هل الشعور بالذات يعود إلى الذات أم إلى الغير
يقتضي التعايش الاجتماعي بين بني الإنسان ضرورة تشكيل نسيج من العلاقات بين أفراده فيما بينها تأثير وتأثر،فكل واحد من هؤلاء الأفراد يسعى للتعبير عن ذاته من اجل إثبات وجودها وتميزها عن غيرها فيا ترى هل حقيقة الأنا الذاتي يتوقف على وعي الذات لذاتها أم على معرفة الغير؟
ـ يرى ديكارت أن كل ذات تعي ذاتها وتعرف حقيقة ذاتها وما يجري فيها من انفعالات وما يصدر عنها من سلوكات وهذا ما أثبته ديكارت في فكرة الكوجيتو الشهيرة "انأ أفكر إذن أنا موجود" فالشعور هو الذي اعلم به أنني موجود وان الغير موجود وان العالم موجود وهذا مايؤكده سارتر الذي يرى أن إدراك الوجود الحقيقي يقتضي الوعي الإنساني الكامل الذي يسعى لخلق ماهيته، فلا تتوقف معرفة الذات على الغير لأنه يمثل الجحيم فيقول"إن الغير هو الجحيم"،ويؤكد هوسرل" أن الشعور هو دائما شعور بشيء وهذا يقتضي أن تكون الذات الشاعرة واعية لذاتها حتى يمكن أن تعي الأشياء والموضوعات" فكلما كان الوعي بالذات أكثر،كلما كانت الذات أكثر تحقيقا لنفسها وتأكيدا لوجودها وكيانها،وأكثر معرفة بفعاليتها وانفعالاتها ونقاط قوتها وضعفها وقد اكد سقراط قديما هذا فقال"اعرف نفسك بنفسك".
لقد وجهت جملة من الانتقادات لأصحاب هذا الموقف فالأحكام الذاتية غالبا ما تكون مبالغ فيها ، و وعي الذات لذاتها ليس بمنهج علمي ، لأنه لا يوصلنا الى نتائج موضوعية ، فالمعرفة تتطلب وجود الذات العارفة و موضوع المعرفة ، في حين أن الذات واحدة لا يمكن أن تشاهد ذاتها بذاتها ، فالفرد لا يمكن أن يتأمل ذاته هو في حالة غضب و أو فزع ،فالوعي الذاتي قد يكون مجرد تأمل ميتافيزيقي واستبطان ذاتي لا يعبرعن حقيقة الذات فقد يضللنا ويوهمنا بأشياء لا توجد في الخارج.ثم هل يستطيع الشعور أن يدرك اللاشعور؟وهذا ما أكده فرويد على أن النفس تحتوي الشعور واللاشعور ولهذا فالشعور يفسر بعض السلوكات وليس كلها.
ـ يؤكد جملة من المفكرين من بينهم هيجل أن معرفة الذات تتأسس على المغايرة والتناقص .فأساس التعرف على الذات أو الشعور بالأنا قد لا يتحدد على الذات أو الشعور بالأنا قد لا يتحدد الأمن خلال الغير أو الأخر،كأنها خارج الذات ومستقلا عنها مما يقتضي إن الغير يعتبر احد مكونات الوجود وان جزء من هذا الوجود مما يعني ان الغير يشاركنا الوجود،وهو يقابلنا ويخالفنا وهذا يؤدي الى تنبيه الذات لتقارن ذاتها بالاخرو نستنتج التمايز والاختلاف وهي مثل السيد والعبد عند هيجل،لان إدراك حقيقة الذات تتوقف على العلاقة الجدلية بين الأنا والغير لان كل موضوع عنده يعتمد على نقيضه فالشعور بالأنا يقوم على مقابلته بالغير كنقيض وعندئذ يتعين على كل من الشعوريين أن يتغلب على الأخر والدخول في صراع عنيف.ومنه نستنتج أن معرفة الذات على أساس المغايرة أو التناقض تستلزم وجود الغير لان الغير يعتبر من أبعاد مكونات الأنا وتفاعلاته.
لقد وجهت جملة من الانتقادات لأصحاب هذا الموقف تمثلت فيما يلي: صحيح أن الفرد يعيش مع الغير ، لكن هذا الغير لا يدرك منا إلا المظاهر الخارجية التي لا تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات خفية و ميول و رغبات ، و هذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها و التظاهر بها ، كالممثل السينمائي الذي يصطنع الانفعالات.
إن حقيقة الأنا الذاتي لا تتوقف على معرفة الغير المغاير والمناقص وإنما يرجع إلى وعي الذات لذاتها فتفسير الأنا بالغير بالرغم ماله من اثر على الذات ومعرفة حقيقة وجودها من خلال فعل التواصل إلا انه لا ينبغي أن يتحول إلى هيمنة على الذات وتذويبها وسلب معناها،لأنها كيان مستقل وهوية متميزة ،كما إن ربط التواصل مع الغير في إطار علاقة التناقض والصراع والسعي للانتصار وإخضاعه لا يؤدي إلى الاعتراف بالأخر كما انه منطق يمكن للهيمنة والتناحر والتنافر والتصارع والإفناء وهو منطق لا يتناسب مع كرامة الإنسان ورقي عقله.
وعليه يمكن القول بان التواصل بين الأنا والغير يمكن لمبدأ التعادل بين الذات والغير واعتراف كلاهما بالأخر دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش.
وخلاصة القول ما نستنتجه هنا هو أن هذه الأسس التي تمكن لمعرفة الذات والأخر مهما كانت هيمنتها وأثرها فإنها تبقى أطروحات فكرية مجردة والأرجح إن حقيقة الأنا الذاتي يتوقف على وعي الذات لذاتها.