*.* المؤمن القوي !! *.* 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ.
وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ، كان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ
»
رواه مسلم.

هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة وكلمات جامعة :فمنها:
إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودل على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضا تتفاضل.
فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف.

ودل الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية، والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ; فإن الإيمان بضع
وسبعون شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ منه.
وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكمل نفسه بالعلم النافع
والعمل الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان، ومن لم
يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف.

وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله.
وهذا الأصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة.

ولما فاضل النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال: «وفي كل خير»
وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل
وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في
الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما.

فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر. وهذا كثير في الكتاب والسنة.
وفي هذا الحديث: أن المؤمنين يتفاوتون في الخيرية، ومحبة الله والقيام بدينه وأنهم في ذلك درجات
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19]
ويجمعهم ثلاثة أقسام: السابقون إلى الخيرات، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات
وفضول المباحات، وكملوا ما باشروه من الأعمال، واتصفوا بجميع صفات الكمال. ثم المقتصدون الذين اقتصروا على القيام
بالواجبات وترك المحظورات، ثم الظالمون لأنفسهم، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» كلام جامع نافع، محتو على سعادة الدنيا والآخرة.
والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية.

والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما
مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في
حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه.
ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها.فمن لم يكن حريصا على الأمور النافعة، بل كان كسلانا
لم يدرك شيئا. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل.
فالكسلان لا يدرك خيرا، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا ومتى كان حريصا، ولكن على غير الأمور النافعة:
إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص
على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء.ثم إذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص
عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجأ إلى الله ; والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحوله وقوته
بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال، وتتم له النتائج والثمرات
الطيبة في أمر الدين وأمر الدنيا

لكنه في هذه الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها.
فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين: علم نافع، وعمل صالح.

أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين. وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من
حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف
باختلاف الأحوال.
والحالة التقريبية: أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه. فإن تعذر أو تعسر عليه
حفظه لفظا، فليكرره كثيرا، متدبرا لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه. ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح و
التفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب
الفن كلها: صغارها وكبارها.

ومن ضيع الأصول حرم الوصول.فمن حرص على هذا الذي ذكرناه، واستعان بالله: أعانه الله، وبارك في علمه، وطريقه الذي سلكه.
ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه الأوقات، ولم يدرك إلا العناء، كما هو معروف بالتجربة.
والواقع يشهد به، فإن يسر الله له معلما يحسن طريقة التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم.

وأما الأمر الثاني – وهو العمل الصالح (ماهيته) -: فهو الذي جمع الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو
التقرب إلى الله: باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال، وما يستحقه على عباده من العبودية، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله
وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر أخبرا به عما مضى، وعما يستقبل عن الرسل، والكتب والملائكة، وأحوال الآخرة
والجنة والنار، والثواب والعقاب وغير ذلك.
ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده: من حقوق الله، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات، خصوصا المؤكدة في
أوقاتها، مستعينا بالله على فعلها، وعلى تحقيقها وتكميلها، وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه غرض من
الأغراض النفسية.

وكذلك يتقرب إلى الله بترك المحرمات، وخصوصا التي تدعو إليها النفوس، وتميل إليها. فيتقرب إلى ربه بتركها لله، كما
يتقرب إليه بفعل المأمورات، فمتى وفق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل، واستعان الله على ذلك أفلح ونجح. وكان كماله
بحسب ما قام به من هذه الأمور، ونقصه بحسب ما فاته منها.

وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق. فينبغي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله. وذلك يختلف
باختلاف الناس، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته، وينوي الكفاف والاستغناء
بطلبه عن الخلق. وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية: من الزكاة والصدقة، والنفقات الخيرية
الخاصة والعامة مما يتوقف على المال، ويقصد المكاسب الطيبة، متجنبا للمكاسب الخبيثة المحرمة. فمتى كان طلب العبد
وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة، وسلك أنفع طريق يراه مناسبا لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب إلى الله بها.

ومن تمام ذلك: أن لا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بل يستعين بربه متوكلا
عليه، راجيا منه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها، وأقربها تحصيلا لمراده، ويسأل ربه أن يبارك له في رزقه:
فأول بركة الرزق: أن يكون مؤسسا على التقوى والنية الصالحة.
ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة.
ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]
بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد
خيرا كثيرا.

