محمد أركون :المفكر الجزائري المجهول 2024.

الجيريا

أثناء تكريمه ومنحه جائزة ابن رشد، ألقى محمد أركون كلمة أكبر فيها من فكر ابن رشد، وموقعه في الثقافة العالمية، وتحدث عن التواصل الفكري بين الحضارات، ورفض بشدة مقولة صدام الحضارات قائلاً: «الاصطدام ليس باصطدام الحضارات كما قال أحد القائلين الذي لا أسميه باسمه لأنه أصبح نبياً لكثيرٍ من الناس الذين يستشهدون به. هناك اصطدامات بين منظومات من الجهل المؤسس. ليس هناك مجتمع، ليس هناك فكر، نظام فكري لا يستتبع في منظومته وممارسته إنتاج جهله، لا نستشعر به أنه جهل فيما ننطق به، وهذا ما يحدث في جميع المجتمعات العربية منذ خرجنا من ملامح النهضة ودخلنا في معارك الأيديولوجيا المميتة للفكر الحر».‏

يشدد محمد أركون على ضرورة عدم الفصل بين الحضارات، شرقية وغربية، ‏واحتكار الإسقاطات على إحداهما دون الأخرى، بل إمكانية فهم ‏الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب عن الأخرى. لذلك ‏كان دائما ينادي بوحدة الإنسان و»بأنسنة» المعرفة بعيداً عن كافة ‏التعصبات المذهبية والعرقية والأيديولوجية.‏

إن المشروع الفكري لأركون هو مشروع مفكر حر، لا يرى في الفلسفة إلا تقدماً، ولا حياة لأمة من دون أن يكون لديها مشروعها الفلسفي الخاص بها، والمندغم ضمن مشروع العالم. وحين يعم الجهل على أمة من الأمم، فإنها تفقد بوصلتها وتغرق في بحر من الظلام لا آخر له.‏

حاول أركون صياغة مشروع فكري خاص به، وفعلاً فقد اعترف له الكثيرون بأنه صاحب مدرسة فكرية متفردة وصاحب مشروع فكري ‏نقدي تنويري يرتكز على العقل العلمي لتجديد الفكر العربي ‏ وقراءة التراث قراءة واعية بعيدة عن الدوغمائية والجهل ‏المؤسس والأيديولوجيا ولغة الشعارات الرنانة، وتقترب من استنباط ‏الأحكام والمفاهيم الكلية والاجتهاد وتطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة ‏وآخر النظريات المكتشفة في العالم.‏ ولذلك اشتهر باستخدامه مناهج علمية عدة بينها الانثروبولوجيا التاريخية واللسانيات وأدوات قراءة التاريخ في دراسة الأديان والنصوص الدينية.‏

يرفض أركون قبول العرب للتمزق والتشتت الذي أصابهم، ويقول: «للأسف كان هذا التشتت، ‏ووضعت حدود سياسية جعلت سكان هذا الفضاء الواسع يحتاجون إلى ‏تأشيرة في تنقلهم من بلد إلى آخر. وهذه كارثة لا أقبلها شخصياً، لأنني ‏أعتبر نفسي ابن هذا الفضاء الواسع، رغم أن البعض يحاول أن ينفي عني ‏انتمائي ويقول محمد أركون ليس منا، ولكنني أحبهم وأدافع عنهم وأطلب ‏منهم أن نتحابب».‏‏

يرى أركون أن خروجنا كعرب من أزمتنا التاريخية، بحاجة إلى مرحلة تنوير تضيء تراثنا الديني بمناهج حديثة، من أجل التصالح مع الحداثة الكونية، ويقول: «لكن مشكلة النزعة الإنسانية في الفكر العربي قديمه وحديثه هي هذا الهجوم الشديد الذي يلاقيه من يحاول مس المسألة بعمق أو حتى سطحياً.. وربما يكون الأمل هو في تلك القوانين التي تحكم اتجاه حركة التاريخ..».‏

