نصّ الفتوى المتعلّقة
بحكم شراء سكنات «وكالة عدل aadl»
الدّيـــــباجة:
النظر في الوقائع التي تستجدّ-بغية الإفتاء فيها- يحتاج إلى قدرٍ من الكفاءة و كِفلين من الاحتساب؛ فأمّا الكفاءةُ فلا تُتصوّر من دون مراعاةٍ للمقاصد، وأمّا الاحتساب فلا يقتصر على تجنّب الأمر المشتبِه، باللّجوء إلى التّحريم احتياطا، والتّورّع وإن كان أمراً محموداً لمن يبتغي السّلامة الفرديّة، إلاّ أنّ حمل النّاس عليه يُوقِعُ في عَنَتٍ قد يُفضي إلى نقيض مراد الشّارع، و مصادمةِ مقصَدِ رفع الحرج في شريعة الإسلام، وقد يجدر التذكير-في هذا المقام- بمقولة الثوري الشهيرة: «إنّما العلمُ عندنا: الرُّخصة من ثقة، فأمّا التّشديد فيُحسنه كلُّ أحد» (جامع بيان العلم لابن عبد البر:1/784).
لقد كثرت تساؤلات النّاس في المدّة الأخيرة حول سكنات «وكالة عدل» التابعة للدولة، بسبب ما اكتنف صيغة العقد -الذي تجريه هذه الوكالة مع المشتري- من شُبَهٍ، خشي النّاس معها من الحوم حول الحرام أو الولوغ فيه، و قبل الخلوص إلى توضيح الأمر يحسن أن ننبّه إلى ما استقرّ في المذاهب الفقهيّة من أمور:
1-: إنّ الأصل في العادات و المعاملات و العقود هو الحلّ و الإباحة، و لا ينبغي الخروج عن الأصل إلا بدليل صحيح و صريح، و قد عبّر بعضهم عن هذه القاعدة بالقول: «العبادات إذن، والمعاملات طِلق».
2-: إنّ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، فقد تقصر عبارات العقود عن الوفاء بالمراد منها، أو قد تُشوِّش بعض الألفاظ و التعبيرات -لسبب من الأسباب- على المقصود منها، فيُحتكم حينها إلى جملة ما تضمّنته معانيها، و ما يُستخلص منها بالتتبع و التدقيق، وما تنتهي إليه المعاملة في المآل.
3-: و من هذا الباب أنّ المعاملة -موضع السؤال- هي بين «وكالة عدل» التّابعة للدّولة وبين الأفراد، فالغبن لا يُتصوّر وقوعه إلاّ على المشتري، والمسكنُ الذي يحوزه -بعد دفعه للأقساط- أقلّ من سعره الحقيقيّ في السّوق بأضعاف، وأيّ غبن أو جهالة جزئيّة مفترضة يُعفى عنها، ويرضى بها المشتري، في ظلّ ما دفعه من أجر زهيد على مراحل، تنتهي بعد عشرين سنة.
4-: لا توجد في العقد أدنى شبهة من شُبَه الربا، الذي يُحرص على عدم قُربانه بأيّ شكلٍ من الأشكال، علماً بأنّ صيغة البيعتين في بيعة المنهيّ عنها نُصَّ فيها -من خلال نَص آخر، ومن خلال صورها التي تحدّث عنها الفقهاء- على المآل الرّبويّ، ولذلك ورد في الحديث الآتي ذكره: «..فله أَوْكَسُهُمَا أو الرّبا»؛ (أخرجه أبوداود(5/329) و ابن حبان في صحيحه(11/348) و الحاكم و صححه(2/52)و غيرهم و صحّحه بالشواهد الشيخ الألباني رحمه الله: السلسلة الصحيحة المختصرة:5/419) وإن كان الأستاذ الأرناؤوط قد حكم عليه بالضعف و الشذوذ؛ انظر: (سنن أبي داود:5/329).