فإن قيل: أي المكاسب أولى وأفضل؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من فضل الزراعة والحراثة، ومنهم من فضل البيع والشراء، ومنهم من فضل القيام
بالصناعات والحرف ونحوها.
وكل منهم أدلى بحجته، ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله»
والنافع من ذلك معلوم أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه، ومنهم
من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها أفضل في حقه، فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع.فصلوات الله وسلامه
على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم حض على الرضى بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع.
فإذا أصاب العبد ما يكرهه، فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره
ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه ; فإن ” لو ” في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه
وفتح أبواب الهم والحزن المضعف للقلب.

وهذه الحال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة
وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها
والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها.

واعلم أن استعمال ” لو ” يختلف باختلاف ما قصد بها، فإن استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها، فإنها تفتح
على العبد عمل الشيطان، كما تقدم، وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فإنها مذمومة، وصاحبها آثم، ولو لم يباشر
المعصية، فإنه تمنى حصولها.
وأما إذا استعملت في تمني الخير، أو في بيان العلم النافع، فإنها محمودة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

وهذا الأصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأمر بالحرص على الأمور النافعة، ومن لازمه اجتناب الأمور
الضارة مع الاستعانة بالله يشمل استعماله والأمر به في الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته، ويشمل الأمور الكلية
المتعلقة بعموم الأمة.

فعليهم جميعا أن يحرصوا على الأمور النافعة، وهي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم بكل مستطاع مما يناسب الوقت
من القوة المعنوية والمادية، ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله، ودفع جميع ما يضاد ذلك.
وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان
دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما، بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله
«احرص على ما ينفعك»
أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه، نية وهمة، فعلا وتدبيرا.
وقوله: «واستعن بالله» إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب
المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك.

فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه، وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته
وعلمه ومعرفته والله المستعان.

العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ، صفحة (23)

[COLOR="Indigo"]

شرح الحديث إجمالا

( حديث ‘ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ‘)

التمهيد :

* متن الحديث :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان )

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز ، فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله ، وما شاء فعل ، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان )

وفي رواية : عن أبي هريرة ، يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ قال : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، ولا تعجز ، فإن غلبك أمر ، فقل : قدر الله وما شاء فعل ، وإياك واللو ، فإن اللو تفتح عمل الشيطان )

مكانة الحديث :

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا حديث عظيم – وكل أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – عظيمة وشريفة – ، فهو خبر نبوي عظيم بالخيرية للمؤمن القوي ، وأوامر نبوية كريمة عظيمة الشأن بالحرص على كل ما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته ، والاستعانة بالله عز وجل ، وعدم العجز .
وشمل الحديث أيضا توجيها نبويا كريما بصدق التوكل على الله عز وجل مع الأخذ بالأسباب وتفويض المقادير لله ، والابتعاد عما يفتح على الإنسان عمل الشيطان .

وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولا عظيمة من أصول الإيمان :[/COLOR]

أحدها : أن الله سبحانه موصوف بالمحبة ، وأنه يحب حقيقة .

الثاني : أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها ، فهو القوي ، ويحب المؤمن القوي ، وهو وتر يحب الوتر ، وجميل يحب الجمال ، وعليم يحب العلم ، ونظيف يحب النظافة ، ومؤمن يحب المؤمنين ، ومحسن يحب المحسنين ، وصابر يحب الصابرين ، وشاكر يحب الشاكرين .

ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض .

الثالث : إخلاص العبادة لله وحده ، والتوكل عليه والاستعانة به ، والإيمان بالقضاء والقدر .

ومما يدل على مكانته : اختيار الإمام النووي – له ليكون ضمن كتابه القيم " رياض الصالحين " ووضعه في باب المجاهدة وكان رقمه السادس في الباب والمائة من جملة الأحاديث التي بلغت (1896) حديثا ، وقد قال في مقدمتها :
" فرأيت أن أجمع مختصرا من الأحاديث الصحيحة ، مشتملا على ما يكون طريقا لصاحبه إلى الآخرة ، ومحصلا لآدابه الباطنة والظاهرة ، جامعا للترغيب والترهيب ، وسائر أنواع آداب السالكين ، من أحاديث الزهد ، ورياضات النفوس ، وتهذيب الأخلاق ، وطهارات القلوب وعلاجها ، وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها ، وغير ذلك من مقاصد العارفين " .

ويقول الإمام ابن القيم – عن أهمية هذا الحديث :

"إنه مما لا يستغني عنه العبد أبدا ، بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حصول المطلوب وعدمه ، وبالله التوفيق" .

ويقول – أيضا – : " عن قوله عليه الصلاة والسلام : احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز فالدين كله ظاهره وباطنه ، شرائعه وحقائقه ، تحت هذه الكلمات النبوية ، والله أعلم " .

