أردنا أن نحط الرحال في الساحة الأدبية، و بعد الصول و الجول أراد القلم أن يركن بجانب الشعر و القصة، فاختار خيمة الأديب الراحل جمال الطاهري الملقب بشاعر العرب، و بالمشاغب… و تأتي هذه الالتفاتة التي لابد منها، تقديرا لأعماله في مختلف المجالات و حفظا لصورته المرحة و الرزينة التي لايزال يتذكرها الكثيرون من صغار و كبار و طلبة و أساتذة و حتى الشعراء و الأدباء… رغم رحيله في صمت منذ نوفمبر 1999.
جمال الطاهري أو عبد الكريم علجي و هو اسمه الحقيقي ابن مدينة المدية، ولد في الثاني عشر من سبتمبر عام سبعة وأربعين و تسع مائة وألف (12/09/1947) تربى في أحضان والد ذا ثقافة واسعة و اطلاع كبير، وكانت مدرسة الزوبيرية الحرة بالمدية التي تخرج منها خيرة الأدباء و المثقفين أولى المحطات التي زرعت فيه الحروف الأولى، و تذوق من خلالها حلاوة القراءة و الكتابة، فالتحق بها عاما قبل اندلاع الثورة (1953) و جلس يستمع لشيوخها مثل (الطاهر بركاني ، المهدي بن حجر، محمد بن حفري. تحصل على الإعدادية سنة 1963 ثم انتقل إلى دار المعلمين ببوزريعة في الجزائر العاصمة، أين أمضى سبع (7) سنوات ليتحصل على شهادة أستاذ في الأدب العربي. بعدما نال شهادة الباكالوريا عام 1969. التقى عبد الكريم علجي بالشاعر السوري "شوقي بغدادي" الذي لقنه فنون العروض واكتشف فيه الملكة الشعرية فاستحسنها و صقلها فيه، و منحه الكثير ليكون متمكنا في فقه اللغة. و دخل المعهد التكنولوجي للتربية من بابه الواسع بدون مسابقة، لحصوله على معدل جيد، ودرس سنة ليتخرج في أول دفعة للأساتذة المعربين من بين19 أستاذا على المستوى الوطني سنة 1971. بدأ عمله كمدرس سنة1971 باكمالية رقية مصطفى للبنات بالمدية، ليكمل مسيرة 28عاما من البذل والعطاء في مجال التدريس بعدما انتقل سنة 1978 إلى إكمالية الفضيل اسكندر للبنات"المصلى" لمدية، هي السنة التي غيرت مجرى حياته و بدأت معه فيها معاناته مع مرض العجز الكلوي الذي أصيب به عام 1985، انقسمت أيام جمال الطاهري(علجي) بين التدريس في الأقسام و بين منصات الأدب المتواضعة التي يردّد فيها ما يكتب من شعر و قصص قصيرة. رفض الأستاذ التخلي عن مهنته في القسم رغم الاقتراحات الكثيرة التي عرضت عليه كالتفتيش، الإدارة، ملحق ثقافي بولاية المدية و ذلك حبا لمهنته.
أهم ما ميز هذا الشاعر هو تمرده على كل ما من شأنه أن يقيده أو يشعره بالعجز عن القيام بما كان معتادا عليه، فروحه الإنتقادية لم تمنعه من أن يكون شابا مرحا منكّتا، وكهلا نشطا ونافعا، أيضا تميزّ الطاهري بالصبر و التواضع.
إبداعاته الأدبية
تميزت حياة جمال الطاهري كلها بالعطاء الفكري و الأدبي منذ صغره حتى يوم وفاته، وعندما نحاول أن نتحدث عن الشاعر بعد وفاته يتملكنا إحساس بأننا سنظلمه أكثر ممّا ظلم في حياته. لكننا إذا حاولنا أن نتناول شيئا من شعره فلا بدّ لنا أن نلبس ثوب الشعراء و نعيش في فضائهم، فعندما نجد شاعرا يكتب للجمال، ويتخصص في أدب الأطفال و ينصحهم و يربيهم بقصائده وقصصه، و يحكي همومه و يساهم بأفكاره في المجلات و الجرائد، و عندما نقرأ له نتيقّن أن جمال الطاهري جمع بين الحنان و الأخلاق الفاضلة في كتاباته و تصرفاته.