5-: لا يُنتظر -في نوازل العصر- أن يُقتصر في تكييفها على المذهب وأقوال أئمته فحسب، بل لا بدّ من الاستنجاد بأئمة المذاهب الفقهية المختلفة، من غير ترخّص قد يُفضي إلى التّحلّل، وهو ما انتهجته هذه الفتوى التي أعدّها أساتذة الشّريعة بكلّيّة العلوم الإسلاميّة بجامعة الجزائر المذكورون في ختام نصّها.
نصّ الفتوى
أولاً: إنّ الأصلَ في المعاملات هو الإباحة لا الحرمة؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة/275]، وقوله أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء/29]؛ فقد قرّرت هذه الآية أنّ كلّ تجارةٍ أو معاملةٍ يوجدُ فيها الرّضا من كلا العاقدين هي مباحة شرعاً؛ ويجب الوفاء بما في تلك العقود من التزامات ما دام قد تحقّق مناط الجواز وهو الرّضا؛ إلاّ أن يَرِدَ دليلٌ على التّحريم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾[الأنعام/119].
وقد اتّفق العلماء على أنّ العقود من باب العادات؛ والعاداتُ معقولة المعنى، معلّلةٌ بعللٍ سامية وحكمٍ جليلة، مبناها على تحقيق العدل والمصلحة ورفع الحرج عن الخلق.
ثانياً: صورة هذا العقد طبقاً لما نصّ عليه المرسوم التنفيذي (رقم: 01-105/ المؤرّخ في 29 محرّم 1445هـ الموافق لـ 23 أبريل 2024م) المتضمّن تحديد شروط شراء المساكن المنجزة بأموال عموميّة؛ المنصوص عليه في المواد: (7، 8، 10، 11، 12، 19) من الجريدة الرّسميّة للجمهورية الجزائرية (العدد: 25): هو أن يتقدّم شخصٌ بطلب شراء مسكن من المساكن المنجزة بأموال عمومية على أن يسدّد من ثمن المسكن دُفعةً أُولى لا تقلّ عن 25 % من ثمنه مقسّمة على أربع مرّات، على أن يقوم بتسديد المؤجّل وفق أقساط تبيّن المبلغ الواجب دفعه شهريّاً موزّعةً على المدّة المتّفق عليها، ويستطيع أن يُسَدِّدَ عدّة أقساط قبل حلول موعد استحقاقها، كما يستطيع أن يُسَدِّدَ مسبقاً المبلغ المتبقي من سعر المسكن بكامله؛ وبالمقابل تقوم الهيئة المتعهّدة بالتّرقية العقارية بإعداد «عقد البيع» بعد تسديد المشتري الدّفعة الأولى من ثمن المسكن، لكنّ نقل ملكيّة السّكن المعني تكون بعد تسديد ثمن المسكن بكامله؛ وقد تضمّنت هذه الصّورة شرطاً جزائيّاً مفاده ترتيبُ غرامة على عدم تسديد المشتري لثلاثة أقساط متتالية تتمثّل في دفع زيادة 5 % من مبلغ القسط الشّهري.
ثالثاً: أهمُّ ما يلاحظُ في صورةِ هذا العقد هو خلوّه من الرّبا، وخلوّه أيضاً من بيع الأعيان المحرّمة كالخمر والخنزير والنّجاسات؛ والله تعالى يقول: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾[البقرة/275].
رابعاً: يلاحظ في هذا العقد عنصرُ «المساعدة» من الدّولة للمواطن؛ وذلك أنّ هذه المساكن تباع بسعرٍ زهيدٍ مقارنة بسوق العقار، ويلاحظُ «الرّفق» أيضاً في أنّ الدّولة قامت بتثبيت السّعر إلى نهاية دفعِ آخر قسطٍ من أقساط البيع في أجلٍ أقصاه 20 سنة؛ حتى وإن ارتفع سعر العقار فإنّ الدّولة لا تطلب من المواطن إلاّ الوفاء بإتمامِ الثّمن المتّفق عليه في أوّل العقد؛ فعمليّة البيع أقربُ إلى التبرّعات منها إلى البيع المبنيّ على المكايسة.
