تخطى إلى المحتوى

«الخطاب الحازم مع النَّفس»للإمام / عبد الرَّحمـٰن بن ناصر السّعدي ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ـ 2024.

«الخطاب الحازم مع النَّفس»
للإمام / عبد الرَّحمـٰن بن ناصر السّعدي ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ـ
«الحازمُ»: هو الَّذي يُنازع ويُدافع الأقدار المُؤلمة بما يدفعها قبل نُزولها، أو يرفعها بعد نُزولها، أو يُخفِّفها بالطُّرق المُباحة، أو المأمور بِها، فإنْ أعياهُ ذٰلك، اِسْتسلم للقدر، ورَضِيَ بقضاء الله، وسَلِمَ لأمره، ولهٰذا قالَ عُمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «نُفِرُّ مِنْ قَدَرِ الله إِلَىٰ قَدَرِ الله» ([1]). كذٰلك يفرُّ العبد ممَّا يكرهه الله باطنًا وظاهرًا إلى ما يحبُّهُ الله ظاهرًا وباطنًا. ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ«الذَّاريات: 50».
ويفرُّ مِنْ أسباب الهلاك والعطب والضَّرر إلىٰ أسباب النَّجاة والسَّلامة، وحُصول النَّفع، ولكن الشَّأن فِي معرفة الأسباب النَّافعة والضَّارة، ثمَّ فِي سُلوك خير الأمرين، ومُدافعة أشدِّ الضَّررين ـ واللهُ الموفَّق وحده ـ والتَّثبُّت فِي سماع الأخبار، وتمحيصها ونقلها، وإذاعتها، والبناء عليها؛ أصلٌ كبيرٌ نافعٌ أمرَ اللهُ به رسُوله، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ«الحجرات: 6».
فأمرَ بالتَّثبُّت، وأخبرَ بالأضْرار المترتِّبة علىٰ عدم التَّثبُّت، وأنَّ مَنْ تثبَّتَ لم يندم، وأشارَ إلى الميزان فِي ذٰلك في قوله تَعَالَىٰ: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾، وأنَّهُ العلم والتَّحقيق فِي الإصابة وعدمه؛ فمَنْ تحقَّق، وعلم كيف يسمع، وكيف ينقل، وكيف يعمل، فهو الحازم المُصيب، ومَنْ كانَ غير ذٰلك، فهو الأحمق الطَّائش الَّذي مآله النَّدامة.
وأحوج النَّاس إلىٰ هٰذا الأمر الولاة علىٰ اِختلاف مراتبهم وطبقاتهم، وأهل العلم علىٰ تفاوت درجاتهم، وذٰلك يحتاج إلىٰ اِجْتهاد وتمرين للنَّفس، وتوطينٍ لها علىٰ مُلازمة التَّثبُّت مع الاِسْتعانة بالله، واللهُ الموفِّق والمُعين.
ولا يزالُ المؤمن بإيمانه يُقاوم جميع الواردات يستدفع بإيمانه المكاره والشَّدائد، ويستديم به المحاب، إنْ وردت عليه الشَّدائد والمصيبات، تَلَقَّاها بقوَّة إيمان، وصبر ويقين، وهو فِي ذٰلك بثقته بربِّه، وقوَّة ظنِّه ورجائه فِي حصنٍ حصين، فَرِحٌ إذا حَزِنَ النَّاس، مبتهجٌ بذٰلك إذا اِشْتدَّ اليأس.
وإنْ وردت عليه المحبوبات تلقَّاها بطمأنينةٍ وسُكون، وحَمَلَهُ الإيمان على القيام بوظيفة الشَّاكرين، يفرح بها لا فرح أشَرٍ وبَطَرٍ، بل لأنَّها مِنْ فضلِ ربِّه أوصلها بجوده إليه، ويصرفها فيما يعود عليه بالنَّفع فِي الدُّنيا والدِّين.
وإنْ وردت عليه الأوامر الشَّرعيَّة، تلقَّاها بالرِّضىٰ والتَّسليم، وهوَّنَ إيمانه عليه القيام بها طاعةً لربِّه وتكميلًا لإيمانه، وتقويَّةً لإيقانه، ورجاءً لموعودها، وخروجًا مِنْ تبعة التَّرك.
وإنْ دعته النَّفس الأمارة بالسُّوء إلىٰ بعض المعاصي، قالَ لها الإيمان:
يا نفس! كيف يليقُ بكِ أنْ تأمريني بما يضعف إيماني، ويعودُ لكِ بالخسار؟! كيف تأمريني بلذَّة ساعةٍ تُفوِّتُ لذَّاتٍ كثيرةٍ مِنْ أبلغها لذَّةُ حلاوة الإيمان؟!
أما تعلمين: أنَّ للإيمان حلاوةً تُزْرِيّ بلذَّات الدُّنيا كلِّها؟! فالله الله يا نفس! أنْ تفجعيني بهٰذه الحلاوة، ويحكِ يا نفس! أما لكِ نظرٌ فِي عواقب الأُمور؟! فإنَّ خاصيَّة العقل النَّظر فِي عواقب الأُمور، كما ينظر في مباديها، وإنَّهُ لا يدخل فِي أمرٍ مِنَ الأُمور حتَّىٰ يعرف المخرج منه بعافية وسلامة.
أما علمتِ: أنَّ مَنْ وقعَ فِي المعاصِي اِرتكس؛ وكلَّما كرَّرها اِسْتحكم قيَّده وحبسه وانْتكس؟!
ويحكِ يا نفس! إذا أردتِ أنْ تعصي الله؛ فلا تستعيني بنعمه علىٰ معاصيه، فإنَّ المعصية لا تتأتَّى إلَّا مِنَ القوَّة والعافية، ومَنِ الَّذي أعطاها؟! ولا تتحرَّك إلَّا منْ توالي الشَّبع، ومن الَّذي يسَّر الأقوات وآتاها؟! ولا تكون فِي العادة إلَّا بخلوة مِنَ الخلق، ومَنِ الَّذي أسبلَ عليكِ حلمَه وسترَه، ولا تقع إلَّا بنظره إليكِ؟! فإيَّاكِ أنْ تستخفي باطِّلاعه وعلمه.