– أسس جمال الطاهري فكرة و دعا إليها، فكانت رابطة "رابطة فينيس للشعراء و الشباب العرب" و ذلك في سنة 1970 مع الشاعر حسن بن رمضان، و كانت رابطة "فينيس"تنشر أعمالا كثيرة في منابر مختلفة مثل مجلة الشباب الأسبوعية بالجزائر، الأصالة، مجلة الفكر التونسية، الثقافة الليبية، العلم المغاربية، الجمهور اللبنانية، و جريدة الشعب اليومية. و كان إنتاج هذه الرابطة غزيرا ومداوما خاصة من طرف جمال الطاهري الذي وصل لحد كتابة عشرين 20 قصيدة في يوم واحد، و تعرف بالعديد من الشعراء أمثال المغربي الدكتور محمد علي الرباوي، الذي كان مراسلا دائما له و قد زار الطاهري عدة مرات حتى في منزله بالمدية.
– نشر جمال الطاهري باكورة أعماله في أكتوبر 1971 حيث تقدم الشاعر الناشئ بقصائد كثيرة بعث بها إلى مجلة "آمال" للشعر، نالت التقدير الحسن، فخصّته وزارة الثقافةبالعدد الأولمن ملاحق هذه المجلة، و احتوت 66 قصيدة من شعر حرّ موزون و شعر عمودي.
كتب كتب منذ 1964 مجموعة من القصائد للأطفال، كانت جاهزة للنشر سنة 1967 لكن لم يجد لها ناشرا، و ظهرت براعم منها في مجلة "الجزائرية" سنة 1978 التي كانت يساهم فيها جمال الطاهري مع زميله احسن بن رمضان بانتظام. و في سنة 1980 قام بإعداد هذه القصائد في ديوان اسماه "الزهور" و كتبها و رسمها و سلمها إلى مدير شركة النشر و التوزيع بيده، و لكنها لم تنشر، و هكذا تكون هذه المجموعة من القصائد التي عبر عنها صاحبها "بالطفل البريء" قد سجنت مدّة أربع وعشرين(24) سنة، لتعرف النور عام 1991 بمبادرة خاصة منه و بماله الخاص. وقد أتبع هذا الديوان أربعة أجزاء أخرى، اقتطف جمال الطاهري أزهارها من حديقة الحياة ليكون رحيقها شرابا يبعث في الأطفال اعتزازا بالدين و الحياة و الإنسانية والوطن ويكون أريجها عطرا يغمر أنفسهم حب الحياة و عذوبتها، و جمالها، و من بينها: أنشودة "تعلّم" التي يحفظها معظم أطفال المدينة، و أنشودة "عصر العلوم"، "حيوا البنات "، "ابتهالات"، و غيرها كثير، حيث يبلغ عدد كل جزء من ديوان "الزهور" الخمسة حوالي عشرين(20) أنشودة.
– في سنة 1980 تفتحت وردة من أزهاره سمّاها "نفح الياسمين"، فكانت الطبعة الأولى من مجموعة أناشيد للأطفال تبعتها الطبعة الثانية سنة 1997 احتوت ثلاثين(30) أنشودة،كل هذه الأعمال كانت بمجهوداته الخاصة، و طبعها و نشرها بمدينة المدية.