خامساً: بناءً على صورة المسألة، فإنّ التّكييف الشّرعيّ لهذا العقد هو أنّه «بيع تقسيط على شرط معلّق»؛ حيث إنّ إرادة المتعاقدين متّجهة إلى تملّك هذا المسكن لا إجارته، وقد روعي في ذلك قيمة المبيع موزّعةً على أقساط، وأمّا إطلاق اسم (البيع بالإيجار) على هذا العقد؛ فهو إطلاقٌ غير صحيح بالنّظر إلى حقيقة هذا البيع، وكان الأولى بمن وضع مواد هذا العقد أن يسمّيه «بيعاً بالتقسيط» لا «بيعاً بالإيجار»، وإطلاق هذه التسمية عليه لا يغيّر من حقيقة كونه بيعاً بالتّقسيط؛ لأنّ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، بدليل أنّ الثّمن المحدّد في بداية العقد لا تنضاف إليه أقساطٌ إيجاريّة زيادةً على ثمن المبيع؛ بل تلك الأقساط هي جزء من الثّمن الإجماليّ المتّفق عليه أوّلاً عند إنشاء عقد البيع؛ وإنّما تمّ توزيعه على أقساطٍ مراعاةً لحال المشتري ورفقاً به وتسهيلاً عليه، فهي ليستْ في مقابلة الانتفاع بالمسكن بحالٍ؛ وإنّما هي جزءٌ من الثّمن المتّفق عليه عند إنشاء عقد البيع؛ وأوضحُ دليلٍ على هذا أنّ العاقد يتملّك الرّقبة والمنفعة معاً بمجرّد دفع القسط الأوّل من الثّمن؛ وتلك هي حقيقة البيع.
وممّا يتعيّن الانتباهُ إليه في هذا العقد أنّ نيّة الطّرفين فيه ليست متّجهةً إلى الإجارة؛ بل إلى البيع الذي نصّ المرسوم المذكور على أنّ الجهة الممثّلة للدّولة تقوم بإعدادِ عقد البيع مباشرةً بعد تسديد المستفيد للدّفعة الأولى من ثمن المسكن، وتأخيرُ التّوثيقِ -وهو شرطٌ تكميليّ سبقه تحقّق الإيجاب والقبول بينهما مع تحقّق تسليم المبيع- هو تأجيلٌ صوريٌّ للبيعِ نظراً لتحقّق الحيازةِ والانتفاعِ بالمبيع وليس تأجيلاً حقيقيّاً؛ بل هو مجرّدُ إجراءٍ لا يناقضُ مقتضى العقد؛ وإنّما يخدمه ويقوّيه؛ لأنّه بمثابة الرّهن الذي شُرِعَ وسيلةً للإثبات في العقود كما شُرِعَ وسيلةً للاستيفاء عند عجز المدين عن الوفاء، ومعلومٌ أنّ اشتراطَ الرّهن في العقد يُصَيِّرُهُ واجباً؛ يؤيّد ذلك أنّ الدّولةَ ترحّب بدفع الثّمن كاملاً عند أوّل العقد، كما أنّها في حالِ فسخِ البيعِ تلجأ إلى بيعِ المسكن لشخصٍ آخر، ولا تعرضه للإيجار.
ومع هذا فإنّنا نوصي الجهات الرّسميّة بأن تنهي إجراءات عقد الملكيّة بعد دفع القسط الأوّل من ثمن المسكن؛ مع اشتراطها توقيعَ المشتري على تعهّدٍ يقضي بعدم التّصرّف في عين المبيع بأيّ تصرّفٍ من التّصرّفات النّاقلة للملكيّة أو المغيِّرةِ لعين المبيع تحت طائلة البطلان؛ وفي ذلك حفظٌ لحقّها في استيفاء ثمن المبيع أوّلاً، ورفعٌ للحرج عن المواطن ثانياً.
