قسنطينة.. مدينة الهوى والهواء
الجزائر- العرب أونلاين- صابر بن عامر: قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري تتميز بكونها مبنية على صخرة من الكلس القاسي، مما أعطاها منظراً فريداً.
للعبور من ضفة إلى أخرى شُيّدت عبر العصور عدة جسور، فأصبحت قسنطينة تضم أكثر من 8 جسور بعضها تحطم لانعدام الترميم، وبعضها مازال يصارع الزمن، لذا سميت قسنطينة مدينة الجسور المعلقة.يمر وادي الرمال على مدينة قسنطينة القديمة وتعلوه الجسور على ارتفاعات تفوق 200 متر.
أما تاريخيا فقد بدأ مع قدوم البربر وانتظامهم في قبائل.أطلق الإغريق عليهم اسم النوميديين.وينسب تأسيس قسنطينة إلى التجارالفينيقيين.كان اسمها القديم هو "قرتا" ويعني بالفينيقية "القرية أو المدينة" وكان القرطاجيون يسمونها "ساريم باتيم".
اشتهرت "سيرتا" -الإسم القديم لقسنطينة- لأول مرة عندما اتخذها ماسينيسا ملك نوميدية عاصمة للمملكة.عرفت المدينة بعدها حصار يوغرطة الذي رفض تقسيم مملكة أبيه إلى ثلاثة أقسام، بفضل دعم الرومان وبعد حصار دام خمسة أشهر اقتحم تحصينات المدينة واستولى عليها.عادت سيرتا لتحيا مجداً جديداً مع يوغرطة ملك نوميدية الجديد والذي استطاع أن يتفادى انقسام المملكة إلى ممالك.
دخلت المدينة بعدها تحت سلطة الرومان.وأثناء العهد البيزنطي تمردت سنة 311م على السلطة المركزية فاجتاحتها القوات الرومانية من جديد وأمر الإمبراطور ماكسينوس بتخريبها.
أعاد الإمبراطور قسطنطين بناءها عام 313م.واتخذت اسمه وصارت تسمى القسطنطينة أو قسنطينة.عرفت ابتداء من سنة 429م غزوات الوندال، ثم استعادها البيزنطيون.
ومع دخول المسلمين المغرب عرفت المدينة نوعاً من الإستقلال فكان أهلها يتولون شؤونهم بأنفسهم حتى القرن التاسع ميلادي.عرفت المنطقة قدوم القبائل الهلالية في القرن العاشر ميلادي، وطغت بعدها اللغة العربية على أهالي المنطقة.
دخلت المدينة في عهدة الزيريين ثم الحماديين أصحاب القلعة وبجاية.كما استوطن المدينة الأندلسيون واستقرت بها أيضا الجالية اليهودية، ليتعايش معهم أهل المدينة في سلام وتسامح.وجدير بالذكر أن قدوم اليهود كان بعد سقوط الأندلس التي كانوا يعيشون فيها بسلام في ظل الحكم الإسلامي، ثم طردهم المسيحيون المتعصبون للكنيسة الكاثوليكية في روما بعد سقوط آخر حكام الأندلس.
ومنذ القرن الثالث عشر ميلادي انتقلت المدينة إلى حوزة الحفصيين أصحاب تونس وبقيت في أيديهم حتى دخول الأتراك.
قبل استقرارهم نهائياً في المنطقة حاول الأتراك العثمانيون احتلال المدينة مرات عدة، وكانوا دوماً يصطدمون بمقاومة الحفصيين.وفي سنة 1568م قاد الداي محمد صالح رايس حملة على المدينة، واستطاع أن يستولي عليها من غير قتال.
سنة 1830م، ومع احتلال الجزائر من قبل الفرنسيين رفض أهالي المدينة الاعتراف بسلطة الفرنسيين.حيث قاد أحمد باي حملة ضدّهم واستطاع أن يرد الفرنسيين مرتين في سنتين مختلفتين في معارك للاستيلاء على القنطرة، التي كانت تمثل بوابة الشرق.
وفي عام 1837م استطاعت الحملة الفرنسية بقيادة "دوموريير" التسلل إلى المدينة عبر معابر سرية.ثم حدث الإقتحام، واصطدم الجنود الفرنسيون بمقاومة شرسة للأهالي.وانتهت المعركة أخيراً بمقتل العديد من الأهالي، واستقرار المحتلّين في المدينة بعد عدة سنوات من المحاولات الفاشلة.
وتوجد بمحافظة قسنطينة عدة معالم وآثار لعلّ أهمها: "مقابر عصر ما قبل التاريخ" التي كانت مقابر أهالي مدينة قسنطينة على قدر كبير من الفخامة، تقع بقمة جبل، سيد مسيد، في المكان المسمى "نصب الأموات".
كما اكتشفت قبور أخرى تقع تحت "كهف الدببة" وأخرى ناحية "بكيرة"، كما توجد مقابر أخرى بمنطقة "الخروب" بالمواقع المسماة "خلوة سيدي بو حجر" قشقاش، وكاف تاسنغة ببنوارة وتوعد كلها إلى مرحلة ما قبل التاريخ.
