وظيفة علماء الدين [1]
جمع وتقديم : نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي .
الناشر : دار الغرب الإسلامي، الطبعة : الأولى، 1997 .
لا توجد في الإسلام "وظيفة" أشرف قدرًا، وأسمى منزلة، وأرحب أُفقًا، وأثقل تبِعةً، وأوثق عهدًا، وأعظم أجرًا عند الله، من وظيفة العالِم الديني؛ ذلك لأنه وارثٌ لمقام النبوة، وآخذ بأهمِّ تكاليفها، وهو الدعوة إلى الله، وتوجيهُ خَلْقه إليه، وتزكيتهم، وتعليمهم، وترويضهم على الحق حتى يفهموه ويقبَلوه، ثم يعملوا به ويعملوا له .
فالعالِم – بمفهومه الدِّينيِّ في الإسلام – قائدٌ ميدانُه النفوسُ، وسلاحه الكتاب والسنَّة وتفسيرُهما العمَلي من فِعل النبي صلى الله عليه وسلم وفِعل أصحابه، وعونُه الأكبر على الانتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسَه، ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام، وأن يطرح حظوظَها وشهواتِها من الاعتبار، وأن يكون حظُّه من ميراث النبوة أن يزكِّيَ ويعلِّمَ، وأن يقول الحق بلسانه، ويحقِّقه بجوارحه، وأن ينصرَه إذا خذَله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوَّة .
أما الوسيلة الكبرى في نجاحه في هذه القيادة فهي أن يبدأ بنفسه في نقطة الأمر والنهي، فلا يأمر بشيء مما أمَر به اللهُ ورسوله حتى يكون أولَ فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون أول تاركٍ له … كل ذلك ليأخذَ عنه الناس بالقدوة والتأسي أكثرَ مما يأخذون عنه بوساطة الأقوال المجرَّدة والنصوص اللفظية؛ لأن تلاوة الأقوال والنصوص لا تعدو أن تكونَ تبليغًا، والتبليغُ لا يستلزم الاتِّباع، ولا يُثمِر الاهتداء ضربة لازم، ولا يعدو أن يكونَ تذكيرًا للناسي، وتبكيتًا للقاسي، وتنبيهًا للخامل، وتعليمًا للجاهل، وإيقاظًا للخامل، وتحريكًا للجامد، ودلالة للضالِّ … أما جرُّ الناس إلى الهداية بكيفية تشبهُ الإلزامَ فهو في التفسيرات العمَلية التي كان المرشدُ الأولُ يأتي بها في تربيته لأصحابه، فيعلِّمهم بأعماله أكثرَ مما يعلّمهم بأقواله؛ لعِلمِه وهو سيد المرسَلين بما للتربية العملية من الأثر في النفوس، ومن الحفز إلى العمل بباعثٍ فِطري في الاقتداء، وقد رأى مصداقَ ذلك في واقعة الحُديبيَة حين أمر أصحابَه بالقول فتردّدوا، مع أنهم يعلمون أنه رسولُ الله، وأنه لا ينطق عن الهوى، ثم عمِل فتتابعوا في العمل اقتداءً به، وكأنهم غيرُ مَن كانوا .
كان الصحابة لاستعدادهم القويِّ لتحمُّل الإسلام بقوة يحرصون على أخذِ همَّات العباداتِ من فِعله صلى الله عليه وسلم، كما يحرصون على التمثُّل بأخلاقه، والتقليد له في معاملته لله ومعاملته لخَلْقه، وعلى التأسي به في الأفعال والتَّرك في شؤون الدِّين والدنيا؛ لعلمهم أن الفعل هو المقصد والثمرة، وأن الأقوال في معظم أحوالها إنما هي أدوات شرح، وقوالب تبليغ، وآلات أمرٍ ونهيٍ، ووسائل ترغيب وترهيب، وأن في قول قائلهم: "أنا أشبهكم صلاةً برسول الله" دليلاً على تغلغل هذه النظرة في مستقرِّ اليقين من بصائرهم، وأنهم كانوا يتشددون في أخذ الصُّوَر العملية من أفعاله صلى الله عليه وسلم كما هي، ويتحرَّجون من التقصير فيها، ومرماهم في ذلك أن العمليات المأخوذةَ من طريق العيان أقربُ إلى اليقين وموافقةِ مراد الله منها، وبذلك تتحقق آثارُها في النفوس، وقد كانوا يفهمون العبادة بهذا المعنى: أن تعبدَ اللهَ كما شرَع، على الوجه الذي شرَع؛ فالكيفيات داخلة في معنى التعبُّد؛ لذلك لم يُحدِث السلف زوائدَ على العبادات من أذكار وغيرها بدعوى أنها زيادةٌ في الخير، كما عمِل الخلف، وكانوا يفهمون يُسْرَ الدين بمعناه السامي، وهو أنه لا إرهاقَ فيه ولا إعناتَ، وأنه ليس في المقادير الزائدة عن إقامة التكاليف أو في المعاذير الصحيحة العارضة للتكاليف، لا كما نفهمه نحن تساهلاً وتطفيفًا .