سادساً: إنّ تعليق البيع على شرطٍ وإن كان مسألةً مختلفاً فيها بين العلماء؛ إلاّ أنّ كثيراً من المحقّقين ذهبوا إلى تصحيح ذلك؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[المائدة/1]، ولما رواه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، ولما ثبت في صحيح البخاريّ أيضاً عن عمر رضي الله عنه من تعليقه عقد المزارعة بالشرط؛ «فَكَانَ يَدْفَعُ أَرْضَهُ إِلَى الْعَامِلِ عَلَى أَنَّهْ إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ جَاءَ الْعَاملُ بِالْبَذْرِ فَلَهُ كَذَا»، ولغير ذلك من الأدلّة والشّواهد.
والقولُ بصحّة تعليق البيع على الشّرط هو رواية عن الإمام أحمد وقول قدماء أصحابه، واختيار ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية كما في «مجموع الفتاوى»: (29/80)، و«إعلام الموقعين»: (3/399-400)، وبه قال كثير من المتأخرين.
قال ابن قدامة في «المغني» (4/23): «فإن قال: بِعْتُك على أن تَنْقُدَنِي الثَّمنَ إلى ثلاث، أو مدَّة معلومة، وإلاَّ فلا بيع بيننا، فالبيعُ صحيح، نصَّ عليه»؛ بل مذهب المالكيّة أنّ الشّرط في البيع صحيح إلاّ إذا أفضى إلى محظور شرعيّ أو خالفَ مقتضى العقد كما ذكر ابن رشد في «المقدمات الممهدات» (2/67)، والحطّاب في «تحرير الكلام في مسائل الالتزام» (ص/339-365)، على أنّ من طبيعة العقود ومقتضياتها وجودَ الرّهن ووجودَ الكفيل ضماناً ومعونةً على إتمام العقد؛ ومسألةُ بيع السّلعة بشرط أن لا يبيعها المشتري ولا يهبها ولا يؤجرها حتى يتم دفع جميع الثمن منصوصٌ عليها في المذهب؛ فقد ذكر الحطّاب في «مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» (4/373) أنّ مالكاً -كما في سماع عليّ بن زياد- سُئل عن رجلٍ باعَ سلعةً، وشرطَ على المبتاعِ أن لا يبيعَ ولا يهبَ حتى يعطي جميع الثّمن « قال: لا بأس بذلك؛ لأنّه بمنزلة الرهن، إذا كان إعطاء الثمن لأجلٍ مسمى»، وأصل ما نقله الحطّاب موجودٌ في «كتاب المنتخب» لابن أبي زمنين.
سابعاً: ليس في هذا البيع اجتماع عقدين في عقد كما هو الحال في بعض صور «الإجارة المنتهية بالتّمليك» التي تجري في بعض البلدان.
ولو فرضنا جدلاً وجود ذلك فإنّ الجمع بين عقدين في عقد ليس محرّماً بإطلاق، ولا جائزاً بإطلاق؛ وقد قرّر القرافي مذهبَ مالكٍ في مسألة اجتماع العقود بقوله في «الفروق» (3/262): «فكلّ عقدين بينهما تضادّ لا يجمعهما عقد واحد»؛ وعلّق عليه «صاحب تهذيب الفروق» (3/187) بقوله: «وأمّا نحو الإجارة والهبة ممّا يماثل البيع في الأحكام والشّروط ولا يُضادّه؛ فإنّه يجوز اجتماعه مع البيع، كما يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر في عقد واحد لعدم التّنافي».
قال ابن جُزيّ في «القوانين الفقهيّة» (ص/260) مقرّراً مذهبَ مالك: «ويجوز الجمع بين البيع والإجارة خلافا لهما»؛ يعني أبا حنيفة والشافعي.
وإلى مثل هذا ذهب كثيرٌ من المحقّقين؛ قال ابن قيّم الجوزية في «إعلام الموقّعين» (3/354): «لا محذورَ في الجمع بين عقدين كلّ واحدٍ منهما جائزٌ بمفرده؛ كما لو باعه سلعةً، وأجّره دارَه شهراً بمئة درهم».