* شرح الحديث إجمالا :

قوله : المؤمن القوي هو مَن يقوم بالأوامر ، ويترك النواهي بقوة ونشاط ، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم ، ويصبر على أذاهم . أي : القوي في إيمانه ، وليس المراد القوي في بدنه ؛ لأن قوة البدن ضرر على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله .
فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها ، إذا كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفع في الدنيا والآخرة صارت محمودة ، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومة "
.
يقول الشيخ العثيمين – : " لكن القوة في قوله – صلى الله عليه وسلم – : المؤمن القوي أي : قوي في الإيمان ، ولأن كلمة القوي تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان ، كما تقول : الرجل القوي ، أي : في رجولته ، كذلك المؤمن القوي في إيمانه ؛ لأن المؤمن القوي في إيمانه تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه ، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله ، والضعيف الإيمان يكون إيمانه ضعيفا لا يحمله على فعل الواجبات وترك المحرمات فيقصر كثيرا " .

وقوله : " خير " يعني خير من المؤمن الضعيف ، وأحب إلى الله .

ثم قال – صلى الله عليه وسلم – : وفي كل خير يعني المؤمن القوي ، والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير .

وإنّما قال : وفي كلّ خير ، لِئَلاَّ يتوهّم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه ، بل المؤمن الضعيف فيه خير ، فهو خير من الكافر لا شك .

وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون : الاحتراس ، وهو أن يتكلم الإنسان كلاما يوهم معنى لا يقصده ، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين .

وقوله – صلى الله عليه وسلم – : احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، أي : احرص على طاعة الله تعالى ، والرغبة فيما عنده ، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ، ولا عن طلب الإعانة .

ومعنى احرص على ما ينفعك ، " أي : اهتم بما ينفعك اهتمام الحريص الذي يحتاط كثيرا في الأمور " .

وهذه الكلمة جامعة عامة : على ما ينفعك أي : على كل شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا ، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا ، فإنها تقدم منفعة الدين ؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا ، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد .

فقوله : على ما ينفعك ، يشمل منافع الدين والدنيا ، وعند التعارض تقدّم مصلحة الدين .

وفي قوله : احرص على ما ينفعك ، إشارة إلى أنه إذا تعارض منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإننا نقدم المنفعة العليا ، لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة ، وبالعكس إذا كان الإنسان لا بد أن يرتكب منهيا عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد ؛ فإنه يرتكب الأخف ، فالمناهي يقدم الأخف منها ، والأوامر يقدم الأعلى منها .

وقوله – صلى الله عليه وسلم – : واستعن بالله أي : توكل عليه والجأ إليه ، ولا تنس الإستعانة بالله ولو على الشيء اليسير .

يقول الشيخ العثيمين : " ما أروع هذه الكلمة بعد قوله : احرص على ما ينفعك ؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلا ذكيا فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الإستعانة بالله ، وهذا يقع لكثير من الناس ، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به ، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصا على النافع وفعلا له ، أعجب بنفسه ونسي الإستعانة بالله " .

وقوله – صلى الله عليه وسلم – : واستعن بالله ، دلالة على أن يستعان بالله دون غيره ، وأن لا يعتمد على مخلوق ، فالاستعانة هي طلب العون ، ولا يطلب العون من أي إنسان " إلا للضرورة القصوى ، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببا ، لا ركنا تعتمد عليه " .

يقول ابن رجب : " وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصلحة ، ودفع مضرة ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان …. ، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات ، وترك المحظورات " .

وقوله : " لا تعجز " – بكسر الجيم وهو الأفصح – أي لا تفرط في طلب ذلك ولا تضعف عن القيام به ، ولا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه ، بل استمر ؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر ، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ما تم لك عمل .

وكان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يبدأ بالأهم الذي تحرّك من أجله .

وقوله : فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا .

يعني : بعد أن تحرص وتبذل الجهد وتستعين بالله وتستمر ، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك. أنت فعلت الذي تؤمر به ، ولكن الله عز وجل غالب على أمره (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) .

فالإنسان إذا بذل ما يستطيع بذله ، وأخلفت الأمور فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ؛ لأنه فعل ما يقدر عليه ، ولهذا قال : " وإن أصابك شيء " يعني : بعد بذل الجهد والاستعانة بالله عز وجل ، " فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا " .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – : " فأمره بالحرص على ما ينفعه ، والاستعانة بالله ونهانا عن العجز الذي هو الاتكال على القدر ، ثم أمره إذا أصابه شيء أن لا ييأس على ما فاته ، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر إلى الله ، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء :
الأمور أمران : أمر فيه حيلة ، وأمر لا حيلة فيه .
فما فيه حيلة لا تعجز عنه ، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه " .
وجزى الله عنا نبينّا خير الجزاء ، فقد بيّن لنا الحكمة من ذلك ، حيث قال : فإن لو تفتح عمل الشيطان ، أي : تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم ، حتى تقول : لو أني فعلت لكان كذا ، فلا تفعل هكذا ، والأمر انتهى ولا يمكن أن يتغير عما وقع ، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
" .

