تخطى إلى المحتوى

رائحة النفط الأولى وأسرار التحرش الغربي بالخلافة العثمانية 2024.

كثيرة هي الدراسات والتقارير التي تحدثت عن دور النفط وشركاته في توجيه السياسات الخارجية لكثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ، ولعل أشهرها اليوم كتاب(TheBlood And Oil)" الدم والنفط " لصاحبه " Michelle Gellar " ميشيل كلار" ، ولكن " مقالنا " هذا الذي نقدمه اليوم لقرائنا الكرام ونرشحه هو من طراز التقارير النادرة التي أراها حقيقة بوصفنا لها (بالمعاني التأسيسية)والضرورية لمحاولة فهم المداخل الرئيسة لهذا الموضوع ومخارجه،إذ معانيها تدع متأملها يرى الجذور الأولى لمسألة هذا الصراع الدائر اليوم في منطقتنا العربية والإسلامية، وهي وإن كانت أمشاج خواطر أطلقنا عليها تجوُّزا اسم المقالة- وإن لم تكن كذلك بالمعنى الأكاديمي-إلاّ أنّ صاحبها ليس بالرجل السائب الساذج بل هو رجل من طبقة أهل السياسة العوالي وله باع وتجريب طويل في الحكم؛ إنه السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى.
هذه بعض أحاديث نفسه المؤمنة التي أملاها على مرافقه الذي كتب مذكراته السياسية يوم كان يصحبه في منفاه، وذلك قبل تسعين سنة من يومنا هذا، وقبيل وفاته بعام واحد، بعد أن تآمر الإنجليز واليهود ونوادي الماسونية على عزله وإبعاده عن عرشه الذي لزمه أكثر من ثلاثين سنة،ونـحن بالجملة نقول: إن هذا القبس الذي قبسْناه لكم من هذه المذكرات وصبرنا على كتابته يحوزُ أهميةً استثنائيةً في تعميق الوعي السياسي لدى جمهرة دعاة الإسلام، ويصلح للتدارس الجماعي في أنديتهم السياسية ومجالسهم التربوية، ولذلك نزعم كعادتنا أن هذا المقال سيهب بإذن الله تعالى لكل من أنْعَم التأمل في تفاصيله وجزئياته ومنطق جدال صاحبه قواعدَ كليةً كثيرةً تعينه على فهم الكثير من الظواهر والتصرفات السياسية، بل ستكشف له كما قلنا في البدء الجذورَ العميقة لجدلية هذا الصراع الدائر اليوم في منطقتنا والذي يمثل النفط أحد أهم
محركاته، وفي المقالة أيضاً أسرار كثيرة ومفاد تجريب نافع باح به هذا القائد الإسلامي الثقة المظلوم، ولولا خشية التطويل على قرائنا الكرام لجعلنا على كل حرف من حروفها تعاليق وشواهد .. ولكن حسبنا من ذلك هذا العنوان العريض الذي وضعناه تُرجماناً لحاصل معانيها الكليّة، وحسبنا أيضا تلك العناوين والفقرات التي جعلها المترجم حواصل لما تحته من معنى مع تصرف قليل أحدثناه نـحن على عبارتها ، ومع مزيد من الوعي والله الموفق.
أملى رحمه الله تعالى بتاريخ 20 مارت 1333(رومية) الموافق لـ20 أبريل 1917م قائلاً:
الإِنجليز يتذرعون بفرية البحث عن آثار العراق خدمة للثقافة ؟
(ذكرتُ أنني أعطيت الألمان خط سكة حديد بغداد (يقصد امتياز)، وذلك لكي أجرَّ الإِنجليز إلى الاتفاق الذي أرضى عنه ، ولهذا قصة أخرى طريفة أعرضها هنا: لمـَّا قال الروس" لا " للاقتراح الإِنجليزي الرامي إلى تقسيم دولتنا، بدأ الإِنجليز يتقرّبون مني بشكل لم أستطع في البداية فهمه، استطعت معرفته بعد عدة أشهر ، ذات يوم قابلني السفير الإِنجليزي (في استانبول)، وتحدث طويلاً عن أن الأناضول وسوريا والحجاز تُعَد مهد أعظم حضارات التاريخ، وسألني إن كنت فكرت في مشروعٍ للتنقيب عن الآثار في هذه المناطق، فربما يمكن العثور على كنوز لو قامت مشاريع للتنقيب عن هذه الآثار هناك، وقال : إن التماثيل الصغيرة، والقَلَل والأواني المكسورة العتيقة، والنقود القديمة، التي ستُستخرج من تحت الأرض، لها قيمة الكنز ، وإن النظر فيها ربما يكون من شأنه تغيير التاريخ ، وسيمكن بواسطتها الحصول على معلومات (علمية) قيٍمة كثيرة ، وبعد أن قال: إن قراءة الخط المصري القديم قدّم للحضارة العالمية مكسباً عظيماً جداً، أضاف قائلاً: إن الدولة العثمانية لو وجدتْ أن عمليات التنقيب عن الآثار في هذه المناطق تكلِّفها الكثير، فإن الحكومة الإِنجليزية مستعدَّة لتقديم مختلف المعلومات بكل سرور، وسترسل رجالها على وجه السرعة، وسيبدؤون في الحفر، وستصرف لهم الحكومة الإِنجليزية مصاريفهم ، وفوق هذا فإنَّ ما يعثرون عليه من الآثار التاريخية هناك سيتركونه لنا دون مقابل.