ويقول شيخه ابن تيمية كما في «كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية» (28/386): «والأصلُ في هذا أنّه لا يحرم على النّاس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلاّ ما دلّ الكتاب والسّنّةُ على تحريمه؛ كما لا يُشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلاّ ما دلّ الكتاب والسّنّة على شرعه؛ إذ الدّين ما شرعه الله، والحرام ما حرّمه الله».
وأمّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» -الذي رواه الترمذي والنسائي وأحمد والبيهقي، ورواه مالك بلاغاً- فقد حمله كثيرٌ من الفقهاء على بيع العِينَةِ وما كان ذريعةً إلى الرّبا؛ وممّن ذهب إلى ذلك الصّحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في مصنّف عبد الرّزاق (رقم: 10880)، وهو قول مالك في الموطّأ (رقم: 1329)، واختاره ابن حزم في المحلّى (9/15-16)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (29/477) وتلميذه ابن القيّم في «إعلام الموقّعين» (3/220)؛ يؤيّد ذلك ما رواه أبو داود وابن حبّان والحاكم بلفظ: «من باعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا» الذي يفسّر الحديث السّابق، ويبيّن المقصودَ من النّهي عن بيعتين في بيعة.
قال البيهقي في «السّنن الكبرى» (5/343): «ويشبه أن يكون ذلك في حكومة شيء بعينه؛ كأنّه أسلفَ ديناراً في قفيز بُرٍّ إلى شهر؛ فلمّا حلّ الأجلُ وطالبه بالبُرِّ قال له: بِعْنِي القفيز الذي لكَ عَلَيَّ بقفيزين إلى شهرين؛ فهذا بيعٌ ثانٍ دخلَ على البيع الأوّل فصار بيعتين في بيعة؛ فيردّان إلى أَوْكَسِهِمَا وهو الأصل؛ فإن تبايعا البيع الثّاني قبل أن يَتَنَاقَضَا البيعَ الأوّلَ كانَا مُرْبِيين»، واستظهره الشّوكاني في «نيل الأوطار» (5/152).
ثامناً: إنّ الزّيادةَ التّعويضيّةَ التي تترتّب عن تأخّر المشتري عن السّداد؛ أي زيادة (5 %) التي يدفعها المتأخّرُ عن سداد ثلاثة أقساطٍ متتاليةٍ؛ فليست من قبيل الرّبا كما قد يتوهّم البعض، وإنما هي إلزامٌ للمشتري بتعويض البائع عمّا ألحقه به من ضرر بهذا التّأخير؛ بناءً على ما قرّره أكثرُ الفقهاء من تضمين الغاصب منافعَ المغصوب مدّة الغصب مع ردّ الأصل؛ ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلمٌ»، وفي رواية النسائي وابن ماجه: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ؛ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبتَه»، وقد أخرج البخاريّ في «صحيحه» عن ابن سيرين: «أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِكَرِيِّهِ: أَرْحِلْ ركِاَبَكَ؛ فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا أَوْ كَذَا، فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ».
وعدمُ الحكم بالتّعويض فيه مساواةٌ بين معطي الحقّ ومانعه، وتشجيعٌ لكلّ مدينٍ على تأخيرِ الحقوقِ والمماطلةِ فيها دون أن يخشى طائلةً أو محذوراً، فضلاً عن أنّ التّعزير المتّفق عليه عقوبةً على المدين المماطل لا يختصّ بنوعٍ معيّن، وإنّما يرجع إلى اجتهاد الحاكم دون تعدٍّ لحدود الله؛ إذ العقوبةُ هي الأثر الجنائيُّ الواجبُ إيقاعه على الظّالم، ويمكن أن تكون جلداً أو حبساً أو غرامة ماليّة.
قال ابن القيّم في «الطّرق الحكمية»: «التّعزير بالعقوبات الماليّة جائز، والحكمُ به ثابتٌ لم ينسخ».