– كتب جمال الطاهري الأوبرات فكانت "الدجاجة المخدوعة" التي نشرها عام 1992
كما كتب مجموعة قصصية للأطفال بعنوان "أحلى الحكايا" استطاع أن ينشر منها جزء واحدا بعنوان "صديق الشدة" و ذلك سنة 1993. و قد كتبها صديقه بن رمضان بخط يده و رسم صورها جمال الطاهري بريشته و نشرت في مدينة المدية أيضا.
و قد عبرت كلمات جمال الطاهري حدود الوطن راكبة صوت المطرب اللبناني الكبير وديع الصافي الذي أعجب بشعره و تزينت تلك الكلمات بألحان الأستاذ نبلي فاضل، الذي اختار هذه القصيدة كي يلحنها، لتكون الأغنية العربية التي أداها وديع الصافي سنة 1997 في الإذاعة الوطنية مطلعها:
– شارك أيضا جمال الطاهري في مجلة " سواسن " للأطفال رفقة الأديب الصحفي محمد كاديك، و أدخل السرور في قلوب الأطفال بقصيدة:
"ياهنا ياهنا * المحوا السوسنا".
و من بين ما جاد به زخمه الشعري في أيامه الأخيرة قصيدة "هبنّقة" التي تحمل أكثر من دلالة، حيث تطرق فيها إلى واقع و حال العرب و المسلمين و خاصة الحكام الذين يصفقون لأمريكا و أتباعها و يفرضون على شعوبهم عيشة الحمقى. وتبنوا سياسة روح القطيع، "وصارت أفضل حال يتواجد عليها صاحب الرأي المخالف أن يطبق المثل الدارج عندنا: "كن مهبول … تشبع كسور"
كتب جمال الطاهري قصيدته المشهورة حول مسقط رأسه، مدينة المدية، تغنى فيها بأصالتها وشموخها و كرم أهلها، وهي بمثابة باعث للإعتزاز و الإفتخار لأهل المدية، و قد عنونها ب: المدية مدينة الأصالة و الشموخ.
جمال الطاهري في اتحاد الكتاب الجزائريين :
إلتحق بعضوية اتحاد الكتاب الجزائريين سنة 1974، نال احترام جميع الكتاب والشعراء أمثال محمد الأخضر السائحي، زهور ونيسي … و بوعمران الشيخ الذي كان على رأس الهيئة التنفيذية (رئيس الإتحاد). كان مرابطا و حاضرا في معظم اجتماعات الاتحاد و ندواته ونشاطاته، مما جعله ينتخب ضمن أعضاء الهيئة التنفيذية للأمانة الوطنية سنة 1990 ولم يتخلف عن المجالس التي يعقدها الاتحاد، فكان ينتقل بسيارته من المدية إلى الجزائر العاصمة رفقة زميله احسن بن رمضان رغم مرضه الذي لازمه منذ1986 و اشتد عليه في السنوات الأخيرة، و قد توفي و هو يشغل صفة العضوية في الاتحاد. يذكره زملاؤه بالوفاء و حسن الخلق مثل الأخضر السائحي الصغير أمين مال الاتحاد، الذي قال لنا في شأنه: "إن الالتفات إلى هذا الإنسان المتخلق شيء جميل جدا، فقد كنت أبادله الاحترام و أشجعه لما يتصف به من أخلاق في تصرفاته و كتاباته، كما أني كنت ألقاه دوما في مجالس الاتحاد.
فكان جمال الطاهري صوتا من الأصوات التي فرضت نفسها بالكتابة الغزيرة و التقويم الصريح و قول الحق بكل عزة و صراحة، كما عاش متواضعا متسامحا في بيئة منحته الأخلاق الفاضلة ووطن أرشفه عطر الحرية و الاعتزاز بالنفس.
شكرا على الالتفاتة الطيبة لأحد أهم شعراء المدية وواحدمن أعلامها نرجو أن تكون البداية لنشر أهم مآثرهم ومآثر الذين خلدوا أسماءهم في دنيا الثقافة والأدب أعانك الله وسدد خطاك