ويتجلى عصر ما قبل التاريخ في مجموعة من القبور تسمى "دولمن" ومعناها "المناضد الصخرية"، وكذا مقبرة قديمة تقع على منحدر الجانب الشمالي وتجمع عدداً من المباني الأثرية الدائرية المتأثرة بطريقة الدفن الجماعي والتي تسمى "بازناس" وتدل النصب والشواهد الموجودة على العصر البونيقي، فيما يتجلى الطابع الروماني في المناهج المتعلقة بنظام تخطيط المدن.
كما توجد "الأقواس الرومانية" بالطريق المؤدي لشعاب الرصاص، وكان الماء المتدفق بهذه الأقواس يمر من منبع بومرزوف ومن الفسقية "جبل غريون" إلى الخزانات والصهاريج الموجودة في كدية عاتي بالمدينة، وهذا المعلم هو من شواهد الحضارة الرومانية.
وهناك أيضا "حمامات القيصر" التي ماتزال أثارها قائمة إلى اليوم، وتوجد في المنحدر بوادي الرمال، وتقع في الجهة المقابلة لمحطة القطار، غير أن الفيضانات قد أتلفتها عام 1957م، وقد كانت هذه الحمامات الرومانية تستقطب العائلات والأسر، للاستحمام بمياهها الدافئة والاستمتاع بالمناظر المحيطة بها، خاصة في فصل الربيع.
ومن المعالم الحديثة بقسنطينة نجد "إقامة صالح باي" التي تعتبر منتجعا للراحة، وتقع على بعد 8 كلم شمال غرب قسنطينة، وقد كان من قبل منزلاً ريفياً خاصاً، قام صالح باي ببنائه لأسرته في القرن 18م، لينتصب بناية أنيقة وسط الحدائق الغناء التي كانت تزين المنحدر حتى وادي الرمال، وتتوفر الإقامة على قبة قديمة هي محجّ تقصده النساء لممارسة بعض الطقوس التقريبية التي تعرف باسم "النشرة".
أما عن "المدينة القديمة" فتضفي بدروبها الضيقة وخصوصية بناياتها طابعا مميزاً، وتجتهد ببيوتها المسقوفة وهندستها المعمارية الإسلامية في الصمود مدة أطول، ملمحة إلى حضارة وطابع معماري يرفض الزوال.وتعتبر المدينة القديمة إرثا معنوياً وجمالياً يشكل ذاكرة المدينة بكل مكوناتها الثقافية والاجتماعية والحضارية.
وقد عرفت قسنطينة كغيرها من المدن والعواصم الإسلامية "الأسواق المتخصصة" فكل سوق خص بتجارة أو حرفة معينة، وما زالت أسواق المدينة تحتفظ بهذه التسميات مثل: الجزارين، الحدادين، سوق الغزل، وغيرها.هذا إلى جانب المساحات التي تحوط بها المنازل والتي تسمى الرحبة، بل وتخصص معين مثل رحبة الصوف ورحبة الجمال.أما الأسواق الخاصة بكل حي من أحياء المدينة، فإنها كانت تسمى "السويقة"، وهي السوق الصغير، وما يزال حيا للمدينة القديمة إلى اليوم يسمى "السويقة".
إلى ذلك، طغت على قسنطينة صبغتها الثقافية والدينية منذ القدم، وتكرس هذا المظهر بعد انتشار الإسلام بها، فعرفت عملية بناء المساجد بها سيرورة دائمة، ومن أهم هذه المساجد: "الجامع الكبير" الذي بني في عهد الدولة الزيرية سنة 503هـ، 1136م، وقد أقيم على أنقاض المعبد الروماني الكائن بنهج العربي بن مهيدي حاليا، تغيرت هندسته الخارجية جراء الترميم، ويتميز بالكتابات العربية المنقوشة على جدرانه.
وكذلك "جامع سوق الغزل" الذي أمر ببنائه الباي حسن وكان ذلك عام "1143هـ، 1730م"، لكن القيادة العسكرية الفرنسية حولته إلى كاتدرائية وظل كذلك إلى أن عاد إلى أصله فيما بعد.
المتعارف عن قسنطينة أنها كانت محصنة بسور تتخله سبعة أبواب، وبعضهم يقول ستة، تغلق جميعها في المساء وهي: "باب الحنانشة"الذي يسمح بالخروج من شمال المدينة عبر وادي الرمال، ويؤدي إلى الينابيع التي تصب في أحواض مسبح سيدي مسيد.و"باب الرواح" الذي يمتد عبر سلم مثير للدوار، ويؤدي إلى الناحية الشمالية من وادي الرمال ويوصل هذا الباب إلى منابع سيدي ميمون التي تصب في المغسل.