تاسعاً-: وأمّا ما نصّ عليه المرسومُ المذكور من فسخِ البيعِ إذا لم يسدّد المشتري ستّة أقساط شهريّة؛ وإعادة الدُّفعة الأولى من الأقساط إلى المشتري وخصم الأقساط الأخرى، ومعاملة المستفيد من السّكن على أنّه كان مستأجراً، فهو موافقٌ لما قرّره الفقهاء في ثمن إجارة المثل المترتّبة عن فسخ البيع؛ أي استقطاع أجرة المثل عن المدّة التي انتفع بها العميل وإعادة الباقي إليه، وهي أقساطٌ أقلّ بكثير من ثمن الإيجار الموجود في سوق العقار؛ واستحقاقُ البائع أجرةَ المثل عن المدّة التي انتفع فيها المشتري بالعقار تقرّرَ تحقيقاً للعدل في هذه المعاملة؛ ففي «المدونة» (4/182) من قول سحنون لابن القاسم: «أرأيت الأرض والدّور، أليس قد قال مالكٌ في الأرض: إذا غصبها رجلٌ فزرعها إنّ عليه كراءها ويردّها؟ قال: نعم، قلت: والدّورُ عند مالكٍ بهذه المنزلة إن سكنها الذي غصبها، فعليه كراءُ ما سكن؟ قال: نعم».
علماً بأنّ هذا الفسخَ لا يصدر بقرار مستقلّ من (وكالة عدل)؛ بل يتوقّفُ على إجرءاتٍ قضائيّة يحكمها القانون، وهذا من شأنه أن يضمن مزيداً من الحقوق للمشتري؛ ومع هذا فإنّ المرجوّ من الدّولة أن توسّعَ دائرة المعاذيرِ للطّبقات الهشّة والفقراء الذين قد يتعثّرون في السّداد بسبب الإعسارِ النّاشئ عن سُوء أوضاعهم الماليّة والاجتماعيّة.
عاشراً: إنّ ما تضمّنه بيعُ المساكن على النّحو المعمول به في هذا العقدِ من عدمِ تعيين موقع المسكنِ وتحديد الدّور أو الطّابق الواقع فيه؛ ليس من الجهالة التي تضرّ بأصل هذا العقد؛ لأنّه محصورٌ لا على التّعيين حصراً ترتفعُ به الجهالة، والمواطنُ الذي يُقْبِلُ على هذه المعاملة يعلم أنّ الدّولة تبني في مناطق تصلح لهذه التّجمّعات السّكنية في محيط المدينة نفسها، وأنّها لن تبيعه في مدينةٍ أخرى بعيدة عنه؛ بل إنّ الوكالةَ المذكورةَ تقومُ بإعلامه بمواصفات المسكن مسبقاً؛ كمساحته وعدد غرفه.
كما أنّ ما يهمّ المشتري هو حصوله على مسكنٍ في أيّ مكانٍ من الأمكنة التي لا تخرجُ عن محيطِ ولايته، وهو يعلم أنّ مواصفات هذه المساكن لا تخرج عمّا عَهِدَهُ من المساكن التي تبنيها الدّولةُ للمواطنين؛ بحيث إنّ التّفاوت والاختلاف اليسيرين فيها لا يضرّه ولا يردّه عن إتمامِ الصّفقة؛ لأنّه محتاجٌ إلى المسكن؛ يعاني أشدّ أنواع الحرج بسبب حرمانه منه؛ وغرضه الأهمّ هو أن يحصل على مسكنٍ يُؤْيِهِ هو وزوجته وأولاده.
