فقه التآلف مع الدكتور سلمان العودة 2024.


الجيريا

نمتلك كل مقومات الأمَّة الواحدة التي لا يفتقر إليها الآخرون ومع ذلك نجحوا هم وفشلنا نحن

لا بدَّ من التغلب على ألوان التفرق الموجودة بين المسلمين

المشكلة في أن ينظر الإنسان في الجماعة التي ينتمي إليها على أنها معيار الحق ويزدري الآخرين

الحفاظ على الكرامة الإنسانية هو أساس التكليف

أكَّد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة – الأمين المساعد في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- على ضرورة التغلب على ألوان التفرق الموجودة اليوم بين المسلمين، وإحياء فقه التآلف فيما بينهم بعيدًا عن الصراعات أو النزاعات والمشاحنات أو الوشايات التي تنال من وحدة الأمة الإسلامية، وتضعف قوتها.
وتساءل الشيخ سلمان – في محاضرة له بعنوان "فقه التآلف" في مدينة "كيب تاون" بجنوب أفريقيا: لماذا لا تكون الأمة الإسلاميَّة أمة واحدة بالفعل، وليس من الناحية النظرية فقط؟!! مشيرا إلى أن الأمة الإسلاميَّة فشلت حتى الآن في تحقيق الوحدة الحقيقية، وذلك على الرغم من أنها تمتلك كل مقومات الأمة الواحدة، مقارنةً بأمم أخرى توحدت على الرغم من عدم توافر مقومات الوحدة لها، ولكنها تغلبت على الصعاب وحققت الوحدة فيما بينها، لافتا إلى أن أبرز مثالين على ذلك، هما (الاتحاد الأوروبي)، والولايات المتحدة الأمريكية.

الجيريا


الإسلام.. والحفاظ على الكرامة الإنسانيَّة

واستطرد الشيخ سلمان: إننا نشعر بالغيظ والحزن والحرقة، حينما نرى بلاد العالم كيف حقَّقت قدرًا كبيرًا من التقدم والرقي والنهوض والحفاظ على الكرامة الإنسانية، في حين أننا نحن المسلمون نعاني من التخلف وإهدار كرامة الإنسان، والتي هي معنى عظيم في الإسلام، لافتًا إلى أنه ليس صدفةً أن يكون القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة محشوًّا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في مطلع الكثير من الآيات، وبعدما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لم يختف هذا الخطاب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، ولكن جاء إلى جواره خطاب آخر هو : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، مما يؤكد أن الإسلام جاء ليُعزز الكرامة الإنسانية، مشيرا إلى القصة التي رواها مسلم في صحيحه عندما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا في أصحابه فمرت عليهم جنازة فقاموا فَقِيلَ يا رسول الله إِنَّهَا جَنَازَة يَهُودِي، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا»، وفي رواية: "إن للموت لفزعة"، ولا يمنع أن يكون كلا اللفظين والمعنيين صحيحًا.

الجيريا
وذكر فضيلته أن الحفاظ على الكرامة الإنسانية هو أساس التكليف، فالله -سبحانه وتعالى- حافظ على كرامتنا وحريتنا ولم يقهرنا على أعظم مطلوب وهو الإيمان، فقال -سبحانه وتعالى- : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وقال -سبحانه وتعالى- : (وَهَدَيْنَاه النَّجْدَيْنِ) ،
الجيريا

أوروبا وأمريكا نموذجًا للتوحد

وأردف الدكتور العودة: إننا نرى اليوم أن أوروبا أصبحت موحدة، حيث أصبح هناك الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، فضلا عن ذلك فقد قامت الدول الأوروبية على اختلاف لغتها وثقافتها بإزالة الكثير من الحدود والسدود والجمارك فيما بينها، وأصبح لهم عملة موحدة وهي "اليورو"، واقتصاد موحد، وأجهزة أمنية متعاونة على الصعيد الداخلي، وحلف "حلف الناتو" على الصعيد الخارجي، ودستور يشبه أن يكون دستورًا موحدًا، إضافة إلى إمكانيات أخرى غير عاديَّة.
وأضاف فضيلته : وكذلك الأمر فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، والتي هي عبارة عن خمسين دولة، كل دولة بحجم مجموعة من الدولة العربيَّة والإسلاميَّة، ومع ذلك هي دولة واحدة موحدة بمئات الملايين من البشر، فضلا عن ذلك فإنه يوجد اليوم يتعلق ما يسمى بـ "الشركات العابرة للقارات"، في مجالات النفط أو الكمبيوتر أو السيارات أو الإعلام، والتي على الرغم من أن رأس مال أي منها قد يكون -أحيانًا- مليارات الدولارات، ومع ذلك تشعر بأنها من أجل المنافسة في الميدان وتحقيق المزيد من النجاح ومقاومة الظروف الاقتصادية، بحاجة إلى أن تندمج أو تتحالف مع شركات أخرى.


