ التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ
بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذًا.

وَحُكِيَ أَنْ شَابًّا كَانَ يَصْحَبُ الْجُنَيْدَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إِمَامَ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ، فَكَانَ الشَّابُّ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ
يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ يَوْمًا: " إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَصْحَبْنِي "، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ
حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ (الْعَرَقُ مِنْهُ) بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ بَدَنِهِ قَطْرَةً، فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ.
فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الْأَوْلَى غَلَبَتْهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ،
وَإِنْ كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَعَلَيْهِ أَدَّبَهُ الشَّيْخُ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَوَعَدَهُ بِالْفُرْقَةِ،
إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ كَسْبِهِ ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ؛ كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا
لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَشُمُّوا مِنْ أَوْصَافِ الْفُضَلَاءِ رَائِحَةً، فَأَخَذُوا بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، فَأَبْرَزَ لَهُمْ هَوَاهُمُ التَّشَبُّهَ
بِالْخَوَارِجِ، وَيَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ
عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصِّبْيَانِ
وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي لِلْعُقَلَاءِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُتَّخَذْ مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ.

وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً؛
ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ»
. . .، الْحَدِيثَ.

فَقَالَ الْإِمَامُ الْآجُرِّيُّ الْعَالِمُ السُّنِّيُّ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): " مَيِّزُوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَرَخْنَا مِنْ مَوْعِظَةٍ،
وَلَا زَعَقْنَا، وَلَا طَرَقْنَا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنَّا، وَلَا رَقَصْنَا "
؛ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛
يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ وَيَتَغَاشَوْنَ.
قَالَ: " وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحُ النَّاسَ لِأُمَّتِهِ، وَأَرِقُّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ ـ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ
عَاقِلٌ ـ؛ مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَتِهِ وَلَا زَعَقُوا وَلَا رَقَصُوا وَلَا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا؛ لَكَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا
أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ "
. انْتَهَى كَلَامُهُ،
وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ (كُلِّهِ) الْمُوجِبِ لِلتَّأَثُّرِ الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ، فَوَجَدْنَا الْأَوَّلِينَ يَظْهَرُ
عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِسَبَبِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِ سَمَاعِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعْتِبَارِيَّةٍ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ
رُؤْيَتِهِ لِلْحَدَّادِ وَالْأَتُونِ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ، وَلِسَبَبِ قِرَاءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ ـ فِيمَا نَقَلَ الْعُلَمَاءُ ـ
يَسْتَعْمِلُونَ التَّرَنُّمَ بِالْأَشْعَارِ لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ فَتَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْقُرْآنَ
وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ، فَلَا تَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، فَإِذَا قَامَ الْمُزَمِّرُ؛ تَسَابَقُوا إِلَى حَرَكَاتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، فَبِالْحَرِيِّ
أَلَّا يَتَأَثَّرُوا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلَّا حَقًّا؛ كَمَا أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ،
فَنَقُولُ: هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ إِذَا كَانَ لَيِّنَ التُّرَابِ، وَضِدُّهُ الْغَلِيظُ، فَإِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ
إِلَى لِينِهِ وَتَأَثُّرِهِ، ضِدُّ الْقَسْوَةِ.
وَيَشْعُرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ الرَّقِيقَ؛ إِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ
الْمَوْعِظَةُ؛ خَضَعَ لَهَا وَلَانَ وَانْقَادَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
فَإِنَّ الْوَجَلَ تَأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقْشَعِرُّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ
إِذَا حَلَّ بِالْقَلْبِ ـ وَهُوَ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ ـ حَلَّ بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ ـ وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِنْسَانِ ـ؛ فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ
الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لَا الْحَرَكَةَ، وَالِانْزِعَاجَ وَالسُّكُونَ لَا الصِّيَاحَ، وَهِيَ حَالَةُ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ.
فَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً أَيَّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ؛ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنَّهَا رِقَّةٌ
هِيَ أَوَّلُ الْوَجْدِ، وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا.
وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَوْ سُنِّيَّةً أَوْ حِكْمِيَّةً؛ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، حَتَّى يَسْمَعَ شِعْرًا
مُرَنَّمًا أَوْ غِنَاءً مُطْرِبًا فَتَأَثَّرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ
أَوْ دَوَرَانٍ أَوْ شَطْحٍ أَوْ صِيَاحٍ أَوْ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَسَبَبُهُ أَنِ الَّذِي حَلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بِالرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الْغِنَاءَ؛ لِأَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْقَسْوَةِ ـ
كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ ـ كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ ـ؛ وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ
فِيهِ مَعَ الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ؛ كَالْإِبِلِ وَالنَّحْلِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْخُشُوعُ ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ
إِلَى السُّكُونِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ لُغَةً؛ كَمَا فُسِّرَ الطَّرَبُ بِأَنَّهُ خِفَّةٌ تَصْحَبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ.

