مهنة التدريس بين الصناعة والإتقان
بقلم: خالد ناصر الدين
يكتسب الربط بين مفهومي الصناعة والتدريس مشروعيته انطلاقا من الدلالات المعجمية لكلمة "صناعة"[1]، فيقال: صَنَعُ اليدين وصِنْعُ اليدين بكسر الصاد: أي صانع حاذق (…) وامرأة صناع اليد: أي حاذقة ماهرة بعمل اليدين (…) حاذقة بالعمل (…) وصنعه يصنعه صنعا، فهو مصنوع وصنعه: عمله، والصناعة: حرفة الصانع، وعمله الصنعة. والصناعةُ: ما تستطيع من أمر… والصِّناعة والصَّناعة: العلم الحاصل بمزالة العمل كالخياطة والحياكة. وقيل الصَّناعة (بالفتح) تستعمل في المحسوسات، والصِّناعة (بالكسر) تستعمل في المعاني، والجمع صناعات وصنائع.
إن معاني الصناعة تتمحور حول علم العمل الذي يمارسه الشخص، وما يتصل بذلك من تحصيل ملكاته، وكذا الحذق والمهارة والتأديب والتخريج، وما دام الأمر يتعلق في هذا السياق بالمدرس فإن هذه المفاهيم كلها تتساوق وشخصية المدرس، فمفهوم الصناعة يشمل كل ما يدخل في تكوين المدرسين، وتهيئهم معرفيا وبيداغوجيا وديداكتيكيا وتربويا وتواصليا وقانونيا حتى يتمكنوا من أداء المهام المنوطة بهم، وقد قالوا: "صنيعة فلان وصنيع فلان إذا اصطنعه وأدَّبه وخرَّجه وربَّاه" [2].
يقول ابن خلدون: "اعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليا هو جسماني محسوس. والأحوال الجسمانية المحسوسة، نقلها بالمباشرة أَوْعَبُ لها وأكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم… وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليّات… ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال، إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، لاسيما في الأمور الصناعية. فلابد له إذن من زمان…" . ترتبط الصناعة بالملكة ارتباطا متينا، وكلما كانت عملية ومباشرة كلما كانت أكمل وأتم فائدة، وتنقسم الصنائع إلى قسمين: بسيط ومركب، فالبسيط يرتبط بالضروريات، والمركب بالكماليات، ويتطلب إتقان الصناعة وحذقها صقلا وتَكرارا، كما يستدعي جهدا ووقتا كافيا.
وبعدما تطرق ابن خلدون إلى مجموعة من الصنائع مثل الْوِرَاقة والْخِيَاطة والبناء والطب والحدادة والغناء والشعر والخط والكتابة، تطرق إلى تعليم العلم، فاعتبره من أعظم الصناعات وأساس بناء العمران. والعلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، فكلما "فَضُلت أعمال أهل العمران عن معاشهم، انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة، فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي، لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدمناه، ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة" [3]. يرتبط التعليم كصناعة بالمجتمعات المتحضرة بالضرورة، وهذا ما يلزم كل راغب في طلبه بالهجرة من القرى والأمصار غير المتمدنة، وتستدعي صناعة التعليم شروطا وملكات وخصوصيات عقلية ونفسية ومظهرية تجعل صاحبها ناجحا مقبولا ومؤثرا.
ويذهب ابن خلدون إلى "أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا، وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي…" [4]. إن تعليم العلم إذا صناعة يستدعي التمكن منها الإلمام بمبادئها وقواعدها ومسائلها وأصولها وفروعها، وإذا كان نقاد الشعر القدماء قد دأبوا على اعتبار الشعر صناعة بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من فن وإبداع وتصوير جميل، وعبروا عن هذا المعنى الفني الاصطلاحي للفظة "صناعة" في كلام واضح، كما نجد عند محمد بن سلام الجمحي مثلا في قوله: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات" [5]. وهذا المعنى هو ما أكده الجاحظ بعبارة الحصر قائلا: "فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" [6]، وقد أكثروا من تشبيه صناعة الشعر بصناعة التصوير والنسيج والبرود والوشي وغيرها من الأعمال التي تستدعي مهارة وحذقا ومقدرة متميزة على الإبداع!! وإذا كان الأمر متعلقا بالشعر وهو في نهاية المطاف لا يعدو كونه إبداعا شخصيا قد يوفق فيه المبدع فيستحق اسم شاعر، وقد لا يوفق فيحسن به البحث عن فن آخر يناسب ميوله وقدراته، فما بالك حين الحديث عن صناعة التدريس التي ترتبط بها جدليا حياة أجيال من الأطفال والمراهقين والشباب الذين يشكلون قلب الأمة النابض، لذلك فإن كل نقص في تكوين المدرس، وكل خلل في جانب من جوانب شخصيته سينعكس بشكل سلبي وخطير على المجتمع ككل، وهذا ما يؤكد محورية وخطورة مهنة التدريس التي يتوقف على إتقان صناعتها توفق أجيال الأمة، والعكس صحيح بالضرورة.
