تخطى إلى المحتوى

مَن منّا يُشبه النّخلة؟ 2024.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مَن منّا يُشبه النّخلة؟

مماثلة المؤمن للنّخلة

للشيخ عبدالرزاق البدر وفّقه الله .

إنَّ الشّجرة الكريمة المباركة – أعني النّخلة – التي هي أفضل الشجر وأطيبه وأحسنه قد جعلها الله في كتابه الكريم مثلاً لعبده المؤمن ، يقول الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:??–??] .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ )) فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ . ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : (( هِيَ النَّخْلَةُ )) [1] وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ , مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ )) [2].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ عَلَيْهِ رُطَبٌ فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةً { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } قَالَ : ((هِيَ النَّخْلَةُ )) ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } قَالَ : (( هِيَ الْحَنْظَلُ )) قَالَ : فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ أَبَا الْعَالِيَةِ فَقَالَ : صَدَقَ وَأَحْسَنَ[3].

والنخلة إنّما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأن جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن لأنّها أفضل الشجر وأحسنه وأكثره عائدة ، ويكفيها فضيلة أنّها خُصت من بين سائر الشجر بأن جُعلت مثلاً للمؤمن ؛ ممّا يدل على كريم فضلها ورفيع قدرها وتنوع فضائلها ، كثبات أصلها وارتفاع فرعها وإيتائها أكُلَها كل حين ووصفها بالبركة وأنّها لا يؤخذ منها شيء إلاّ نفع ، ونحو ذلك مما يدل على فضل النّخلة وتميّزها وتشابهها مع المؤمن المطيع لله الذي قامت في قلبه كلمة الإيمان وانغرست في صدره وأخذت تثمر الثمار اليانعة والخير المتنوع .

ومن يتأمل في النّخلة والمؤمن المطيع لله يجد بينهما أوجهاً من الشبَه كثيرة ، منها :

&&&- أن النخلة لابد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر ، وكذلك الإيمان لابد له من أصل وفروع وثمر ؛ فأصله الإيمان بأصول الإيمان الستة المعروفة ، وفروعه الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة والقربات العديدة ، وثمراته كل خير يحصِّله المؤمن وكل سعادة يجنيها في الدنيا والآخرة .

&&&- والنخلة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنمِّيها ، فهي لا تحيا ولا تنمو إلا إذا سقيت بالماء ، فإذا حُبس عنها الماء ذبلت ، وإذا قُطع عنها تماماً ماتت ؛ وهكذا الشأن في المؤمن لا يحيا الحياة الحقيقية ولا تستقيم له حياته إلا بسقي من نوع خاص ؛ وهو سقي قلبه بالوحي : كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122] .

وبهذا يُعلم أن شجرة الإيمان في القلب ، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح وإلاّ أوشكت أن تيبس . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ )) [4] .

&&&- ومن أوجه الشّبه بين المؤمن والنخلة : أن النخلة شديدة الثبوت كما قال الله تعالى { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } ، وهكذا الشأن في الإيمان إذا رسخ في القلب ؛ فإنّه يصير في أشد ما يكون من الثّبات لا يزعزعه شيء بل يكون ثابتاً كثبوت الجبال الرواسي ، سُئل الأوزاعي رحمه الله عن الإيمان أيزيد ؟ قال : " نعم حتى يكون مثل الجبال " قيل : أينقص ؟ قال : " نعم حتى لا يبقى منه شيء " .

&&&- والنخلة لا تنبت في كل أرض ، بل لا تنبت إلا في أراضٍ معيَّنة طيبة التربة ، فهي في بعض الأماكن لا تنبت مطلقاً ، وفي بعضها تنبت ولكن لا تثمر ، وفي بعضها تثمر ولكن يكون الثمر ضعيفاً ، فليست كل أرض تناسب النخلة . وهكذا الشأن في الإيمان ؛ فهو لا يثبت في كل قلب ، وإنّما يثبت في قلب من كتب الله له الهداية وشرح صدره للإيمان ، والقلوب أوعية متفاوتة وبعضها أوعى من بعض .

