اخترت لكم خاطرة من كتاب ابن الجوزي رحمه الله رائعةمحبة الخالق توجب قلقًا وشوقًا.
112- تأملت قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقًا وشوقًا، وقالت: محبته طاعته، فتدبرت ذلك؛ فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس.
– وبيان هذا: أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية، ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها؛ فإنا نرى خلقًا يحبون أبا بكر رضي الله عنه، وخلقًا يحبون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقومًا يتعصبون لأحمد بن حنبل، وقومًا للأشعري1، فيقتتلون، ويبذلون النفوس في ذلك، وليسوا ممن رأى صور القوم، ولا صور القوم توجب المحبة، ولكن لما تصورت لهم المعاني، فدلتهم على كمال القوم في العلوم، وقع الحب لتلك الصور، التي شوهدت بأعين البصائر، فكيف بمن صنع2 تلك الصور المعنوية وبذلها؟!
وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي، وعرفني ملذوذات علمي؟! فإن التذاذي بالعلم، وإدارك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية، فهو الذي علمني، وخلق لي إدراكًا، وهداني إلى ما أدركته.
– ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع، وحسن ذلك المصنوع. فكل محبوباتي منه وعنه وبه، الحسية والمعنوية، وتسهيل سبل الإدراك به، والمدركات منه، وألذ من كل لذة عرفاني له، فلولا تعليمه، ما عرفته.
ـــــــ
1 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري "260-324"هـ، من الأئمة المتكلمين المجتهدين، كان معتزليًّا، ثم ترك الاعتزال، ورجع إلى ما عليه أهل السنة والجماعة ينافح عن السنة ببيان قاطع وحجة دامغة، ووافق الإمام أحمد في معتقده كما بين ذلك في آخر كتبه الإبانة عن أصول الديانة.
2 في الأصل: ضيع، وهو تصحيف.
– وكيف لا أحب من أنا به، وبقائي منه، وتدبيري بيده، ورجوعي إليه، وكل مستحسن محبوب هو صنعه، وحسنه، وعطف النفوس إليه؟!
– فكذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور، والعجيب الصنعة أكمل من المصنوع، ومعنى الإدراك أحلى عرفانًا من المدرك.- ولو أننا رأينا نقشًا عجيبًا، لاستغرقنا تعظيم النقاش، وتهويل شأنه، وظريف حكمته عن حب المنقوش، وهذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية، إذا خرق نظرها الحسيات، ونفذ إلى ما وراءها، فحينئذ نفع محبة الخالق ضرورة.
119- وعلى قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له: فإن قوي، أوجب قلقًا وشوقًا، وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة، أوجب خوفًا، وإن انحرف به إلى تلمح الكرم، أوجب رجاء قويًا: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك و وفقنا لما تحبه وترضاه
بارك الله فيك وانار دربك