فَهِمَ علماءُ السلف الإسلامَ كاملاً بعقائده وعباداته، وأحكامه وأخلاقه، وفهِموا ما بين هذه الأجزاء من الترابط والتماسك، ووَحْدة الأثر والتأثير، وأنها – في حقيقتها – شيءٌ واحد، هو الدِّين، وهو الإسلام، وأن ضياع بعضها مؤذِنٌ بضَياع سائرها، أو هو ذريعةٌ له، فلا يقوم دِين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها، وإذا قال القرآن: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13] … فمعناه إقامة جميعها، وأنه ليس من هذا الدِّين أن يصلِّيَ المسلم ثم يكذب، ولا أن يذكُرَ الله ثم يحلف به حانثًا باللسان الذي ذكَره به متقرِّبًا إليه، ولا أن يُمسكَ عن الطعام ثم يأكل لحوم الخَلْق، ولا أن يخاطب ربه: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] ثم يتوجَّه إلى غيره عابدًا ومستعينًا فيما هو من خصائصِ الألوهية، ولا أن يقولَ بلسانه ما ليس في قلبه، ولا أن يأمرَ الناس بالجهاد ثم يرضى لنفسه بأن يكون مع الخوالف، أو ببَذْل المال في سبيل العلم ثم يقبِض يديه كأنه خارج من التكليف، أو بالبِرِّ وينسى نفسه، ولا أن يترخص في الحق إرضاءً لغويٍّ أو غنيٍّ، ولا أن يؤخِّر كلمة الحق عن ميقاتها حتى يضيع الحق .
وكان كل واحد منهم يرى أنه مستحفَظٌ على كتاب الله، ومؤتَمَنٌ على سنَّة رسوله، في العمل بها وتبليغها كما هي، وحارس لهما أن يحرِّفَهما الغالُون، أو يزيغَ بهما عن حقيقتِهما المبطِلون، أو يعبَث بهما المبتدعة؛ فكل واحد منهم حذِرٌ أن يُؤتَى الإسلام من قِبَله؛ فهو – لذلك – يقِظُ الضمير، متأجِّج الشعور، مضبوط الأنفاس، دقيق الوزن، مرهَف الحس، متتبِّعٌ لِما يأتي الناسُ وما يذَرُون من قول وعمل، سريع الاستجابة للحقِّ إذا دعا داعيه، وإلى نجدته إذا رِيع سِربُه، أو طرق بالسر حماه .
وكانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل لأول ما تنجمُ ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطرٌ حتى يُوسِعوه إبطالاً ومحوًا، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شرُّه، ويستفحل أمره، فتستغلظ جذورُه، ويتبوَّأ من نفوس العامة مكانًا مطمئنًّا .
وكانوا يذكرون دائمًا عهدَ الله، وأنه أخذ عليهم ميثاقَ الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، وأن الحقَّ هو ما جاء به محمدٌ عن ربِّه لهداية البشرِ وصلاح حالهم .