قَالَ الشَّاعِرُ:
طَرَبَ الْوَالِهِ أَوْ كَالْمُخْتَبَلِ
وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ (مِنَ) الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ، وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ
يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلَى الْأَرْوَاحِ.
وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ، فَيُهَيِّجُهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا،
وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا.
فَكُلُّ تَأَثُّرٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ تَحْصُلُ عَنْهُ آثَارُ الْكَوْنِ وَالْخُضُوعِ؛ فَهُوَ رِقَّةٌ، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ
كَلَامُ الْمُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَحْمُودٌ.
وَكُلُّ تَأَثُّرٍ يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدُّ السُّكُونِ؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّةَ فِيهِ وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ.
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ – فِي الْغَالِبِ – إِلَّا الثَّانِي الْمَذْمُومَ، فَهُمْ إِذًا مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ،
لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا، فَقَدْ بَاؤُوا إِذًا بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ.
وَإِنَّمَا جَاءَهُمُ الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ الْمَنَاطَيْنِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}
[الذاريات: 50]، وَقَوْلُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18]؛ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
(تَعَالَى): {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} [الكهف: 14]؛ أَيْنَ فِيهِ أَنَّهُمْ قَامُوا يَرْقُصُونَ أَوْ يَزْفِنُونَ أَوْ يَدُورُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ؟
وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الْجَوَابِ.
وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّرٍ، [فَـ] فَهِمَ مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنَّهُ الْغِنَاءُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ شِيعَتُهُ،
وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفَادَ حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا الْقَلْبُ،
وَيَلِينُ لَهَا الْجِلْدُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَاجَدُونَ عِنْدَهُ التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ
وَكَلَامُ الْحُكَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ حَتَّى أَصْوَاتُ الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الْمَاءِ وَصَرِيرُ الْبَابِ، وَمِنْهُ سَمَاعُ الْمَنْظُورِ أَيْضًا إِذَا أَعْطَى حِكْمَةً،
وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الْأَخِيرَ إِلَّا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْذَاذِ وَالْإِطْرَابِ،
وَلَا هُمْ مِمَّنْ يَدُومُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُنَيْدُ: " إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنَ الْبِطَالَةِ ".
وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ ـ إِنِ اتَّفَقَ ـ وَجْهُ الْحِكْمَةِ ـ إِنْ كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ ـ، فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْمُ وَالنَّثْرُ، وَإِنْ أَطْلَقَ أَحَدٌ
مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَمِنْ حَيْثُ فَهِمَ الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاعَ؛
لِأَنَّ مَنْ سَمْعِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ؛ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَاعُ الْمُلِذُّ الْمُطْرِبُ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ:
مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ ادَّعَى السَّمَاعَ وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ الطَّيْرِ وَصَرِيرَ الْبَابِ وَتَصْفِيقَ الرِّيَاحِ؛
فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ ".

وَقَالَ الْحُصَرِيٌّ: " أَيْشٍ أَعْمَلُ بِسَمَاعٍ يَنْقَطِعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ".
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ؛ قَالَ: " خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ سِنِينَ، فَمَا رَأَيْتُهُ تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شَيْءٍ يَسْمَعُهُ
مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ، لَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ؛ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15]،
تَغَيَّرَ وَارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوِهِ؛ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَا حَبِيبِي ضَعُفْنَا ".
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: " دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكْرَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ! تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: تَقُولُ اللَّهُ، اللَّهُ.
فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الْأَشْعَارِ عَلَى غَيْرِهَا؛
فَضْلًا عَلَى أَنْ يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بِالْأَغَانِي الْمُطْرِبَةِ.
وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ، وَبَعُدُوا عَنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ أَخَذَ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ، حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ
الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الْأَلْحَانِ، فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّبَاعُ، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ ـ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ ـ؛ فَصَارَ
قَذًى فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ، فَرَجَعُوا بِهِ الْقَهْقَرَى، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ حَتَّى اعْتَقَدَهُ الْجُهَّالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَارَبَهُ أَنَّهُ
قُرْبَةٌ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَهُوَ الْأَدْهَى.

وَقَوْلُ الْمُجِيبِ: " وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ (فِي دَعْوَتِهِ) قَصْدُهُ "؛ مُطَابِقٌ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ
أَوَّلًا: بِأَنَّ مَنْ دَعَا قَوْمًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِتَعَلُّمِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَوْ مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ أَوْ فِي نِعَمِ اللَّهِ، أَوْ مُؤَانَسَةٍ فِي شِعْرٍ فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غِنَاءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زِفْنٌ
وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّكَلُّفِ وَالْمُبَاهَاةِ،
وَلَمْ يَقْصَدْ بِذَلِكَ بِدْعَةً وَلَا امْتِيَازًا؛ لِفِرْقَةٍ تَخْرُجُ بِأَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا عَنِ السُّنَّةِ؛ فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ
فِي حُكْمِ الْمَأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَالتَّوَدُّدِ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، وَهِيَ فِي حُكْمِ
الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ.