كيف يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية الخروج من مأزقها الحضاري؟ هل يجب العودة إلى التراث الفكري العربي، كما فعل الغربيون وأقاموا أعمدتهم الفكرية الحديثة على تراثهم اليوناني الفلسفي؟‏

تعاني المجتمعات العربية والإسلامية – حسب أركون – من قطيعة مع تراثها الإسلامي العريق، وقطيعة مع عصر النهضة الأوربية والحداثة. كما أنها تعاني أيضاً من قطيعة مع مرحلة ما بعد الحداثة الأوروبية. لذلك تبدو مشكلة المثقف العربي المستنير والتغييري في غاية التعقيد. ويخلص أركون إلى أن الإصلاح الآن غير ممكن باستعمال الوسائل الفكرية القديمة، وأن على حركة التنوير الإسلامية المنتظرة أن تجيب على سؤال محير: هل نحتاج إلى إصلاح المفاهيم القديمة، أم أن الحل يكون بالقطيعة معها؟‏

محمد أركون مفكر وباحث جزائري من مواليد العام 1928 في بلدة تاوريرت في تيزي وزو بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء «ولاية عين تموشنت» حيث درس الابتدائية بها. وأكمل دراسته الثانوية في وهران، وإبتدأ دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في «السوربون» في باريس. وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، كما درّس بجامعات عديدة في أوربا وأمريكا والمغرب، واهتم بدراسة وتحليل الفكر الإسلامي. وهو عضو اللجنة الوطنية لعلوم الحياة والصحة بفرنسا، وعدة لجان أخرى.‏

وترك أركون مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، ومن أهم عناوينه: ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، دراسات الفكر الإسلامي، الإسلام أمس وغداً، من اجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، الإسلام: الأخلاق والسياسة، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلام، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي.‏

توفيّ محمد أركون مساء الثلاثاء الماضي في 14-09-2016 بالعاصمة الفرنسية باريس عن عمر يناهز 82 عام بعد معاناة مع المرض. ومع أنه من بين المفكرين الكبار في العالم الغربي، إلا أن كتبه لم تنتشر بالشكل الكافي عربياً، وبقي بعيداً عن متناول القراء العرب. كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وترجمت كتبه إلى أغلب ‏لغات العالم بينها العربية؛ وهو ينتمي إلى جيل ميشيل فوكو وبيير بورديو.‏

اهتم الغربيون كثيراً بدراساته التنويرية التي تناولت الإسلام والعرب، وحضر بقوة في الدراسات الأوروبية والأمريكية، كعقل لا يمكن الاستغناء عنه أثناء دراسة التاريخ الفكري العربي والخطاب الديني. ورغم أنه لم يأخذ حقه في الدراسات العربية، إلا أنه، ومع بعض التمحيص في مؤلفاته وخاصة «الفكر العربي»، سنجد أن أركون محلل كبير لتاريخية الفكر العربي، ومفكر مستنير، يعرف نقاط الضعف والقوة في هذا الفكر، مستنداً في ذلك إلى التراث المقروء من قبله بدقة، وإلى التراث الأوروبي ودراساته المعمقة في شتى المجالات.‏

إن القراءة الدقيقة لفكر محمد أركون، لا تجعلنا بالضرورة نوافق على آرائه حول الثقافة العربية والفكر العربي، ولكنها ستدفعنا إلى إعمال الفكر في الآراء التي يطرحها، ويناور ويعمل على تبيان صدقها، مستشهداً بالتاريخ، أو بنقاط منه تؤيد أفكاره. وليس بالضرورة أيضاً أن نوافق على تحليله للأمور التي نهضت بالفكر العربي أو خلفته، أو أوقفته عن التفكير لمدد زمنية ما. إن ما يهمنا في دراسات أركون هو هذا الحيز الواسع من الجدل العقلي، الذي يفتح الباب واسعاً لخلق جدل مضاد، يطور ويغني وينير.‏

