الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الرجوع إلى الحقّ :
أيُّها الأخوة الكرام، ننتقل إلى سورة الشورى، واسمها يدلّ على مضمونها.
ربُّنا جلّ جلاله وصف المؤمنين بأنّ أمرهم شورى بينهم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام المعصوم في أقواله وأفعاله وإقراره، والذي أوحى إليه، وجعله نبيًّا رسولاً، هذا الإنسان الذي هو قِمَّة الخلق، وسيّد الخلق، وحبيب الحق، أمره أن يُشاوِرَ أصحابه، فمن نحن إذا كان النبي المعصوم صلى الله عليه وسلّم قد أُمِر أن يُشاوِرَ أصحابه؟؟ هناك حادثة وردَت في السيرة تُجَسِّد معنى هذه السورة، وهي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام في موقعة بدر ارْتأى موقعًا لِجَيش المسلمين، وأمر أصحابه أن يجلسوا فيه، أحدُ كبار أصحابه و هو الحُباب بن المنذر جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يكادُ يقطر أدبًا، قال: يا رسول الله هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة؟ فتجرَّأ هذا الصحابي الجليل وقال: هذا ليس بِمَوقع ! النبي من خلال هذه الحادثة التي أرادها الله كان قدوةً في قَبول النَّصيحة، هناك فضيلة قلَّما نلتفت إليها ونذكرها، فضيلة الرُّجوع إلى الحق ! فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن أمر أصحابه أن يجلسوا في الموقع الذي أشار إليه سيّدنا الحباب، وكان موقع فيه ماء، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا من خِلال هذه القصَّة أن نرجِعَ إلى الحق !
أذْكُر لكم قِصَّة مشابهة من أجل أن نتبيَّن حِكمتها، النبي عليه الصلاة والسلام صلَّى مرَّةً الظهر ركعتين، أحد أقلّ أصحابه شأنًا وهو ذو اليدين قال: يا رسول الله أقصُرت الصلاة أم نسيت ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: كلّ هذا لم يكن ! فقال بعضهم: بل قد كان ! فسأل عليه الصلاة والسلام أصحابه فقالوا: صليت ركعتين ! فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّما نُسِّيتُ كي أَسُنّ ! لو أنَّ الله عز وجل لم يُنسِ نبيَّهُ عدد ركعات الظُّهر، كيف يسُنّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم سُجود السَّهْو ؟! لهذا قال الله عز وجل:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
[ سورة الأعلى : 6]
أي إلا حينما يقتضي التَّشريع أن تنسى ! ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنا بشر أنسى كما ينسى البشر" فالذي لا ينسى هو الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ ’قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾
[ سورة طه : 52]
كيف أنَّ الله عز وجل أنسى نبيَّه الكريم صلاة الظهر لِيَسُنّ لنا سجود السَّهو كذلك لِحِكمة بالغة حجبَ الله عن النبي الموقع الجيِّد في موقعة بدْر، فكان من الممكن أن يأتِيَهُ جبريل ويصف له الموقع، وكان من الممكن ألا يلهمه الموقع الجيّد لِيَأتي صحابي جليل تظهر فيه شدّة غَيرتِهِ على الدِّين، ويسلهُ بأدَبٍ جمّ، والصحابة أيها الأخوة تعلَّموا أدبًا فوق الخَيال، فهذه القصّة تشير إلى أنّ النبي عليه الصلاة والسلام سنّ لنا فضيلة قد لا ننتبِهُ إليها وهي الرُّجوع إلى الحق. الإصغاء إلى المعارضة من علامة بطولة الإنسان :