وَمِثَالُ مَا يُحْكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْفٍ؛ قَالَ: " دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! قُلْتُ:
لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْقَاضِي، قَالَ: هَاهُنَا (أَحْكِي) لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ (أَنْ) تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْقَاضِي! أَمَّا الذَّهَبُ؛
فَلَا أَجِدُهُ، وَلَكِنِّي أَكْتُبُهَا بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ.
فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ
بِالْآيِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَجْمَعُكَ مَعَهُ، فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ
وَأَصْحَابَهُ وَدَعَا أَحْمَدَ، فَجَلَسَ بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَأَحْضَرَ الطَّعَامَ،
فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ.
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيْدِيَهُمْ؛ جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا؛ فَلْيَسْأَلْ،
فَسُئِلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَعَنِ الرِّيَاءِ، وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَاسْتَشْهَدَ بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وَأَحْمَدُ يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
فَلَمَّا مَضَى هَدْيٌ مِنَ اللَّيْلِ؛ أَمْرَ الْحَارِثُ قَارِئًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَدْوِ، فَقَرَأَ، فَبَكَى بَعْضُهُمْ، وَانْتَخَبَ آخَرُونَ،
ثُمَّ سَكَتَ الْقَارِئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا؛ قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ كَانَ بَلَغَنِي أَنَّ هَاهُنَا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ؛
فَلَا أُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا.
فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ أَحْوَالَ الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا
ذِكْرُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ؛ فَهُوَ مِمَّا يُنْكَرُ.
وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ.

فَإِذًا؛ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ، إِذْ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْأَمْثِلَةُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، لَوْ تُتُبِّعَتْ؛ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً تُبَيِّنُ مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ
مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ الْعُلَمَاءُ، وَبَيَّنَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَصَرَ أَنْوَاعَهُ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى طُرُقِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّهَا سَيَّالَةٌ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَعَلَى (كُلِّ)
وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ.
فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ،
كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ عِيسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171].
وَاسْتَدَلَّ عَلَى (أَنَّ الْكَفَّارَ مِنْ) أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
[البقرة: 62]، الْآيَةَ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ
عَلَى الْعَالَمِينَ}
[البقرة: 47].
وَبَعْضُ الْحُلُولِيَّةِ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29].
وَالتَّنَاسُخِيُّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8].
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَوْ حَرَّفَ الْمَنَاطَاتِ، أَوْ حَمَّلَ الْآيَاتِ مَا لَا تَحَمَلُهُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَوْ تَمَسَّكَ
بِالْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، أَوْ أَخَذَ الْأَدِلَّةَ بِبَادِيَ الرَّأْيِ، (لَهُ) أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ
أَوْ حَدِيثٍ لَا يَفُوزُ بِذَلِكَ أَصْلًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ؛ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ
وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ؛ تَثَبَّتَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ؛ رَمَتْهُ أَيْدِي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
——————
تمّ بحمد الله .

بارك الرحمن فيك وجميل ماطرحت وجد مهم وكذالك
لانو في زمننا هاذا صرنا لانفرق بين الانشاد والغناء
تجد الموسيقى وكذالك تجد بنات وصلو لسن التحجب يرقصون وينشدون ؟
في الكثير
وماذكرت في الموضوع شكرا لك والله يرضى عنك يارب
محبة القسام

بارك الله فيك وثيت خطاك اخي الفاضل
ورحم الله الامام الشاطبي وجزاه الله خيرا على هذه الشروحات القيمة ..

جزاك الله خيرا خي
والشاطبي رحمه الله ماتر ك للقوم بما يستدلوا فقد نسف اقوالهم بحجج قوية والذي لا ياخد بها في قلبه زيغ ولايريد الحق والله المستعان
اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ..امين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وفقك الله تعالى وسدّد الله خطاك
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة *سراء* الجيريا
بارك الرحمن فيك وجميل ماطرحت وجد مهم وكذالك
لانو في زمننا هاذا صرنا لانفرق بين الانشاد والغناء
تجد الموسيقى وكذالك تجد بنات وصلو لسن التحجب يرقصون وينشدون ؟
في الكثير
وماذكرت في الموضوع شكرا لك والله يرضى عنك يارب
محبة القسام
و فيك بارك الله و رضي عنك و عن والديك ..

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جواهر الجزائرية الجيريا
بارك الله فيك وثيت خطاك اخي الفاضل
ورحم الله الامام الشاطبي وجزاه الله خيرا على هذه الشروحات القيمة ..
آمين ، و فيك بارك الله ..

السلام عليكم

بارك الله فيك على التوضيح

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة khalil83 الجيريا
جزاك الله خيرا خي
والشاطبي رحمه الله ماتر ك للقوم بما يستدلوا فقد نسف اقوالهم بحجج قوية والذي لا ياخد بها في قلبه زيغ ولايريد الحق والله المستعان
اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ..امين
آمين و إياك ..
جزاك الله خيرا أخي الكريم .

بارك الله فيكم أخي علي الجزائري وزادكم الله حرصا على خدمة الدعوة لدينه

بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا
لم اقرأ كل الموضوع، لانه طويل
سوف ارجع اليه ان شاء الله، لاني اعتقد انه جيد، و مهم

بارك الله فيك
لرفع