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة matrixano02 الجيريا
الجيريا

أثناء تكريمه ومنحه جائزة ابن رشد، ألقى محمد أركون كلمة أكبر فيها من فكر ابن رشد، وموقعه في الثقافة العالمية، وتحدث عن التواصل الفكري بين الحضارات، ورفض بشدة مقولة صدام الحضارات قائلاً: «الاصطدام ليس باصطدام الحضارات كما قال أحد القائلين الذي لا أسميه باسمه لأنه أصبح نبياً لكثيرٍ من الناس الذين يستشهدون به. هناك اصطدامات بين منظومات من الجهل المؤسس. ليس هناك مجتمع، ليس هناك فكر، نظام فكري لا يستتبع في منظومته وممارسته إنتاج جهله، لا نستشعر به أنه جهل فيما ننطق به، وهذا ما يحدث في جميع المجتمعات العربية منذ خرجنا من ملامح النهضة ودخلنا في معارك الأيديولوجيا المميتة للفكر الحر».‏

يشدد محمد أركون على ضرورة عدم الفصل بين الحضارات، شرقية وغربية، ‏واحتكار الإسقاطات على إحداهما دون الأخرى، بل إمكانية فهم ‏الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب عن الأخرى. لذلك ‏كان دائما ينادي بوحدة الإنسان و»بأنسنة» المعرفة بعيداً عن كافة ‏التعصبات المذهبية والعرقية والأيديولوجية.‏

إن المشروع الفكري لأركون هو مشروع مفكر حر، لا يرى في الفلسفة إلا تقدماً، ولا حياة لأمة من دون أن يكون لديها مشروعها الفلسفي الخاص بها، والمندغم ضمن مشروع العالم. وحين يعم الجهل على أمة من الأمم، فإنها تفقد بوصلتها وتغرق في بحر من الظلام لا آخر له.‏

حاول أركون صياغة مشروع فكري خاص به، وفعلاً فقد اعترف له الكثيرون بأنه صاحب مدرسة فكرية متفردة وصاحب مشروع فكري ‏نقدي تنويري يرتكز على العقل العلمي لتجديد الفكر العربي ‏ وقراءة التراث قراءة واعية بعيدة عن الدوغمائية والجهل ‏المؤسس والأيديولوجيا ولغة الشعارات الرنانة، وتقترب من استنباط ‏الأحكام والمفاهيم الكلية والاجتهاد وتطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة ‏وآخر النظريات المكتشفة في العالم.‏ ولذلك اشتهر باستخدامه مناهج علمية عدة بينها الانثروبولوجيا التاريخية واللسانيات وأدوات قراءة التاريخ في دراسة الأديان والنصوص الدينية.‏

يرفض أركون قبول العرب للتمزق والتشتت الذي أصابهم، ويقول: «للأسف كان هذا التشتت، ‏ووضعت حدود سياسية جعلت سكان هذا الفضاء الواسع يحتاجون إلى ‏تأشيرة في تنقلهم من بلد إلى آخر. وهذه كارثة لا أقبلها شخصياً، لأنني ‏أعتبر نفسي ابن هذا الفضاء الواسع، رغم أن البعض يحاول أن ينفي عني ‏انتمائي ويقول محمد أركون ليس منا، ولكنني أحبهم وأدافع عنهم وأطلب ‏منهم أن نتحابب».‏‏

يرى أركون أن خروجنا كعرب من أزمتنا التاريخية، بحاجة إلى مرحلة تنوير تضيء تراثنا الديني بمناهج حديثة، من أجل التصالح مع الحداثة الكونية، ويقول: «لكن مشكلة النزعة الإنسانية في الفكر العربي قديمه وحديثه هي هذا الهجوم الشديد الذي يلاقيه من يحاول مس المسألة بعمق أو حتى سطحياً.. وربما يكون الأمل هو في تلك القوانين التي تحكم اتجاه حركة التاريخ..».‏