ولمَّا كان هدفي إقامة علاقة وطيدة مع إنجلترا، ولم أكن أعرف ما ينطوي عليه هذا الاقتراح: قبلتُ، واستدعيتُ الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وشرحت له الاقتراحات الإِنجليزية ونبَّهتُ عليه بمتابعة أعمال هذه الوفود القادمة ، والحقيقة أن الإِنجليز أرسلوا مجموعة من علمائهم إلى إستانبول، دونما تأخير كثير، قابلتُهم جميعا ًفي لقاء عام معهم، وتمنَّيتُ لهم النجاح، وأقمت لإِكرامهم في ذلك المساء مأدبة عشاء دعوتُ إليها أيضاً سفراء الدول الأخرى، وكان يبدو على السفير الروسي بشكل خاص وبوضوح أنه غير ممتنّ من هذا التصريح، كان ينصت باهتمام وهو يبتسم بشكل واضح إلى حديثي عندما قلت له فيه: إن الإنجليز طلبوا السماح لهم بالتنقيب عن الآثار خدمة للتاريخ والحضارة.
وبدأ فريق من العلماء تنقيبهم في قيصرية (وهي منطقة معروفة في الأناضول)، وفريق آخر في الموصل، وفريق ثالث في نقطة قريبة من بغداد، وكانوا ينقبون بمساعدة العمال المحليين، وكنا قادرين على متابعة أعمالهم، ولم يظهر شيء من هذه الحفريات غير بضعة أوانٍ مكسورة وقُلل وتماثيل صغيرة وتوابيت ومقابر، وقام الإنجليز بتسليمنا هذه الأشياء، حتى النقود النحاسية القديمة.
كان السفير الإنجليزي يطلب كثيراً مقابلتي والتردد عليّ للإدلاء بمعلومات عن هذه الحفريات، وكنا نتحادث، وكنت أقدّر جميع هذه الفرص، وكنت أمهّد الأرض للاتفاق الذي فكرت في عمله؛ كنت أريد ألاّ أقدّم أنا هذا الاقتراح، ولكني أريد أن يقدمه الإنجليز بأنفسهم إليّ، ليكون الاقتراح اقتراحهم وإذا وجدته مناسباً وافقت عليه وإن لم أجده كذلك رفضته، وهكذا كنت أحاول اقتطاف الأفضل.
بواكير البترول تظهر في العراق حدث في هذه الأثناء شيء لم أستطع فهمه أيضاً؛ جاءني السفير الإنجليزي ذات يوم وهو متحمس، وقدّم إليّ سيفا مرصّعا عُثر عليه في إحدى الحفريات بجانب الموصل، كان السيف مكسوراً لكن يده كانت مرصّعة بكثير من الأحجار الكريمة، وقال السفير: إن هذا السيف سقط على الأرض أثناء إحدى الزلازل، فذهب جزء منه في أعماق بعيدة، وعُثر على الجزء المتبقّي منه ضمن الحفريات.
شكرتُ السفير وأنعمتُ عليه، ولكن لم تكن مخابراتي على علم بسيف كهذا، إذن فتفسير الأمر على شكلين: الأول: أن مخابراتنا تجهل هذا الخبر، والثاني: أن السفير ربما لعب عليَّ لعبةً لا أعرفها.