ولهذا قال : ولكن قل : قدر الله ، أي : هذا قدر الله أي تقدير الله وقضاؤه ، وما شاء الله عز وجل فعله ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، لا أحد يمنعه في ملكه ما يشاء ، ما شاء فعل عز وجل … .

فأنت إذا بذلت الجهد واستعنت بالله ، وصار الأمر على خلاف ما تريد لا تندم ، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يكدر عليك الصفو ، فقد انتهى الأمر وراح ، وعليك أن تسلم الأمر للجبار عز وجل قل قدر الله وما شاء فعل .

وقوله : فَإِنّ لَوْ تفتح عمل الشيطان : (لو) اسمٌ إنّ قصد لفظها ؛ أي : فَإِنّ هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان .

وعمله : ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن ؛ فإن الشيطان يحب ذلك ، قال تعالى : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ .

فإذا رضي الإنسان بالله ربًّا ، وقال : هذا قضاء الله وقدره ، وأنه لا بد أن يقع اطمأنت نفسه وانشرح صدره .

يقول الشيخ ابن عثيمين – " والله لو أنّنا سرنا على هدى هذا الحديث لاسترحنا كثيرا " .

المصدر:

مجلة البحوث الإسلامية

مصطلح الحديث > مسائل في شرح الحديث

https://www.alifta.net/fatawa/fatawas…&MarkIndex=4&0

جزاك الله خيرا

جزاكم الله خيرا
أخي فتحون لقد تنازلت عن لقب قناص الذي كان لي للأخ يوسف الجيريا

اقتباس:

ing.youcef

وَفِي كُلٍّ خَيْرِِ

الراء في (خير) منونة بالكسرة و ليس بالضمة.

معذرة أخي أعد القراءة للحديث بتمعّن ، فإذا ما فهمتَ معنى ( وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) تدرك أنّ الرّاء تبقى بالضّمّة المنونة ، ذلك لأنّ العبارة تشرح ماقبلها ، وهو أنّ كلاهما فيه خيرٌ ، وكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث : خَيْرٌ موجودٌ في كلٍّ من المؤمن القويّ و من المؤمن الضّعيف .

أو قل : وفي كلٍّ من المُؤْمِنَيْنِ خيرٌ /أي و الخير موجود في كليهما .

وبهذا يكون (خيرٌ ) مبتدأ مؤخّر .

انظر في المشاركة التي أضفتها ماذا قال الشيخ العثيمين رحمه الله وهو يشرح (وفي كلّ ٍخير )
،

اقتباس:
قال رحمه الله :

ثم قال – صلى الله عليه وسلم – : وفي كل خير يعني : المؤمن القوي والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير .

وإنّما قال : وفي كلّ خير ، لِئَلاَّ يتوهّم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه ، بل المؤمن الضعيف فيه خير ، فهو خير من الكافر لا شك .

وَفِي كُلٍّ : يقصد بها ( وفي كل واحد من المؤمنَيْنِ )

والله أعلم .

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أمة الله هبة الجيريا

معذرة أخي أعد القراءة للحديث بتمعّن ، فإذا ما فهمتَ معنى ( وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) تدرك أنّ الرّاء تبقى بالضّمّة المنونة ، ذلك لأنّ العبارة تشرح ماقبلها ، وهو أنّ كلاهما فيه خيرٌ ، وكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث : خَيْرٌ موجودٌ في كلٍّ من المؤمن القويّ و من المؤمن الضّعيف .

أو قل : وفي كلٍّ من المُؤْمِنَيْنِ خيرٌ /أي و الخير موجود في كليهما .

وبهذا يكون (خيرٌ ) مبتدأ مؤخّر .

انظر في المشاركة التي أضفتها ماذا قال الشيخ العثيمين رحمه الله وهو يشرح (وفي كلّ ٍخير )
،

وَفِي كُلٍّ : يقصد بها ( وفي كل واحد من المؤمنَيْنِ )

والله أعلم .

حقا، أخطأت، جزاك الله خيرا

أحسن الله لكم

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ing.youcef الجيريا

حقا، أخطأت، جزاك الله خيرا

آمين…وفّقكم الله للعلم النّافع والعمل الصّالح.

بارك الله فيك وجعلها فى ميزان حسناتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.