ب- دخول البيزنطيين إلى أفريقيا الشمالية:
لم تباشر الإمبراطورية البيزنطية في إرسال قواتها العسكرية إلى شمال أفريقيا لمنازلة الوندال إلا بعد إحساسها بضعف العدو الجرماني عسكريا وميدانيا أمام المقاومة الأمازيغية الشرسة التي استنزفت القوة الوندالية ، ووجهت لها ضربات موجعة في معارك شتى فوق التراب النوميدي والتونسي والليبي بالخصوص.
وهكذا، فقد” أبحرت القوات البيزنطية نحو شمال أفريقيا لمنازلة الوندال سنة 534م، ولم يجد بليزير كبير عناء في سحقهم ودخول عاصمتهم قرطاج، فضمت بذلك أفريقية إلى حظيرة الإمبراطورية البيزنطية مدة قرن من الزمن(434-534م).
والحقيقة أن هذا الانتصار السريع الذي حققه البيزنطيون توفرت له ظروف ملائمة مرتبطة بوضع مملكة الوندال، أهمها الثورات الاجتماعية الدينية التي أشعلها الأمازيغ في المنطقة الخاضعة للنفوذ الوندالي، مع ماترتب عليها من انعكاسات سياسية وعسكرية سلبية، كما أن الأمازيغ الكاثوليك بعثوا رسلا إلى بيزنطة طالبين من إمبراطورها تجريد حملة عسكرية مع إعطاء ضمانات بانتصارها على الوندال، الشيء الذي يفسر عدم اصطدام البيزنطيين بمقاومة شعبية أمازيغية. بل نجد أنه عقب إنزال القوات البيزنطية كان الملك الوندالي جلمار على رأس أغلبية قواته في حملة لقمع ثورة بالساحل الجنوبي لإفريقية، تزعمها أمير أمازيغي يدعى أنطالاس.”
ونهجت الحكومة البيزنطية سياسة التحصين وبناء المعاقل على غرار خط الليمس الروماني للحفاظ على وجودهم في إفريقيا الشمالية بعد أن احتلوا تونس وجزءا من نوميديا الشرقية ( الجزائر). وفي الغرب احتلت موانئ تيبازة وشرشال وسبتة وتينجي. وبدأت الحكومة في استغلال ثروات تامازغا واستنزاف خيراتها على غرار السياسة المتبعة من قبل الرومان في العهود السابقة. وشجعت الملاكين ورجال الدين والمرابين على امتلاك الأراضي واستغلال الأمازيغيين وفرض الضرائب الفاحشة والتوسع في الكثير من المناطق من شمال أفريقيا من أجل خدمة المصالح الإستراتيجية للإمبراطورية البيزنطية. بيد أن هذه السياسة التوسعية ستجابه بمقاومة أمازيغية شرسة ولاسيما في نوميديا وتونس وليبيا وقد قادها كل من أنطلاس ويوداس وكوتزيناس بعد أن استغلوا ضعف البيزنطيين وصراعهم حول السلطة وتهافتهم حول الغنائم والنفوذ السياسي والمالي:” فبعد موت جوستنيار(يوستنيانوس) سنة565م، تأكد بالملموس أن الأوضاع تغيرت بعمق في أفريقيا البيزنطية، إذ تواطأ كبار الملاك والموظفون وضباط الجيش للهيمنة على مقاليد الأمور، وانتشر النهب والاستغلال الجشع، وما كثرة التحصينات حول المدن في ذلك العهد إلا دليل على تلاشي السلطة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين والأمازيغ المحكومين، بحيث أعلن هؤلاء الثورة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين في مدنهم، كما اتبع الأمراء الأمازيغ سياسة ماسينيسن (ماسينيسا) الطويلة النفس، المتمثلة في الضغط والمضايقة المستمرين. ومن أشهر هؤلاء الزعماء الأمازيغ الذين تصدوا للاحتلال البيزنطي يوداس أمير الأوراس الذي كانت نوميديا مجال حركته، وكورتيزاس الذي حارب البيزنطيين في افريقية وغيرهما من الأمراء الأمازيغ الذين تزعموا حسب المؤرخين ثماني أو تسع إمارات”
ومن جهة أخرى، فقد ضمن البيزنطيون عن طريق سياسة التحصين وبناء المعاقل” بقاء مهمشا لمواقعهم على الساحل المتوسطي الأفريقي لمدة قرون، دون أن يتمكنوا من التوغل في الأراضي الداخلية كما فعلوا في مصر والشام وآسيا الصغرى وإيطاليا. ضمنوا لها البقاء،دون ضمان الأمن؛ كانوا عادة لاينتقلون من موقع إلى موقع إلا عن طريق البحر. ولما امتدت أنظار الروم إلى بعض أراضي أفريقيا ونوميديا الشرقية، نشطت المقاومة الأمازيغية نشاطا كبيرا بقيادة زعماء من قبائل” أوراس” ، وقبائل ” اللواتة” الليبية أمثال يابداس وأنطالاس وكاركزان. فانهزم البيزنطيون عدة مرات، مع لجوئهم إلى الغدر في غير مناسبة، وقتل منهم عدد من القواد العسكريين الكبار، فاضطروا مرارا إلى أداء الفدى وتقديم الهدايا النفيسة. فبالإضافة إلى المناوشات التي تحدث بين الطرفين باستمرار، قد دارت بينهما معارك طاحنة سنة 537من وسنة543م، وسنة 550م، وسنة563م، فبرز في تلك المعارك قواد عسكريون أمازيغيون مهرة أمثال”گزمول” الذي هزم بالتوالي ثلاثة جنرالات وقتلهم. وكان المقاومون كلما انهزموا لاذوا بالجبال أو الصحراء. وكان الأسرى منهم يتحدون الجنود الروم ويسبون الإمبراطور وهم مصفدون. فأدرك القواد البيزنطيون أن ” البربر لايمكن أن يهزمهم إلا البربر!”.فاستدرجوا قبائل ” أوراس” إلى التحالف معهم بقيادة يابداس وإفيسداياس Ifisdaias ؛ فقتل أنطالاس. وفي سنة597م خادع الروم البربر وغدروا بهم غدرا شنيعا، وهزموهم. ثم، تواصلت المناوشات إلى أن جاء الإسلام.”
وهكذا، فقد حاول البيزنطيون أن يحافظوا على وجودهم في شمال أفريقيا ولو لفترة مؤقتة قصد استغلال المنطقة استغلالا سريعا لتأمين اقتصاد الإمبراطورية المركزية عن طريق شراء ضمائر القواد الأمازيغيين وضمان تحالفهم ، ونشر التفرقة بين الأهالي والغدر بهم في الأخير، بيد أنهم لم يفلحوا في ذلك بسبب اشتداد المقاومة الأمازيغية في كل ربوع تامازغا احتجاجا على الوجود البيزنطي في أرضهم.
أنعم وأكرم بالبربر الكرام