كيف يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية الخروج من مأزقها الحضاري؟ هل يجب العودة إلى التراث الفكري العربي، كما فعل الغربيون وأقاموا أعمدتهم الفكرية الحديثة على تراثهم اليوناني الفلسفي؟‏

تعاني المجتمعات العربية والإسلامية – حسب أركون – من قطيعة مع تراثها الإسلامي العريق، وقطيعة مع عصر النهضة الأوربية والحداثة. كما أنها تعاني أيضاً من قطيعة مع مرحلة ما بعد الحداثة الأوروبية. لذلك تبدو مشكلة المثقف العربي المستنير والتغييري في غاية التعقيد. ويخلص أركون إلى أن الإصلاح الآن غير ممكن باستعمال الوسائل الفكرية القديمة، وأن على حركة التنوير الإسلامية المنتظرة أن تجيب على سؤال محير: هل نحتاج إلى إصلاح المفاهيم القديمة، أم أن الحل يكون بالقطيعة معها؟‏

محمد أركون مفكر وباحث جزائري من مواليد العام 1928 في بلدة تاوريرت في تيزي وزو بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء «ولاية عين تموشنت» حيث درس الابتدائية بها. وأكمل دراسته الثانوية في وهران، وإبتدأ دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في «السوربون» في باريس. وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، كما درّس بجامعات عديدة في أوربا وأمريكا والمغرب، واهتم بدراسة وتحليل الفكر الإسلامي. وهو عضو اللجنة الوطنية لعلوم الحياة والصحة بفرنسا، وعدة لجان أخرى.‏

وترك أركون مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، ومن أهم عناوينه: ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، دراسات الفكر الإسلامي، الإسلام أمس وغداً، من اجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، الإسلام: الأخلاق والسياسة، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلام، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي.‏

توفيّ محمد أركون مساء الثلاثاء الماضي في 14-09-2016 بالعاصمة الفرنسية باريس عن عمر يناهز 82 عام بعد معاناة مع المرض. ومع أنه من بين المفكرين الكبار في العالم الغربي، إلا أن كتبه لم تنتشر بالشكل الكافي عربياً، وبقي بعيداً عن متناول القراء العرب. كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وترجمت كتبه إلى أغلب ‏لغات العالم بينها العربية؛ وهو ينتمي إلى جيل ميشيل فوكو وبيير بورديو.‏

اهتم الغربيون كثيراً بدراساته التنويرية التي تناولت الإسلام والعرب، وحضر بقوة في الدراسات الأوروبية والأمريكية، كعقل لا يمكن الاستغناء عنه أثناء دراسة التاريخ الفكري العربي والخطاب الديني. ورغم أنه لم يأخذ حقه في الدراسات العربية، إلا أنه، ومع بعض التمحيص في مؤلفاته وخاصة «الفكر العربي»، سنجد أن أركون محلل كبير لتاريخية الفكر العربي، ومفكر مستنير، يعرف نقاط الضعف والقوة في هذا الفكر، مستنداً في ذلك إلى التراث المقروء من قبله بدقة، وإلى التراث الأوروبي ودراساته المعمقة في شتى المجالات.‏

إن القراءة الدقيقة لفكر محمد أركون، لا تجعلنا بالضرورة نوافق على آرائه حول الثقافة العربية والفكر العربي، ولكنها ستدفعنا إلى إعمال الفكر في الآراء التي يطرحها، ويناور ويعمل على تبيان صدقها، مستشهداً بالتاريخ، أو بنقاط منه تؤيد أفكاره. وليس بالضرورة أيضاً أن نوافق على تحليله للأمور التي نهضت بالفكر العربي أو خلفته، أو أوقفته عن التفكير لمدد زمنية ما. إن ما يهمنا في دراسات أركون هو هذا الحيز الواسع من الجدل العقلي، الذي يفتح الباب واسعاً لخلق جدل مضاد، يطور ويغني وينير.‏

un autre homme qui qui disparait dont le savoir restera a jamais

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة matrixano02 الجيريا
الجيريا

