حقائق لا يعرفها الكثيرون عن الثورة الفرنسية 2024.

جاءت الثورة الفرنسية قبل قرنين من الزمان وليدة للحروب المتصلة التي عرفتها أوربا منذ القرن الثاني عشر الميلادي فصاعدا، ومن أكبرها حروب فرنسا ضد النمسا منذ سنة 1500 م. فقد كانت الدول الاوروبية يواجه بعضها بعضا مواجهة الخصوم المدججين بالسلاح، ولا تأمن إحداها الأخرى، ولا تعترف أي واحدة منها بأي قاعدة للسلوك سوى مصلحتها الخاصة، وقد تحولت تلك السياسة التي كانت سائدة بين تلك الدول في أحقاب الديكتاتورية بأوربا، إلى سياسة خارجية موجهة ضدنا نحن العرب والمسلمين وسائر أبناء العالم الثالث اليوم. وكانت أوربا الديكتاتورية في ذلك الوقت تقيم التحالفات لتحقيق مصالح ظرفية فيما اصطلحت عليه فيما بعد باسم التوازن الدولي Balance of Power وقد كان ذلك سببا من أسباب حدوث الحروب، وأحيانا الاستقرار.

وكانت الدول الأضعف، تتحالف في وجه الدولة التي تعقد لنفسها لواء الزعامة في أوربا، أو تطلب هذه الزعامة. ومن بين تلك الدول فرنسا زعيمة الفرنكفونية المتحالفة مع ديكتاتوريات القرون الوسطى الافريقية اليوم. فقد شهد القرن السابع عشر (الاوروبي) وصولها إلى مكان الصدارة، فاتحدت أوربا ضدها إلى أن اندحرت في القرن الثامن عشر (الاوروبي) وهو القرن الذي تكتلت فيه دول أوروبية مع فرنسا ذاتها لكسر شوكة البحرية البريطانية، والذي قاد إلى استقلال الولايات المتحدة الامريكية. لكن بريطانيا شهدت فيما بعد ثورة صناعية وحملة نهب لما بقي في أيديها من مستعمرات، ساعد على استقرارها داخليا متكئة على نظامها الديمقراطي (الداخلي) وبرلمانها القوي وصحافتها الحرة، وهذا ما يفسر صمودها في الوقت الذي أطاحت فيه عواصف الثورات جميع حكومات أوربا تقريبا.

أما فرنسا فقد فقدت مكانتها العسكرية عندما ألحق بها تحالف بريطانيا / بروسيا هزيمة منكرة في حرب السنوات السبع،(حروبنا 6 أيام فقط) في عهد الملك لويس الخامس عشر الذي كان غارقا في مباذله وفحشه فحاقت هزائم كبرى بفرنسا بسببها. وخلفه لويس السادس عشر 1774 م. ورغم أن الحظ حالف فرنسا في الحرب الاهلية الامريكية فإن حزينة الدولة كانت خاوية بشكل خطير، وزادت المعارضة التي فتت في عضد نظامها الذي لم يكن يعترف بأي سلطة للأمة أو حتى مشاركة في اتخاذ القرار، كما هو حال أكثر العرب اليوم. وبناء على ذلك كثر اللصوص من موظفي الدولة الكبار، والوزراء والمديرين ومن يقع تعيينهم بواسطة الملك أو زوجته وحاشيتها. وعندما حلت عشية الثورة كان النظام قد فقد معظم أنصاره تقريبا. كان هنالك تطلع شعبي لشيء جديد خارج المألوف والممل " الحكومة الصالحة " و"السمعة الطيبة في المحافل الدولية " و"المعجزة " وكان المنافقون المستفيدون من النظام يفعلون ذلك من أجل الثراء غير المشروع أو البقاء في الوظائف والحصول على الامتيازات المادية والمعنوية، ولأنهم كانوا قلة بالمقارنة مع الملايين المحرومة فقد سقطوا جميعا بعد حين من الدهر.

النظام الاجتماعي قبل الثورة: النظام الاجتماعي قبل الثورة الفرنسية كان قائما على طبقتين، تمثل الاولى العوام أو الشعب أو (رجل الشارع) المحقر في التعبير السلطوي الاستبدادي، والطبقة الثانية هي طبقة النبلاء وذوي الصلة بالبلاط والكنيسة الغارقة في الفساد المزينة للحاكم كل تصرفاته المشينة بحق المواطن والوطن. وكانت الطبقة الثانية تنعم بامتيازات هائلة: كانت معفاة من الضرائب التي يدفعها (وجل الشارع، أو رجل الشارع لا فرق) وكانت الرتب العليا في الجيش مقصورة عليهم، ومنهم كان يتألف بلاط فرساي بكل ما عرف عنه من رونق وأبهة. وكان عبء الضرائب الاكبر يقع على كاهل سكان القرى والفلاحين والعمال والموظفين الصغار. وكان الحكام يعيشون عيشة سلاطين ألف ليلة وليلة، كانت بالفعل أساطير حقيقية، ولذلك كان وقود الثورة من الفقراء المعدمين

الوضع الثقافي قبل الثورة: كانت فرنسا تحتل المكانة الاولى في عالم الفكر الغربي، وكان المفكرون الفرنسيون قادة لحركة ثقافية عم صداها مختلف أنحاء أوربا بل الولايات المتحدة الامركية، وظهر مفكرون من أمثال بوك وليبنتز.