الجيريا
متى نتوحد؟!!

وأوضح الشيخ سلمان: ولذلك نجد أن الاقتصاد والسياسة والتقنية والإعلام أصبح بأيديهم، ولم يكن هذا وليد الصدفة، يقول تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ولكن من جدهم واجتهادهم، مشيرًا إلى أنه من كمال عدل الله -سبحانه وتعالى- أن الإنسان في هذه الدنيا إذا عمل حصّل نتيجة عمله حتى لو كان كافرًا، وإذا أهمل أو فرَّط أو قصر فلا يحصل إلا على ما قدم، ولو كان ابن الأنبياء ولو ملأ الدنيا ادّعاءً فإنه لن يحصل على شيء إلا إذا عمل له.
وضرب فضيلته، مثالا لذلك، قائلا: إن الكافر إذا تزوَّج ورتب أموره بشكل جيد سيبني ويكوِّن أسرة، لكن المسلم لو ظلَّ يدعو طول الليل والنهار بأن يزوجه الله ويرزقه الذرية الصالحة ولم يخطُ خطوة عملية ويبحث ويخطب ويُقدّم المهر فإنه لن يحدث شيء! لافتًا إلى أن هذه هي نواميس الدنيا جعلها الله تعالى للعباد كلهم؛ ولهذا فإنه عندما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلًا) أي : في الدنيا، فذكر الله تعالى لهم المتاع في الدنيا، مما يشير إلى أن هذا المتاع للناس كلهم؛ ولهذا قال: (وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ، فهي متاع للمسلم والكافر والبار والفاجر
الجيريا
وتساءل فضيلته : لماذا هناك الكثير من ألوان التفرق بين أبناء هذه الأمَّة، والتي يتعدى تعدداها مليار ونصف المليار مسلم، حيث يدخل الإسلام عدد كبير في الإسلام يوميًّا، وعلى سبيل المثال فإن عدد الذين يُسلمون يوميًّا أو أسبوعيًّا في مدينة "كيب تاون" كثر، مشيرًا إلى أن هناك من يتحدث عن تحوُّل وتقبل قوي وشديد للإسلام في هذه البلاد، ومع ذلك يظل السؤال: متى نتوحد ؟!!

الجيريا

الفرقة.. والاختلاف

وذكر الدكتور العودة إلى أن أعظم خطر أي مشروع إسلامي هو خطر التنازع، وليس الاختلاف؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ولم يقل: "ولا تختلفوا" ولكن قال -سبحانه وتعالى- : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن بين التفرق والاختلاف فرقًا، يقول تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) مما يشير إلى أن التفرق مذموم كله حتى التفرق الجسدي، فإذا أمكن أن نكون مجموعة واحدة فإن ذلك يكون أفضل من أن نكون مجموعتين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر بأصحابه ينزلون تحت الأشجار الواحد والاثنان والثلاثة فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ في هَذِه الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَة إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ»، فكان الصحابة -رضي الله عنهم- بعد ذلك إذا سافروا اجتمعوا وتقاربوا حتى لو وُضع عليهم بساط لوسعهم، ولا يتفرقون؛ ولهذا قال هنا -سبحانه وتعالى- : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا).

الجيريا
وأردف فضيلته: ولكن عندما جاء ذكر الاختلاف قال -سبحانه وتعالى- : (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، مما يشير إلى أنه ليس كل اختلاف مذمومًا، ولكن الاختلاف المذموم هو الاختلاف على الكتاب، واختلاف مبناه على الهوى أو العصبيَّة أو التقليد الفاسد، أما الاختلاف المبني على اجتهاد ورؤية ونظر، فهذا لا بأس به بل لا بدَّ منه، لافتًا إلى أن فضيلته على طول ما جالس الكثيرين من الدعاة والمخلصين والشباب والعلماء وطلبة العلم إلا أن فضيلته لم يجتمعْ مع أحد منهم إلا ووجد أنه ينعي ويذم الاختلاف ويتشكّى منه، ولكن هذا لا يعني أنه على صواب، لأنه ربما يذم الاختلاف وهو يريد من الناس أن يجتمعوا على رأيه هو ونظرته وأسلوبه، مما يشير إلى أنه هو من أهم أسباب الاختلاف، وذلك لأن الناس ما اجتمعوا على من هو خير منك وأفضل، فكيف لهم أن يجتمعوا عليك.