أما تعلمين: يا نفس! أنَّ مَنْ جاهدَ نفسه عَنِ المعاصي، وألزمها الخير، فقد سعىٰ فِي سعادتها؟! وقد أفلحَ مَنْ زكَّاها، وأنَّ مَنْ أطاعَ نفسه علىٰ ما تُريد مِنَ الشَّرِّ؛ فقد تسبَّب لهلاكها ودسَّاها؟!
ويحكِ يا نفس! كم بيني وبينكِ فِي المعاملة، وأنتِ تُريدين هلاكي؛ وأنا أسعىٰ لكِ بالنَّجاة، وأنتِ تَحَيَّلِينَ عليَّ بكلِّ طريقٍ يوقع فِي المضار والشُّرور، وأنا أجْتهد لكِ فِي كلِّ أمرٍ مآله الخير والرَّاحة والسُّرور.
فهلُمِّي يا نفس! إلىٰ صُلحٍ شريفٍ يحتفظ كلٌّ منَّا علىٰ ما لهُ مِنَ المُرادات والمقاصد، ونتَّفق علىٰ أمرٍ يحصل بهِ للطَّرفين أصناف المصالح والفوائد.
دعيني يا نفس! أمضي بإيماني متقدِّمًا إلى الخيرات، متجرًا فيه لتحصيل المكاسِب والبَركات، دعيني أتوسَّلُ بإيماني إلىٰ مَنْ أعطاهُ أنْ يتمَّه بتمام الهداية، وكمال الرَّحمة، وأُكمل ما نقص منه لعلَّ الله أنْ يتمَّ عليَّ وعليكِ النِّعمة،
ولَئِنْ تركتيني وشأني لم تعترضي عليَّ بوجه مِنَ الوجُوه، لأعطينَّكِ كُلَّ ما تطلبينه مِنَ المباحات، وكُلَّ ما تُؤمِّله النُّفوس وترجُوه، لَئِنْ تركتيني وشأني لأوصلنَّكِ إلىٰ خيرات ولذَّات طالما تمنَّاها المتمنُّون، وطالما ماتَ بحسرتها قبل إداركها البطَّالون.
يا نفس! أما تحبِّينَ أنْ تنقلي مِنْ هٰذا الوصف الدَّنيء إلىٰ أوصاف النُّفوس المطمئنَّة الَّتي اِطمأنَّت إلىٰ ربِّها، وإلىٰ ذكره، واطْمأنَّت إلىٰ عطائه ومنعه، واطْمأنَّت إليه فِي جميع تدبيره، واطْمأنَّت إلىٰ توحيده والإيمان به حتَّى سلاها عَنْ كلِّ المحبوبات، واطْمأنَّت إلىٰ وعده حتَّى كانت هي الحاملة للعبد على الطَّاعات المزعجة له عَنِ المعاصي والمخالفات، فلا يزال المؤمن مع نفسه فِي محاسبة ومناظرة حتَّى تنقاد لداعي الإيمان، وتكون ممَّن يُقال لها عند الانْتقال مِنْ هٰذهِ الدَّار: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ • ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً • فَادْخُلِي فِي عِبَادِي • وَادْخُلِي جَنَّتِي«الفجر: 27، 30».اهـ.

([«الفتاوىٰ السّعديَّة» / تأليف: العالم المحقِّق: عبد الرَّحمـٰن بن ناصر السّعدي ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ـ /

ص: (55، 59) / مكتبة المعارف الرِّياض: الطَّبعة الثَّانية: 1402هـ])

منقول من مدونة الطريق الواحد

بارك الله فيك على الموضوع

آمين وفيكم بارك الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.