أثناء تكريمه ومنحه جائزة ابن رشد، ألقى محمد أركون كلمة أكبر فيها من فكر ابن رشد، وموقعه في الثقافة العالمية، وتحدث عن التواصل الفكري بين الحضارات، ورفض بشدة مقولة صدام الحضارات قائلاً: «الاصطدام ليس باصطدام الحضارات كما قال أحد القائلين الذي لا أسميه باسمه لأنه أصبح نبياً لكثيرٍ من الناس الذين يستشهدون به. هناك اصطدامات بين منظومات من الجهل المؤسس. ليس هناك مجتمع، ليس هناك فكر، نظام فكري لا يستتبع في منظومته وممارسته إنتاج جهله، لا نستشعر به أنه جهل فيما ننطق به، وهذا ما يحدث في جميع المجتمعات العربية منذ خرجنا من ملامح النهضة ودخلنا في معارك الأيديولوجيا المميتة للفكر الحر».‏

يشدد محمد أركون على ضرورة عدم الفصل بين الحضارات، شرقية وغربية، ‏واحتكار الإسقاطات على إحداهما دون الأخرى، بل إمكانية فهم ‏الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب عن الأخرى. لذلك ‏كان دائما ينادي بوحدة الإنسان و»بأنسنة» المعرفة بعيداً عن كافة ‏التعصبات المذهبية والعرقية والأيديولوجية.‏

إن المشروع الفكري لأركون هو مشروع مفكر حر، لا يرى في الفلسفة إلا تقدماً، ولا حياة لأمة من دون أن يكون لديها مشروعها الفلسفي الخاص بها، والمندغم ضمن مشروع العالم. وحين يعم الجهل على أمة من الأمم، فإنها تفقد بوصلتها وتغرق في بحر من الظلام لا آخر له.‏

حاول أركون صياغة مشروع فكري خاص به، وفعلاً فقد اعترف له الكثيرون بأنه صاحب مدرسة فكرية متفردة وصاحب مشروع فكري ‏نقدي تنويري يرتكز على العقل العلمي لتجديد الفكر العربي ‏ وقراءة التراث قراءة واعية بعيدة عن الدوغمائية والجهل ‏المؤسس والأيديولوجيا ولغة الشعارات الرنانة، وتقترب من استنباط ‏الأحكام والمفاهيم الكلية والاجتهاد وتطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة ‏وآخر النظريات المكتشفة في العالم.‏ ولذلك اشتهر باستخدامه مناهج علمية عدة بينها الانثروبولوجيا التاريخية واللسانيات وأدوات قراءة التاريخ في دراسة الأديان والنصوص الدينية.‏

يرفض أركون قبول العرب للتمزق والتشتت الذي أصابهم، ويقول: «للأسف كان هذا التشتت، ‏ووضعت حدود سياسية جعلت سكان هذا الفضاء الواسع يحتاجون إلى ‏تأشيرة في تنقلهم من بلد إلى آخر. وهذه كارثة لا أقبلها شخصياً، لأنني ‏أعتبر نفسي ابن هذا الفضاء الواسع، رغم أن البعض يحاول أن ينفي عني ‏انتمائي ويقول محمد أركون ليس منا، ولكنني أحبهم وأدافع عنهم وأطلب ‏منهم أن نتحابب».‏‏

يرى أركون أن خروجنا كعرب من أزمتنا التاريخية، بحاجة إلى مرحلة تنوير تضيء تراثنا الديني بمناهج حديثة، من أجل التصالح مع الحداثة الكونية، ويقول: «لكن مشكلة النزعة الإنسانية في الفكر العربي قديمه وحديثه هي هذا الهجوم الشديد الذي يلاقيه من يحاول مس المسألة بعمق أو حتى سطحياً.. وربما يكون الأمل هو في تلك القوانين التي تحكم اتجاه حركة التاريخ..».‏