وكانوا يَزِنون أنفسهم دائمًا بميزان الكتاب والسنَّة، فما وجدوا من زيغ أو عِوَج قوَّموه في الحال بالرجوع والإنابة، كما يفعل المفتونون بالجسمانيات في عصرنا هذا في وزن أبدانهم كل شهر …
كان العلماء يردُّون كلَّ ما اختلفوا فيه من كل شيء إلى كتاب الله وسنَّة رسوله، لا إلى قول فلان، ورأي فلان، فإذا هم متَّفقون على الحقِّ الذي لا يتعدَّد، ولقد أنكر مالكٌ على ابن مهدي – وهو قرينُه في العِلم والإمامة – عَزْمَه على الإحرام من المسجد النبوي، فقال ابن مهدي: إنما هي بضعة أميال أزيدُها، فقال مالك: أوَما قرأت قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]؟ وأية فتنة أعظم من أن تسوِّل لك نفسُك أنك جئت بأكملَ مما جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كلامًا هذا معناه … ثم تلا قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] الآية، وقال كلمته الجامعة التي كأنَّ عليها لألاءَ الوحيِ، وهي قوله: "فما لم يكُنْ يومئذٍ دينًا، فليس اليوم بدِينٍ" .
وكانوا يحكِّمون دِينَهم في عقولهم، ويحكِّمون عقولَهم في ألسنتهم، فلا تصدر الألسنةُ إلا بعد مؤامرة العقل، ويعُدُّون العقل مع النص أداةً للفهم معزولةً عن التصرُّف، ومع المجملات ميزانًا للترجيح، يدخل في حسابه المصلحة والضرورة، والزمان والمكان والحال، ويميز بين الخير والشر، وبين خير الخَيْرين، وشر الشَّرَّين؛ لذلك غلب صوابُهم على خطئِهم في الفهم وفي الاجتهاد؛ ولذلك أصبحت فُهومُهم للدِّين وسائلَ للوصول إلى الحق، وآراؤهم في الدنيا موازين للمصلحة، وما هم بالمعصومين، ولكنهم لوقوفهم عند الحدود وارتياض نفوسِهم على إيثار رضا الله وشعورِهم بثقل عهده – وفَّقَهم اللهُ لإصابة الصواب .
وكانوا يَزِنون الشدائد التي تصيبهم في الطريقِ إلى إقامة دِين الله بأجرِها عنده، ومثوبتِها في الدار الآخرة، لا بما يفُوتهم من أعراض الدنيا، وسلامة البدن، وخفض العيش، وراحة البال، فكل ما أصابهم من ذلك يعُدُّونه طريقًا إلى الجنة، ووسيلةً إلى رضا الله .
وكانوا ملوكًا على الملوك، واقفين لهم بالمرصاد، لا يقرُّونهم على باطل ولا منكَرٍ، ولا يسكتون لهم على مخالفةٍ صريحة للدِّين، ولا يتساهلون معهم في حق الله، ولا يترضَّونهم فيما يُسخِط الله.
بتلك الخلال التي دللْنا القارئ عليها باللمحة المنبِّهة قادوا الأمَّةَ المحمَّديةَ إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وبسَيْر الأمراءِ المصلِحين على هداهم سادوا أغلبَ الجزء المعمور من هذه الأرض بالعدل والإحسان؛ إذ كان الأميرُ في السِّلم لا يصدُرُ إلا عن رأيهم، والقائد في الحرب لا يسكِّنُ ولا يحرِّكُ إلا بإشارتهم في كل ما يرجع إلى الدِّين؛ فجِماع أمر العلماء إذ ذاك أنهم كانوا "يقودون القادة"، وما رفعهم إلى تلك المنزلةِ – بعد العِلم والإخلاص – إلا أنهم كانوا "حاضرين" غيرَ "غائبين…"، كانوا يحضرون مجالسَ الرأي مبشِّرين شاهدين، وميادينَ الحرب مُغِيرين مجاهدين، طبَعهم الإسلام على الشجاعة بقسميها: شجاعة الرأي وشجاعة اللقاء، فكانوا يلقون الرأي شجاعًا فيقهر الآراء، ويخوضون الميادين شُجعانًا فيقهرون الأعداء… وللآراء اقتتال يظفَرُ فيه الشجاع القوي، كما للأناسيِّ اقتتال يظفَرُ فيه الشُّجاع القوي، والعالِم الجبان في أمَّة عضوٌ أشلُّ، يَؤُود ولا يَذُود، ولعمري إنَّ في اتحاد صفِّ الصلاة وصفِّ القتال في الاسم والاتجاه والشَّرائط: لَمَوقفَ عِبرةٍ للمتوسِّمين .
