اعتنى كثير من العرب والمسلمين بتربية أبنائهم تربية صالحة ومن طرق هذه العناية جلب المعلمين لهم من أجل تأديبهم وتعليمهم ما ينفعهم وقد حفلت كتب التراث بالعديد من الوصايا والدرر المقدمة من الآباء لمعلمي أبنائهم نقتطف شيئاً منها.
قال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده: ليكُن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت.. علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيجروه، روهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم، وعلمهم سنن الحكماء، وجنبهم محادثة النساء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلتُ على كفاية منك.
وقال الحجاج لمؤدب بنيه: علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم.
وقال عبدالملك لمؤدب ولده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رعة وأقلهم أدباً، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً ويمصوا الماء مصاً ولا يعبوه عباً، وإذا احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليه.. وقال آخر لمؤدب ولده: لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع وازدحامه في الوهم مضلة للفهم..
وقد أوصى العباس بن محمد معلم ولده فقال: قد كفيتك أعراقهم فاكفني آدابهم.. لا أوتين فيهم منك فإنك لم تؤت فيهم مني: أغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، وعلمهم النسب والخبر فإنه علم الملوك، وأيدهم بكتاب الله تعالى فإنه قد خصهم ذكره، وعمهم رشده.. وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عنه أخذ.. وخذهم بالإعراب فإنه مدرجة البيان، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حارس من أن يظلموا ومانع من أن يظلموا.
وكان عبدالملك بن مروان يقول لمؤدب ولده: علمهم العلوم، وهذبهم بقلة النوم.
وجاء في بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق ذكر عدة وصايا نافعة للمعلم:
أحدهما: ينبغي للمعلم أن يزيد المتعلم على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه، بحسب طاقته وقبوله مبتدئاً أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها، حتى يعيه من أوله إلى آخره.. ويستولي منه على ملكة به ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما، استعد بها لقبول ما بقي، حتى يستولي على الغاية.. وإذا خلط عليه الأمر، عجز عن الفهم، وأدركه الملل، وانطمس فكره، وآيس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم.. والله يهدي من يشاء.
الثانية: ينبغي له أن لا يطول على المتعلم في الفن الواحد أو الكتاب الواحد بتقطيع وتفريق ما بينهما، لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها عن بعض لعسر حصول الملكة بذلك.. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكر، كانت الملكة الناشئة أيسر حصولاً، وأحكم صبغة، لأن الملكة إنما تحصل بتتابع الفعل وتكرره ومتى تنوسى الفعل، فالملكة الناشئة عنه كذلك.. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الثالثة: ينبغي ألا يخلط على المتعلم علمين معاً، فإنه حينئذ قل ان يظفر بواحد منهما، لتقسم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما، إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً، ويستعصبان، ويعود منهما بالخيبة.. قلت: من كلام ابن رشد الحكيم، مقرراً لهذا المعنى.. من أحب أن يتعلم أكثر من شيء واحد في وقت واحد، لم يتعلم واحداً منهما.. وقديماً وردت الوصية بذلك.. وعن بعضهم أنه قال لمؤدب ولده: لا تخرجهم من علم إلى علم، حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع وازدحامه في الوهم، مضلة مغلقة للفهم.
المسألة الثامنة: ان العلوم الآلية لا توسع فيها الأفكار، ولا تفرع المسائل، وذلك لأن العلوم صنفان:
أحدهما: مقصود لذاته، كالتفسير والحديث والفقه وعلم الكلام من الشرعيات، والطبيعيات والالهيات من الحكميات.. وهذه فلا حرج في توسيع الكلام فيها، وتفريع المسائل لمزيد تمكن الملكة بذلك.
الثاني: آلة لذلك المقصود لذاته كالعربية والحساب وغيرهما، للشرعيات والمنطق، للحكميات، وربما كان لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين.. وهذه فلا ينبغي أن يوسع فيها الكلام ولا تفريع المسائل، لخروجها بذلك عن المقصود بها واخلاله بما هي إليه وسيلة، لضيق العمر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة.. وحقيق به الاشتغال بها.. فذلك تضييع للعمر، خوض فيما لا يغني.
بارك الله فيك .
تشكر أخي ابو زكرياء على المرور