كيف يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية الخروج من مأزقها الحضاري؟ هل يجب العودة إلى التراث الفكري العربي، كما فعل الغربيون وأقاموا أعمدتهم الفكرية الحديثة على تراثهم اليوناني الفلسفي؟‏

تعاني المجتمعات العربية والإسلامية – حسب أركون – من قطيعة مع تراثها الإسلامي العريق، وقطيعة مع عصر النهضة الأوربية والحداثة. كما أنها تعاني أيضاً من قطيعة مع مرحلة ما بعد الحداثة الأوروبية. لذلك تبدو مشكلة المثقف العربي المستنير والتغييري في غاية التعقيد. ويخلص أركون إلى أن الإصلاح الآن غير ممكن باستعمال الوسائل الفكرية القديمة، وأن على حركة التنوير الإسلامية المنتظرة أن تجيب على سؤال محير: هل نحتاج إلى إصلاح المفاهيم القديمة، أم أن الحل يكون بالقطيعة معها؟‏

محمد أركون مفكر وباحث جزائري من مواليد العام 1928 في بلدة تاوريرت في تيزي وزو بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء «ولاية عين تموشنت» حيث درس الابتدائية بها. وأكمل دراسته الثانوية في وهران، وإبتدأ دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في «السوربون» في باريس. وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، كما درّس بجامعات عديدة في أوربا وأمريكا والمغرب، واهتم بدراسة وتحليل الفكر الإسلامي. وهو عضو اللجنة الوطنية لعلوم الحياة والصحة بفرنسا، وعدة لجان أخرى.‏

وترك أركون مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، ومن أهم عناوينه: ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، دراسات الفكر الإسلامي، الإسلام أمس وغداً، من اجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، الإسلام: الأخلاق والسياسة، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلام، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي.‏

توفيّ محمد أركون مساء الثلاثاء الماضي في 14-09-2016 بالعاصمة الفرنسية باريس عن عمر يناهز 82 عام بعد معاناة مع المرض. ومع أنه من بين المفكرين الكبار في العالم الغربي، إلا أن كتبه لم تنتشر بالشكل الكافي عربياً، وبقي بعيداً عن متناول القراء العرب. كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وترجمت كتبه إلى أغلب ‏لغات العالم بينها العربية؛ وهو ينتمي إلى جيل ميشيل فوكو وبيير بورديو.‏

اهتم الغربيون كثيراً بدراساته التنويرية التي تناولت الإسلام والعرب، وحضر بقوة في الدراسات الأوروبية والأمريكية، كعقل لا يمكن الاستغناء عنه أثناء دراسة التاريخ الفكري العربي والخطاب الديني. ورغم أنه لم يأخذ حقه في الدراسات العربية، إلا أنه، ومع بعض التمحيص في مؤلفاته وخاصة «الفكر العربي»، سنجد أن أركون محلل كبير لتاريخية الفكر العربي، ومفكر مستنير، يعرف نقاط الضعف والقوة في هذا الفكر، مستنداً في ذلك إلى التراث المقروء من قبله بدقة، وإلى التراث الأوروبي ودراساته المعمقة في شتى المجالات.‏

إن القراءة الدقيقة لفكر محمد أركون، لا تجعلنا بالضرورة نوافق على آرائه حول الثقافة العربية والفكر العربي، ولكنها ستدفعنا إلى إعمال الفكر في الآراء التي يطرحها، ويناور ويعمل على تبيان صدقها، مستشهداً بالتاريخ، أو بنقاط منه تؤيد أفكاره. وليس بالضرورة أيضاً أن نوافق على تحليله للأمور التي نهضت بالفكر العربي أو خلفته، أو أوقفته عن التفكير لمدد زمنية ما. إن ما يهمنا في دراسات أركون هو هذا الحيز الواسع من الجدل العقلي، الذي يفتح الباب واسعاً لخلق جدل مضاد، يطور ويغني وينير.‏

un autre homme qui disparait dont le savoir restera a jamais

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.