صدَق أولئك العلماءُ ما عاهدوا الله عليه، وفهِموا الجهاد الواسع؛ فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القَبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وإن القَبول جزاءٌ من الله على الإخلاص يعجِّلُه لعباده المخلِصين، وهو السرُّ الإلهيُّ في نفع العالِم والانتفاع به، وهو السائق الذي يَدُعُّ النفوسَ المدبِرةَ عن الحقِّ إلى الإقبال عليه، ونفوذُ الرأي وقَبول الكلام من العالِم الديني الذي لا يملِكُ إلا السلاح الرُّوحيَّ، هو الفارق الأكبر بين صَولة العِلم وصولة المُلْك، وهو الذي أخضع صولةَ الخلافة في عنفوانها لأحمدَ بن حنبل، وأخضع صولة المُلك في رعونتها للعز بن عبد السلام … وإن موقف هذين الإمامين من الباطل لعبرةً للعلماء لو كانوا يعتبرون، وإن في عاقبتهما الحميدةِ لآيةً من الله على تحقيق وعدِه بالنصر لمن ينصُرُه .
نصَر اللهُ أولئك الرجال الذين كانوا يوم الرأي صدورَ محافلَ، ويوم الرَّوع قادةَ جَحَافلَ، وفي التاريخ محققين لنقطة الاقتراب، بين الحرب والمحراب؛ فلقد كانوا يقذِفون بكلمة الحق مجلجلةً على الباطل، فإذا الحقُّ ظاهرٌ، وإذا الباطل نافر، ويقذفون بعزائمهم في مزدحم الإيمان والكفر، فإذا الإيمان منصور، وإذا الكفر مكسور، ووصل الله ما انقطع منَّا بهم، بإحياء تلك الخلال، فما لنا من فائت نتمنَّى ارتجاعه أعظم من بعثِ تلك الشَّجاعة؛ فهي أعظمُ ما أضَعْنا من خِصالهم، وحُرِمناه – بسوء تربيتنا – من خلالهم … ولَعَمْري إن تلك القوى لم تمُتْ، وإنما هي كامنة، وإن تلك الشُّعَل لم تنطفِئْ؛ فهي في كنَفِ القرآن آمنةٌ، وما دامت نفحات القرآن تلامس العقول الصافية، وتلابس النفوس الزكية، فلا بد من يومٍ يتحرَّكُ فيه العلماء فيأتون بالأعاجيب .
وما زِلْنا نلمح وراء كل داجيةٍ في تاريخ الإسلام نجمًا يُشرِق، ونسمع بعد كلِّ خفتةٍ فيه صوتًا يخرق، من عالِمٍ يعيش شاهدًا، ويموت شهيدًا، ويترك بعده ما تتركه الشمسُ من شَفَقٍ يَهدي السَّارِينَ المُدلِجِين إلى حين .
وما علِمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقَفَّيْنا آثارَهم من علماء الإسلام، مَثلاً شَرودًا في شجاعة النِّزال بعد الحافظ (الربيع بن سالم) عالِم الأندلس، بل أعلم علمائها في فقه السنَّة لعصره؛ فقد شهد وقعةً تُعَد من حوامد الأعمار، فبَذَّ الأبطالَ المساعير، وتقدَّم الصفوف مجلِّيًا ومحرِّضًا، والحرب تقذف تيارًا بتيار، حتى لقي ربَّه من أقرب طريق … ولا علمنا فيهم مِثالاً في شجاعة الرأي العامِّ أكملَ من الإمام أحمد ابن تيمية – وعصراهما متقاربانِ – فقد شنَّها حربًا شعواء على البِدَع والضلالات، أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثرَ أتباعًا وشيوخًا، يُظاهِرُها الولاة القاسطون، ويؤازِرُها العلماء المتساهلون المتأوِّلون .
________________________________________
[1] مجلة "المنهل"، محرم 1372هـ/ أكتوبر 1952م، جدة .