وقد ذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى جواز بيع الشّقق السّكنية على التّصاميمِ المخطّطات والخرائط إذا كانت موصوفةً وصفاً مزيلاً للجهالة، علماً بأنّ أكثرَ الفقهاءِ على أنّ بيع العين الغائبة يصحّ مطلقاً إذا ذُكِرَ جنسها ونوعها وإن لم يرها المشتري ولم توصف له؛ وله الخيار إذا رآها؛ وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول للشّافعي في القديم، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن تيمية في الراجح من قوليه وابن القيم كما في «مواهب الجليل»: (4/296)، و«المغني»: (6/31)، و«القواعد النّورانية»: (ص/139)، و«زاد المعاد»: (5/813)، ونسبه النّووي في «المجموع»: (9/364) للجمهور؛ بل جازف الطحاوي وابن تيمية كما في «شرح معاني الآثار»: (9/4)، و«نظريّة العقد»: (ص/208) بحكاية إجماع الصحابة على جوازه وأنه لم يُعرف عنهم خلاف في ذلك كما تدلّ عليه الآثار المرويّة عنهم في ذلك.
قال ابن رشد في «المقدّمات الممهّدات» (2/76): «وبيع السّلعة الغائبة على الصّفة خارجٌ ممّا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه».
ولا يخفى أنّ السّكن معتبرٌ في الشّريعة من الضّروريّات التي لا يستغني عنها الإنسان؛ قال إمام الحرمين الجويني في كتابه «الغياثي» (ص/486): «فأمّا المساكن؛ فإنّي أرى مسكنَ الرّجل من أظهر ما تمسّ إليه حاجته، والكِنُّ الذي يُؤيه وعيلته وذرّيّته؛ ممّا لا غناء به عنه».
وعلى كلّ حال، فإنّ أسعار المساكن وفق هذه الصّيغة مدعومة من الدّولة، وهي أقلّ بكثير من سعر السّوق -كما لا يخفى على أحد-، وعليه فإنّ التَّذَرُّعَ بالجهالة والغرر والغبن لمنع هذا العقد لا يستقيم أمام الرفق الملحوظ في هذه الصّيغة، فثمنُ هذه السّكنات مهما كان موقعها وصفتها أقلّ بكثير من سعر مثلها في سوق العقار.
حادي عشر: خلاصة القول: إنّ بيع المساكن المموّلة من الأموال العموميّة من طرف الدّولة ممثّلة في «وكالة عدل» للمواطنين على النّحو الذي تضمّنه المرسوم التّنفيذيّ المذكور أعلاه وتعديلاته: هو أمرٌ جائز لا حرمة فيه، لما سبق ذكره من الأدلّة والشّواهد، ورفعاً لما يعانيه كثيرٌ من المواطنين من الحرج الشّديد والضّيق والعنت بسبب أزمة السّكن التي يعاني منها كثير من النّاس؛ خاصّة وأنّ هذا الحرج واقع في أمرٍ ضروريّ؛ والضّروريّات يُغتفر فيها ما لا يُغتفرُ في الحاجيّات والتّحسينيّات؛ والله تعالى أعلم.
الدكتور عبد الرحمن السنوسي (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور محمد سماعي (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور موسى إسماعيل (أستاذ الفقه المالكي بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور وثيق بن مولود (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور محمد إيدير مشنان (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية)
الدكتور أحمد معبوط (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور عبد القادر بن عزّوز (رئيس قسم الشريعة وأستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الاسلامية – الجزائر)
الدكتور سليمان ولد خسال (أستاذ الشريعة والقانون بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور كمال بوزيدي (أستاذ الفقه وأصوله بكلية العلوم الإسلامية – الجزائر)
الدكتور محمد عبد النبي (أستاذ الحديث وعلومه بكلية العلوم الاسلامية – الجزائر)
وقد سلّم المجلس الوطني للمجالس العلمية للشؤون الدينية والأوقاف هذه الفتوى وأعد صياغة شبيهة تُطلب في محالها
والله أعلم
هذه الفتوى اكثر ايضاحا وتحليلا من بعض الفتاوى الاخرى التي تلجا دائما الى التحريم كحل سريع…..
بوركت ……
شكرااااااااااااااااااااااااااا
بارك الله فيك
وفيكم بارك الله
بارك الله فيك