و"باب القنطرة" الذي يصل المدينة بالضفة الجنوبية لوادي الرمال.و"باب الجابية" الذي ينفتح على الطريق الممتد إلى سيدي راشد ويقع على ارتفاع 510م.و"باب الجديد" الذي كان يقع شمال ساحة أول نوفمبر، حيث هدم سنة 1925.و"باب الواد" أو "باب ميلة" الذي يسمح بالوصول إلى روابي كدية عاتي، وقد كان يوجد بمكان قصر العدالة حاليا.
وقد كانت هذه الأبواب تقوم بوظيفة التحصين للمدينة ضد الغرباء وبدأت تختفي بالتدريج إلى أن أزال الاحتلال الفرنسي أثارها كلية.
وبين كل هذه الأبواب نجد اليوم "نصب الأموات" الذي يعود بناؤه إلى سنة 1934م، وقد شيد تخليدا لموتى فرنسا الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى ومن سطحه يستطيع الزائر أن يمتع ناظريه ببانوراما عجيبة لمدينة قسنطينة، أقيم عليه تمثال النصر الذي يبدو كطائر خرافي يتأهب للتحليق.ومن خصوصيات هذا النصب أنه يقع تماماً في منتصف المسافة بين الجزائر العاصمة وتونس، ويوجد قبالته تمثال"مريم العذراء" والمسمى "سيدة السلام".
ونظراً لتضاريس المدينة الوعرة وأخدود وادي الرمال العميق الذي يشقها، أقيمت عليها سبعة جسور لتسهيل حركة التنقل، واشتهرت بعد ذلك قسنطينة باسم مدينة الجسور المعلقة، وهي: "جسر باب القنطرة" وهو أقدم الجسور بناه الأتراك عام 1792م وهدمه الفرنسيون ليبنوا على أنقاضه الجسر القائم حاليا وذلك سنة 1863م.
و"جسر سيدي راشد" ويحمله 27 قوسا، يبلغ قطر أكبرها 70م، ويقدر علوه بـ105م، وطوله بـ447م وعرضه بـ12م، بدأت حركة المرور به سنة 1912م، وهو أعلى جسر حجري في العالم.و"جسر سيدي مسيد" بناه الفرنسيون عام 1912م ويسمى أيضا بالجسر المعلق، يقدر ارتفاعه بـ175م وطوله بـ168م، وهو أعلى جسور المدينة.
و"جسر ملاح سليمان" وهو ممر حديدي خصص للراجلين فقط ويبلغ طوله 15م وعرضه مترين ونصف، وهو يربط بين شارع محطة السكك الحديدية ووسط المدينة.و"جسر مجازن الغنم" وهو امتداد لشارع رحماني عاشور، ونظرا لضيقه فهو أحادي الإتجاه.و"جسر الشيطان" وهو جسر صغير يربط بين ضفتي وادي الرمال ويقع في أسفل الأخدود.و"جسر الشلالات" الذي يوجد على الطريق المؤدي إلى المسبح وتعلو الجسر مياه وادي الرمال التي تمر تحته مكونة شلالات، وبني عام 1928م.
هذا ومن المشاريع المستقبلية للجسور بمدينة الجسور قسنطينة هناك مشروع لبناء "جسر الرمال العملاق" نسبة إلى وادي الرمال، والذي سيكون بطول 1150م وبعرض 25م، في شكل طريقين ذهابا وطريقين إيابا بالإضافة إلى سكتي "ترامواي" في وسط الجسر وعلى إرتفاع أكثر من 100م وسيمتد من مرتفعات "حي المنصورة" وصولا إلى "حي جنان الزيتون" ومن المفروض أن يكتمل بناءه نهاية العام الجاري 2024، وقد خصصت له ميزانية بمقدار 250 مليون دينار جزائري.
ويطلق الشعراء على قسنطينة اسم مدينة "الهوى والهواء" وهذا نظرا للطافة جوها، ورقة طباع أهلها، وانتشار البساتين والأشجار في كل أرجائها وبذلك تتوفر المدينة على عدة حدائق عمومية تعمل على تلطيف الجو داخلها، ولعل أهم هذه الحدائق والتي ما زالت تحافظ على رونقها وجمالها، "حديقة بن ناصر" أو كما يطلق عليها "جنان الأغنياء" وتتوسط شارع باب الواد، وبحي سيدي مبروك توجد حديقتان إحداهما تقع بالمنطقة العليا والأخرى تقع بالمنطقة السفلى.
هذا علاوة على حمامات المدينة التي يعود تاريخ بنائها إلى العهد العثماني محافظة على شكلها وهندستها ووظيفتها، ويبلغ عددها حوالي 20 حماماً ما زال سكان المدينة يقصدونها ويفضلونها على الحمامات العصرية، ولعل أول حمام بناه الأتراك كان حمام "ثلاثة" الكائن بحي الشط، ويطلق عليه أيضا اسم حمام "لهوا" كونه بني فوق المنحدر أما سبب تسميته بحمام "ثلاثا" فلأنه كان الوحيد الذي حدد سعره بثلاثة "صوردي" بينما حدد في الحمامات الأخرى ما بين خمسة وثلاثة "صوردي" أنذاك.