&&&- وقد وصفت النخلة في الآية بأنّها شجرة طيبة ، وهذا أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمر وطيب المنفعة ؛ والمؤمن كذلك أجلُّ صفاته الطيب في شؤونه كلها وأحواله جميعها ، في ظاهره وباطنه وفي سره وعلنه ، ولهذا عندما يدخل المؤمنون الجنّة تتلقاهم خزنتها قائلة لهم : {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر:??] ، وقال تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل:32] .

&&&- والنخلة وصفت بأنّها ما أخذت منها من شيء نفعك كما في حديث ابن عمر المتقدم ، فكل شيء في النخلة ينفع ، وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه وجلسائه ؛ لا يُرى فيه إلا الأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة والمعاملة الحسنة والنصح لجلسائه وبذل الخير لهم ، ولا يصلُ إليهم منه ما يضر ، بل لا يصل إليهم منه إلا ما ينفع .

&&&- ثم إن قلب النخلة وهو الجمار من أطيب القلوب وأحلاها ؛ إذ هو حلو الطعم جميل المذاق ، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب وأحسنها ، لا يحمل إلا الخير ، ولا يبطن سوى الاستقامة والصلاح والسلامة .

&&&- وثمر النخلة من أنفع ثمار العالم وله حلاوة لا تدانيها حلاوة ، وكذلك الإيمان له حلاوة ولذة لا يذوقها إلا صحيح الإيمان . عن أنس رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )) [5].

&&&- ثم إن النّخل بينه تفاوت عظيم في شكله ونوعه وثمره ، فليست النخيل في مستوى واحد في الحسن والجودة بل بينه من التفاوت والتمايز الشيء الكثير ؛ وهكذا الشأن بين المؤمنين ، فالمؤمنون متفاوتون في الإيمان ، وليسو في الإيمان على درجة واحدة ، بل بينهم من التفاوت والتفاضل الشيء الكثير ، كما قال الله تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر:32] .

&&&- والنخلة كلّما طال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها ، وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيره وحسن عمله . عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه : أن أعرابياً قال : يا رسول الله مَن خير الناس ؟ قال : (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))[6]

فهذه بعض أوجه الشَّبَهِ بين المؤمن وبين النخلة ؛ يحيا بتأملها قلب المؤمن ، ويزيد إيمانه ، ويقوى يقينه ، ويعظم شكره وحمده لربه .

قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .

بما تقدَّم يعلم أن الإيمان شجرة مباركة عظيمة النفع غزيرة الفائدة كثيرة الثمر لها مكان خاص تغرس فيه ولها سقي خاص ولها أصل وفرع وثمار :

أما مكانها : فهو قلب المؤمن ، فيه توضع بذورها وأصولها ، ومنه تتفرع أغصانها وفروعها .

وأما سقيها : فهو الوحي المبين ؛ كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبه تسقى هذه الشجرة ، ولا حياة لها ولا نماء إلا به .

وأما أصلها : فهو أصول الإيمان الستّة ، وأعلاها الإيمان بالله تعالى فهو أصل أصول هذه الشجرة المباركة .

وأما فروعها : فهي الأعمال الصّالحة والطاعات المتنوّعة والقربات العديدة التي يقوم بها المؤمن .

وأما ثمراتها : فكلّ خير وسعادة ينالها المؤمن في الدنيا والآخرة فهو ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجه .

وإنا لنسأل الله الكريم أن يُعظِم نماء هذه الشجرة الكريمة المباركة في قلوبنا ، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتقين ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، فإنه خير مسئول وأفضل مأمول .

________________

[1] رواه البخاري (61) ومسلم (2811) .

[2] رواه الطبراني (13514) ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (5848).

[3] الترمذي (3119) مرفوعاً وموقوفاً . وقال الألباني رحمه الله : " ضعيف مرفوعاً ، وصحيح موقوفاً " .

[4] رواه الحاكم (1/4) وحسنه الألباني رحمه الله في (الصحيحة) (1585) .

[5] رواه البخاري (16) ومسلم (43) .

[6] رواه الترمذي (2329) وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1898) .

https://al-badr.net/muqolat/2544

جزاكم الله خيرا …

بارك الله فيك

أحسن الله اليك نقل طيب جعله ربي في موازين حسناتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.