إن قال لك ابنك: هذه لا تجوز، لا تنكر عليه وتخجِّلهُ ! من علامة البطولة أن تُصغي إلى المعارضة، والذي يريد الله ورسوله دائمًا يرجع إلى الحق، وقد حدَّثني أخٌ كريم قال لي: حضرتُ مجلس علمٍ في الشام، فقال الشيخ: اسْتوقفتني امرأة وأفتيتها خطأً، وها أنا أُنبِّه على خطئي فإن كانت من الحاضرات في المسجد هنا فلْتَسمع الجواب الصحيح، وإلا فلْتُبلَّغ ! ليس العار أن تخطئ، ولكنّ العار أن تبقى مُخطئًا، وليس العار أن تجهل، ولكنَّ العار أن تبقى جاهلاً، ففضيلة الرُّجوع إلى الحق فضيلة كبيرة، فالجندي قد ينبِّه القائد وهو المستفاد من هذه القصَّة، وأنا أحبّ أن نُحِلّ الشورى محلّ التفرّد بالرأي، ومن استشار الرِّجال استعار عُقولهم، تسأل إنسانًا له خبرة عشرون سنة بِموضوع تجني منه خلال جوابه الشيء الكثير، لذا عوِّد نفسك أن تسأل وتستشير، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أُمر أن يستشير، وهو الذي يُوحَى إليه وهو سيّد الخلق وحبيب الحق، فمن نحن ؟! فكلّ واحد عليه أن يسأل قال تعالى:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الأنبياء : 7]
أمر إلهي، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾
[ سورة الفرقان : 59]
الاستخارة و الاستشارة :
لكل إنسان موضوعان ؛ موضوع الآخرة فاسْأل بها خبيرًا، وموضوع الدنيا فاسأل أهل الرأي والخِبرة، واسْتَشِر أهل الخِبرة من المؤمنين، لأنَّ غير المؤمن ولو كان ذا خِبرة فإنَّه يغشُّك ! والمؤمن غير الخبير لا فائدة من استشارته، ولا بدّ قبل كلّ هذا استِخارة الله، وما ندم من استشار، وما خاب من استخار، وطِّن نفسك ان تسأل أولادك أحيانًا ! والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُشاور أزواجه، وهذه: شاوِرُهنّ ثمّ خالفهنّ ليس لها أصل ! فقد استشار أم سلمة في صلح الحديبيّة، والله عز وجل قال:
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
[سورة النساء : 19]
والفعل هنا للأمر، ويقتضي المشاركة، لذا وطِّن نفسك ألا تكون فردياً واسْتِبدادياً، كُن مؤمنًا مُطبِّقًا للشورى في بيتك وعملك. الشورى :
لذا الشورى أحد أكبر صفات المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام أُمِر أن يُشاوِر، فالإنسان بِزَواج أولاده وبناته وعمله عليه أن يُشاور، ويستخير، فنحن خطؤنا النَّفسي العام أنَّنا لا نتعاون ومن اسْتُشير فلْيُشِر ما هو صانِعٌ لِنَفسِهِ وإلا وقع في الخيانة وهو لا يدري ! ومن علامة المؤمن الصادق أنَّه يحبّ لأخيه ما يحبّ لِنَفسِهِ.
أردْتُ من هذا الدرس، أن أُشير أنَّ أحد أكبر صفات المؤمنين المُشاورة، والتفرّد ليس من الإيمان، وقد تكبر نفسك أن تستشير، ولكن تذكّر أنَّ النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم أُمِر أن يستشير ! وهناك مواقف كثيرة استشار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه حقيقة، وليس كما يقول بعضهم: كي يرفع معنويَّاتهم، إذاً عندما ندخل في تفاصيل هذه الآيات يجب أن نجعل من الشورى سلوكًا ثابتًا في حياتنا، وألا تكبر نفسنا فيها، ودائمًا المتكبّر والمستحي لا يتعلَّمان !
على المستشار أن يكون متواضعاً و لا يفضح من استشاره :
النقطة الأخرى، عليك ألا تفضح من استشارك ! فهذه غلظة، فهذه أمراض نفسيّة، والمؤمن دائمًا حاله التواضع، وأحيانًا تُسأل سؤالاً سخيفًا فتعرض عنه ! ألا تعلم أنَّك أغلقْت باب السؤال بالكليّة؟؟ فالمؤمن الصادق يُصغي إلى أي سؤال مهما بدا سخيفًا، ويهتمّ بالسائل، ويُشَجِّعُهُ حتى يُشجِّع الآخرين، والعلم مفتاح السؤال، فأخلاق المُستشار يجب أن تكون متواضعاً، والمستشير يجب أن يتأدب، فالأسئلة التَّعجيزيَّة ليس من خلق المؤمن.
والحمد لله رب العالمين