وما دامت صناعة التدريس بهذه الأهمية وبهذه الخطورة، فإنها تفترض شروطا شأنها في ذلك شأن باقي الصناعات، ولعل أول وأهم شرط ينبغي توفره هو: الحب، ذلك الشعور العظيم الذي يجعلك مؤهلا لتجشم كافة المصاعب والمتاعب، كما يجعلك مستعدا لتجاوز كل العرقيل ولاقتحام كافة العقبات، وهو حب "لا يقتصر على الغير، وإنما يتسع ليشمل مطالب العملية التي يتألف منها التدريس ذاته. ولعل من العسير أن يمارس المرء مهمة التدريس دون أن تكون لديه الشجاعة لكي يحب، تلك الشجاعة التي تقتضي محاولة ممارسة ذلك الحب ألف مرة، قبل أن يعلن المرء استسلامه…" [7]، هذا الحب/الوقود يتجسد في كون المدرس يسخر كل مشاعره، وكل طاقته العاطفية لمزاولة مهنته؛ "إننا نمارس كل هذه الأمور بمشاعر من العواطف والرغبات والخوف والشك والشغف مقرونة بعقلية ناقدة، وترجيح الأحول…" [8]، ومما تستوجبه مهنة التدريس أيضا أن يكون المدرس مولعا بأن يعلم الآخرين، وهذا ما "يدعونا إلى ممارسة البحث الممتع عن المعرفة، وهي ممارسة أقل ما توصف به أنها مهمة ليست يسيرة. ولهذه الأسباب فإني أؤكد على أولئك الراغبين في مهنة التدريس ينبغي أن يكونوا قادرين على الجرأة، والتي تعني الاستعداد للنضال من أجل قيم العدل، وأن يتصفوا بوضوح الفكر في دفاعهم عن الحاجة إلى توفير الظروف الملائمة للتربية في المدارس. ومع أن هذا قد يكون عملا ممتعا، لكن عليه في الوقت ذاته أن يتسم بالجدية الفكرية، وينبغي ألا ينظر إليهما على أن إحدى هاتين السمتين قد تغني عن الأخرى" [9].
ويذهب ابن خلدون في فصل بعنوان: "في أن الصنائع لا بد لها من العلم": "اعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليا هو جسماني محسوس، والأحوال الجسمانية المحسوسة، نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم. فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر. وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته…" [10]، ولذلك وجب الاقتصار على صناعة بعينها وعدم الخلط بين اثنتين وربما أكثر وذلك لأن "الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم دفعة واحدة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضَعُف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. وهذا بيِّن يشهد له الوجود. فقَلَّ أن تجد صاحب صناعة يُحْكِمُها، ثم يُحْكِم من بعدها أخرى، ويكون فيهما على رتبة واحدة من الإجادة. حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقَلَّ أن يُجيدَ ملكه علم آخر على نسبته، بل يكون مقصِّرا فيه إن طلبه، إلا في الأقل النادر من الأحوال" [11].
يجب أن يكون المدرس على وعي تام بأنه ملزم بأن يكون على اتصال مستمر بالكتاب وبمصادر المعرفة المختلفة والمتعددة، فالتعليم الذاتي والتكوين المستمر أصبحا من ضرورات المدرس المعاصر، "لأن مجال التعليم مجال متحرك ومتغير، تتحرك فيه البرامج والمناهج والمرجعيات والنظريات التربوية، وتُبسط الآليات الجديدة والتقنيات المعاصرة. ومن عجز عن المسايرة أصبح عالة على غيره، ثم تركه الركب، ووقف محتارا لا يدري ما يصنع، لأن أدوات صناعته أصبحت بالية متجاوزة وكاسدة، ويوما بعد يوم سوف يتأخر عن الركب فيبتعد ويبتعد إلى أن يصبح نَسْيا مَنْسيا" [12].