وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين 2024.

يقول سبحانه وتعالى فى سورة الأنعام، وهى سورة مكية: ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين))(الأنعام : 55)
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين
وورود هذا المعنى فى آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغى أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل فى قوله تعالى : ((ولتستبين)). ونزول هذه الآية فى الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هى من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة فى الفترة الأولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة
فما الذى تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذى يسلكونه، والذى من أجله أصبحوا مجرمين
فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟


لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى فى القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء فى الخلق ولا فى التدبير، ولا فى أى شأن من الشئون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب))(ص:5)


ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون))(الأعراف)


وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوا وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم
وإذن، فأين تقع قريش فى هذا التقسيم؟


لقد كانت قبل تفصيل الآيات هى صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون فى نظر قريش، وفى نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتبعده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هى صاحبة الشرعية، وبقى المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!


إنها نقلة هائلة فى خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا فى المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذى يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذى ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوى السلطان!


لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هى التى يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهى أنه مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله
وهنا نسأل : لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى حس الناس أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر فى خلد أحد – كما استقر فى خلد الأنصار – أن القضية لها معيار أخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله.. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذى لا شىء بعده إلا الضلال، وأن هذه هى القضية الكبرى التى يقاس بها كل شىء، وينبنى عليها كل شىء؟


هل كان يمكن أن يصل الحق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقى لها فى حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة
لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هى سر الموقف كله !
كانت هى التى أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهى قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد – أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأى قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التى أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التى لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله.. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : ((ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حى عن بينة))(الأنفال : 42)


هذا الوضوح الذى أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة .. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن المعقول، وتظل الدعوة ترواح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب0
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !
وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول فى التاريخ !

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نسأل الرحمان أن يستخدمكم في طاعته ومرضاته وأن لا يستبدلكم وبورك فيكم على هذه الإفادة القيمة ثقل بها الكريم موازينكم جزيتم كل الخير وثبتكم المولى على دينه وطاعته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.