ويعد هيوم وجبهبوني وروبنسون في انجلترا وليسينج وكنط وشيلر في ألمانيا وبنيامين فرانكلين في أمريكا جزءا لا يتجزأ من حركة تهدف للتغيير، إضافة لكل من مونتيسيكيو، وروسو. أما فولتير الذي يعشقه محمد الشرفي لوجود شبه بينهما، فقد كان يتملق البابا بإظهار عداوته للاسلام. ففولتير ليس من الكتاب والمثقفين الذين كانوا يعادون الوضع القائم بكل تفاصيله بل بانتقائية وانتهازية واضحة كما يفعل بعض فلول اليسار التونسي والليبراليين المشوهين. ففولتير كما يقومه مفكرون غربيون سطحي التفكير، ولم يضف أي جديد مهم إلى أي من جوانب الفكر الاوروبي، ولكنه روج لافكار كانت معروفة في أوربا من قبل. ومن أعجب العجب أن يتملق فولتير البابا بسب الاسلام، ثم يوجه سهامه للكنيسة متملقا قادة الثورة، كما يفعل من غيروا جلودهم وأصبحوا حمالين في سوق الرأسمالية وافرازات الامبريالية بعد أن كانوا من المعادين لها، ومن طلائع البروليتاريا والحزب الثوري والمبشرين بالفردوس الشيوعي. ونسوا " الحتمية التاريخية واستنباطات الديالتيك والصراع الطبقي، وسيادة العالم من منطلق حركي ". فإذا بهم يتحولون من حتمية التاريخ الماركسية إلى نهاية التاريخ الفوكايامية، ومن مناضلين في الصراع الطبقي مع البروليتاريا إلى أدوات في الصراع الحضاري مع هنغتنغتون واليمين الصهيوني في أمريكا، والديغولية الجديدة المعادية للاسلام في فرنسا.

وعودة لفولتير فقد كان يمتدح فردريك الاكبر، ولم يكن نصيرا للتحرر أو الديمقراطية بل كان يعتبر ملكية فردريك الاكبر المستبدة " مخلصة خيرة تمثل شكل الحكومة الذي ينبغي أن يحتذى به " وهذا ما يقوله الشرفي عندما يبرر ما يسميه " اجراءات قاسية ضرورية " لتبرير القمع الذي مارسه إبان توليه الوزارة في تونس، وهو الذي كان يقتات من الذيلية الفكرية في باريس.

أما مونتيسكيو فقد كان باحثا متعمقا في المسائل الدستورية ومحافظا بطبعه. وكتابه " روح القوانين " إنما هو بحث عام في أشكال الحكومة. وقد صار كتابه المعين الذي يتزود منه بالافكار، أولئك الذين انصرفوا إلى مهمة البناء السياسي لدولهم، وقد تأثر به دستور الولايات المتحدة، إلا أن الكتاب متأثر بدوره بالدستور الانجليزي ـ كما اعترف هو بذلك ـ فمونتيسكيو يشيد بالحكومة المقيدة التي تخضع في تصرفاتها لمجموعة من الضوابط والمراجع. ويشيد بنظام فصل السلطات، أي استقلال فروع الدولة الثلاثة، التشريعية والقضائية والتنفيذية بعضها عن بعض.

أما روسو فهو من بين كتاب عصره الذين أثاروا أشد المشاعر تباينا من حب وبغض، ولم تتفق الآراء بشأنه حتى اليوم. وهو يمثل في رأيي من عدة أوجه إحدى القوى الكبرى في التيار الرئيسي لعصره. لقد كان شديد الميل للدين، ولكنه لم يكن كاثوليكيا ولا نصرانيا، ومعتقده الحقيقي لا يزال لغزا، حتى أن البعض يعتقد أنه اعتنق الاسلام. فقد كان يحس بشرور عصره وآلام المستضعفين، وكتابه " العقد الاجتماعي " الذي نشر في سنة 1762 م يلخص آراءه في الحكم " ولد الانسان حرا فما باله مكبلا بالاغلال في كل مكان " وهي ترجمة بتصرف لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ". ويبدو أن روسو قد تأثر بالاسلام في كثير من مواقفه. إن روسو يؤكد أن الدولة مدينة بوجودها للشعب وأن من حقه أن يغيرها، ويبدل أشكالها أو يعدل فيها. ويؤكد روسو على ضرورة الدين، ومعاقبة الخارجين عليه بالاعدام إذا اقتضى الأمر.