ألوان من التفرق

ثم انتقل الدكتور العودة إلى الحديث عن ألوان التفرُّق التي تعاني منها الأمَّة الإسلامية، لافتا إلى أن بعضها طبيعي ولكنه قد يتطوَّر أحيانًا بسبب سوء التعامل، أو سوء النفسيات والقلوب، مشيرًا إلى أن هناك العديد من ألوان التفرق، منها:
1 – الخلاف بين المذاهب الفقهية : المالكي أو الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو غيرها من المذاهب، موضحا أنه من الطبيعي أن يكون هذا الخلاف موجودًا، وهو موجود بالفعل منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولكن المشكلة تكمن في أن يتطور هذا إلى اختلاف أو صراع أو كره أو جدل طويل عريض لا فائدة منه، لافتًا إلى أن هذا ليس مطلوبًا ولا كان الأئمة يرضونه، موضحًا أن العلاقة بين الأئمة كانت من أبدع وأحسن ما يكون، وفي هذا درس لأتباعهم أن يكونوا إخوة في الله متحابين حتى لو كانت مذاهبهم شتى.
2 – الاختلاف بين الشعوب والقوميات : ومن ذلك الاختلاف بين الشعوب العربيَّة، حيث نجد أن هناك من يقول هذا مصري وهذا سعودي وهذا يمني وهذا مغربي وهذا صومالي وهذا سوداني وهذا جزائري، وكذلك القوميات، حيث نجد من يقول أيضًا: هذا عربي وهذا تركي وهذا كردي وهذا فارسي وهذا أفغاني وهذا إفريقي، مؤكدًا أن هذه الاختلافات بين الشعوب والقوميات موجودة وقائمة وهي جزء من سنة الله -سبحانه وتعالى- كما قال ربنا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)، ولكن لا بدَّ وألا يكون لها تأثير على وحدة الأمة الإسلاميَّة، وكما يقول الشاعر :

الناسُ مِن جِهَة التِمثالِ أكفاءُ أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ
فإن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ يُفاخِرونَ بِه فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُه وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ


ما بيننا عرب ولا عجم مهلًا يد التقوى هي العليا
خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا
وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا
في إندونيسيا فوق إيران في الهند في روسيا وتركيا
آسيا ستصهل فوقها خيلي وأحطم القيد الحديديا

ولقد كان لقمان من الحبشة، يقول تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) وربما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول : (إن آل بني فلان لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي) أي : ناس من قرابته من قريش (إِنَّمَا وَلِيِّي اللَّه وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)، الجيريا

الجيريا

فقه التآلف

وأوضح الشيخ سلمان أن "الأمة" في القرآن الكريم، وردت في معانٍ كثيرة، منها:
1 – الإمام والقدوة : كما قال -سبحانه وتعالى- : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة قَانِتًا لِلَّه حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وكذلك بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقولون: " إن معاذ بن جبل كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين " تأسيًا بأسلوب القرآن الكريم، مما يشير إلى أن الأمَّة معناها الإمام، كما يجوز أن يكون المقصود في الآية الكريمة أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان بمثابة أمَّة وحده، ويُبعث أمة وحده لأنه لم يكن في وقته مسلم غيره أول الأمر، فاعتبر بمثابة أمَّة كاملة لأنه يمثل اتجاه الخير، وهذا دليل ألا يستوحش الإنسان من الغربة، ومن قلة الأتباع أو الأنصار أو الأعوان، مع أن هذه الأمة أمة خير، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أُمَّتِي هَذِه أُمَّة مَرْحُومَة»، وقال -صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُه خَيْرٌ أَمْ آخِرُه»، وذكر أن أتباعه هم أكثر الأمم حتى قال -صلى الله عليه وسلم: «وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: «ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: «شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة» فَكَبَّرْنَا، فهذه الأمة موعودة أن تكون نصف أهل الجنة، وأن خمسين بالمائة من المهتدين والراشدين وسكان جنات النعيم هم من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم، فهنيئًا له بهم، وهنيئًا لهم به – وقت أو أجل : أو فترة كما قال -سبحانه وتعالى- في قصة يوسف : (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه فَأَرْسِلُونِ) أي : بعد فترة بعد زمن، وذلك على القول الراجح من أقوال المفسرين.وقيل : عن المعنى بعد نسيان، ولكن المعنى الأول أفضل (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد فترة أو مدة، مما يشير إلى أن الأمة تطلق ويُقصد بها زمان أو وقت، ولعل هذا مرتبط بأن كل أمة لها أجل، وكل قوم أو أناس أو دولة لهم أجل؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- يقول : (وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ) مثلما للإنسان أجل ويموت، فإن الدول كذلك يكون لها آجال، فليس هناك دولة تعمر مدى الحياة، وعلى سبيل المثال، فإن دولة الخلفاء الراشدين عمرت ثلاثين سنة « الْخِلاَفَة في أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَة » حديث صحيح، ودولة بني أمية عُمرت مائة سنة تقريبا إلى 132هـ، وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بدولة بني العباس، ودولة الأتراك العثمانيين.. وهكذا الدول والأمم والحضارات والشعوب اليوم، لافتًا إلى أن ادِّعاء أحد الفلاسفة الأمريكيين بنهاية التاريخ هو ادِّعاء وهمي، فالتاريخ ليس له نهاية إلا بقيام الساعة، ولكن تكون هناك تحولات وتغيرات بإذن الله تعالى، وهذه التغييرات تكون بحسب حراك الناس وجهدهم، وعلى ذلك فإن الإنسان قد يولَد ويموت على عهد شخص واحد أو دول لم تتغير ولكن هذا لا يعني أن التاريخ توقف، بل يأتي زمان تنسى هذه الأشياء حتى كأنها لم تُذكر مثلما قال القائل:

ملَكْنا أقاليمَ البِلادِ فأذْعَنَتْ لَنا رَغْبَة أو رَهْبَة عُظَماؤها
فلما انْتَهَتْ أيّامُنا عَلِقَتْ بِنا شَدائِدُ أيامٍ قَليلٍ رَخاؤُها
وصِرْنا نُلاقي النّائِباتِ بأوْجُه رِقاقِ الحَواشي كادَ يَقْطُرُ ماؤُها
إذا ما هممنا أن نَبوحَ بما جَنَتْ علينا اللّيالي لمْ يَدَعْنا حَياؤُها

فالأمة تأتي إذًا بمعنى الوقت أو الزمن.

وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة

الجيريا

3 – الطريقة أو الأسلوب: أو نمط الحياة والعيش الذي يعيش عليه أناس، وهذا يسمى أمة أيضًا لأن هذه الطريقة أو هذا الأسلوب يكون قدوة لأولادهم وأحفادهم من بعدهم، كما قال -سبحانه وتعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)(الزخرف: من الآية22)، أي : وجدناهم على طريقة أو أسلوب (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف: من الآية22)، (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: من الآية23) فهم قدوة لهم سواء كانت هذه الطريقة حقًّا أو باطلًا خيرًا أو شرًّا، مما يشير إلى أن الأسلوب والمنهج يُعبر عنه أيضًا بأنه "أمَّة".
4 – الجماعة أو القوم : أو الطائفة من الناس مثلما قال -سبحانه وتعالى- في قصة موسى : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمَّة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) ، أي : وجد جماعة أو طائفة من الناس حتى لو قلّوا فقد يسمى الملايين بالأمَّة، كما قد يسمى الأفراد القلائل بالأمَّة أيضًا.
5 – الجماعة المتفقون: والمتحدين على الدين الواحد، كما نقول : "هذه الأمة"، ولقد سمانا الله -سبحانه وتعالى- أمة في القرآن الكريم في سورتين، هما : سورة المؤمنون، وسورة الأنبياء، وهما سورتان متجاورتان، يقول تعالى: (إِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ويقول أيضًا : (وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) فحدَّد سبحانه أن هذه الأمة أمة واحدة حتى وإن اختلفت شرائعها، فأمة موسى وأمة عيسى وأمة شعيب وأمة محمد -صلى الله عليهم وسلم- كلهم أمَّة واحدة على الإيمان والهدى والخير وإن اختلفت شرائعهم؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَة مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ..»، وعلى ذلك فإن العقيدة لا تختلف، فعقيدة الأنبياء السابقين هي عقيدة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والبعث والجنة والنار، وغير ذلك من المعاني، ولكن الذي يختلف هو التشريع، وقوله -صلى الله عليه وسلم: (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَة مِنْ عَلاَّتٍ) أي : مثل الإخوة لأب، أمهاتهم شتى كل واحد له أم تخصه، فهذه الأم هي الشريعة، لكن أبوهم واحد والمقصود به المعنى العقدي وهو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى، وهذا على سبيل التشبيه، لافتًا إلى أنه في كلا السياقين حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من التنازع والاختلاف فقال : (وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ، ثم قال : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، فحذَّر من التفرق والتحزُّب بقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ)، والفرح (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)

الجيريا