وإلى جانب هؤلاء كانت هناك مجموعة أخرى من أبرز شخصياتها ميرابو " أبو السياسة " كما يسميه الفرنسيون، وساي وكويزناي صاحب كتاب " الجدول الاقتصادي " Economique Tableau الذي وصف في حينه بأنه الدواء الناجع لمتاعب فرنسا. ولا يمكننا أن نذكر ملخصا لكل كتابات المفكرين الثلاثة لضيق المساحة ولكن يمكن تلخيصها في الجمل التالية " استخدام العمال في الارض هو مصدر كل ثروة " " العمال أكثر الطبقات إنتاجا بل ربما هم الطبقة المنتجة الوحيدة " " تدخل الحكومة يجب أن يقل إلى أدنى حد " و" الاصلاح الأساسي والحقيقي يتمثل في إطلاق الحرية الكاملة للتجارة وإنشاء نظام عام للتعليم وجميع الضرائب يجب أن تلغى وتتركز في ضريبة واحدة هي ضريبة الأرض ".

ولا ندري إن كان ميرابو قد قرأ كتاب البيوع لابي يوسف الذي نجد الكثير من الاستنباطات قريبة منه. ويرى ميرابو أن المبادئ المذكورة كفيلة باصلاح مافسد. وقد بذل تيرغو والذي كان تلميذا نجيبا من تلامذة المدرسة الاخيرة جهودا ضخمة لتطبيق تعاليم كويز ناي عندما كان مفتشا في الاقاليم ثم كوزير للمالية، وقد كان للمدرسة الاخيرة أثر ملموس في مجرى الثورة الفرنسية. ولما حانت ساعة التغيير بلورت الثورة أهدافها في الشعار الثلاثي الحرية والمساواة والاخاء.

وبقطع النظر عما يقوله البعض عن الثورة الفرنسية في سوق (الثرثرة) فإن الفرنسيين كانوا يقصدون بالشعار المرفوع بأن الحرية تأمين الفرد من تغول الدولة الاستبدادية، وبالمساواة، المساواة في الحقوق أمام القانون، وإلغاء الامتيازات الخاصة، أما الاخاء فقد كان الاخاء بين أفراد المجتمع وقد عقدت عدة اجتماعات حماسية عشية 1789 م تآخى فيها النبلاء والفلاحون.

الوضع السياسي: لم يكن للصيت الذي تمتع به كتاب فرنسا في أوربا والولايات المتحدة في ذلك الحين أي تأثير على الوضع السياسي الرسمي في فرنسا فقد خلف لويس الرابع عشر، لويس الخامس عشر، وخلف الاخير لويس السادس العشر، وكانت تلك السلسلة من الخلاعة والمجون وبالتالي الهزائم سمة عصرهم فقد كان لويس السادس عشر المتزوج من نمساوية وكان أصلها وبالا عليها وعلى زوجها وجلب عليه وعليها كراهية البلاد بأكملها لا سيما بعد أن اشتبكت فرنسا من جديد مع النمسا. وكان الاهالي يزدرونها وخاصة عند الثورة فيطلقون عليها لفظ " المرأة النمساوية " فقد كانت تؤدي أدوارا خطيرة ولا سيما في التحريض على المعارضة والتشبث برفاهية القصر. ولم يغير لويس السادس عشر في النظام الاقتصادي، وأبقى على نظام الامتيازات الذي يعفي النبلاء والكنيسة من الضرائب وكذلك حاشية الملك. الامر الذي ارهق الاقتصاد الفرنسي وأصابه بالركود. ويسجل المؤرخون أن العجز المالي للدولة هو الذي فتح باب الثورة. إضافة للتكاليف الباهضة لحروب القرن الثامن عشر, وكانت الحاجة الرئيسية تكمن في موازنة الدخل بالمصروفات، ولكن ذلك كان أمراً صعب المنال لانه كان يجب تغيير نظم الحكم الفرنسية تغييرا كاملا.

لقد أكد ذلك جهود المخلصين من أمثال تيرجو الذي كان يرغب في اصلاح الشؤون العامة للدولة واصلاح نظام الضرائب وإشراك المستثنين فيها وتوفير حرية التجارة في الداخل والخارج وتطبيق أفكار العدالة والانسانية، ولكن ككل مصلح في كل نظام فاسد تآمر عليه المنتفعون من عصابة البلاط ومنهم ماري انطوانيت النمساوية زوجة الملك، فأعفاه الملك من منصبه وتولى مكانه نيكر الفرنسي البروتستانتي والذي طرد من منصبه علم 1781 م على إثر نشر بيان عن الوضع الاقتصادي في فرنسا، ثم أعيد لنفس المنصب عندما بدأت ارهاصات الثورة وبقي في ذلك المنصب حتى 1790 م. وقد أكدت الاحداث أن الامر لا يحتاج للاشخاص بقدر حاجته للبرامج والاصلاحات مع التأكيد على دور الاشخاص في التنفيذ والاخلاص في العمل. فقد كانت الحكومة تخفي عن الشعب حقيقة الاوضاع فيما لم يبد النبلاء والكنيسة الغنية وكبار موظفي الدولة أي استعداد للتبرع لخزينة الدولة. ولم تنفع القسمة السياسية مثل مجلس طبقات الامة والتي تمثل الكنيسة والنبلاء والعامة والذين يجتمعون في قاعات متفرقة ودور العامة يتمثل فقط في تقديم الشكاوي وليس لهم حق الاعتراض أو سن القوانين أو البت في أي أمر.

الجيريا

الجيريا

الجيريا

ردد معي

سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.