عرضتُ السيفَ على بعض التجار من السوق من هؤلاء الذين يفهمون في هذه المسائل، فقالوا: إن هذا السيف ليس قديماً، ولكن أدخلتْ عليه بعض التعديلات ليبدو كأنه قديم،
ازداد اهتمامي جداً بالأمر، ولكني لم أفصح لأحد بشيء من هذا الاهتمام، ثمّ علمت من الأخبار التي ترد إليّ أن بعثتَيْ التنقيب عن الآثار في كلّ من الموصل وبغداد قد تركتا أعمالهما على وجه الأرض، وبدأتا تحفران آباراً، في ذلك الوقت وَضُحتْ أهدافهم؛ كانوا يريدون مني أن أصدّقهم، وهكذا كانوا يريدون أن يحصلوا على إمكانية العمل براحة أكثر، وهذا السيف الذي قُدّم لي على أنه قديم ومزيّن بالأحجار الكريمة كان من أجل أن أزيد ثقتي بهم، ولم يكن ما يبحثون عنه أواني مكسورة أو تماثيل، وإنما كان البترول.
منعتُ الإنـجليز استخراج بترول الحجاز وسوريا كنتُ أعرف من قبل أنّه من أجل العثور على البترول في الأفلاق (وتطلق على رومانيا) يقوم المختصون بحفر الآبار، وعن طريقها يبحثون عنه.
وبعد فترة جاءني السفير الإنجليزي بحجة أن يقول لي خبراً آخر، قال لي: إن قسماً كبيراً من أراضي سوريا والحجاز عبارة عن صحراء، والمعاناة شديدة في هذه الأماكن من العطش، لعدم وجود الماء، ولهذا السبب فإنه يتعذر تعمير هذه المناطق، ولذا، فإن الحكومة الإنجليزية-إذا أصدرتُ موافقتي-مستعدة باسم الإنسانية أن تفتح آباراً هناك، ولكن لهذا شروط: إذا تم العثور على الماء وتكونت واحات، فإنهم سيتركون استخدام الماء الذي سيخرج للأهالي، ولكنهم في هذه الحالة يصبحون أصحاب الماء.
إن مسألة الاتفاق ذاته لا تسير كما أريد رفضت الاقتراح، ولم أكتفِ بهذا، بل أغلقت رسمياً الآبار التي فتحوها في الموصل وبغداد.
تأثر الإنجليز أبلغ التأثر بهذا، وغضبوا، وتركوا الآبار كما هي، ولكنهم بدؤوا يأخذون على عاتقهم التحرش بمسألة الخلافة، متخذين من جمال الدين الأفغاني وسيلة لمآربهم، كما كانوا يريدون الوصول إلى غايتهم باحتواء أمير الحجاز.
منعت البترول عن الإنـجليز فأثاروا مسألة الخلافة العربية
في مقابل هذا قمت بإرسال قافلة كبيرة نوعاً ما من الدراويش إلى مسلمي الهند، وقابل الإنجليز هذا الموقف بإثارة نكبة كريت، وذهبوا لأكثر من هذا، بأن حاولوا إقناع روسيا وفرنسا بإسقاطي من على العرش، ورفض الروس بلهجة حادة هذا الاقتراح الإنجليزي، لأن إنجلترا كانت ترتب في روسيا حركات تمرد لإجبار القيصر على قبول الحكم الدستوري، كما فعلتْ مع الدول العثمانية.
وفي الوقت الذي وقَعنا فيه مع إنجلترا في الصراع، بدأت ألمانيا في مدّ يد الصداقة إلينا، وأيدتنا صراحة في قضية كريت، واختلفت في ذلك مع الدول الكبرى الأخرى.
إن انتصار جيشنا في اليونان قد نبه الألمان وفتح أعينهم، فاقترب مني القيصر (يقصد القيصر الألماني ويلهلم) لدفع التحالف الفرنسي الإنجليزي الروسي. أما أنا، فلكي أهدد الأنجليز بأني أستطيع فتح طريق الهند للجيوش الألمانية: اقتربت بسرعة من الألمان، وإن كانت أفكارنا في الأصل مختلفة عن بعضها البعض تماما.
في أثناء هذه الزوبعة وصل القيصر (ويلهلم) إلى استانبول، فأعددت له استقبالاً فخماً، وألقى القيصر بدوره خطباً رنانة أشاد فيها بكرم ضيافتنا، ولم يتحرَّج من القول بأنه صديق ثلاثمائة مليون مسلم يعيشون في أرجاء العالم المتفرقة، وبعث من دمشق بخطاب إلى قيصر روسيا قال له فيه: "إن الدولة العثمانية ليست على وشك الموت، وإنما هي دولة تمتلئ حيوية"، كما لم يتحرج القيصر الألماني أيضاً من تهديد قيصر روسيا بقوله: (ابتعد عن مسّ شرف المسلمين وخليفتهم).
ولكن الألمان أيضا اشتموا رائحة بترولنا فطمعوا
ليس هذا أصل ما أريد شرحه، وإنما هذا التصرف وهذا السلوك من جانب القيصر جعلاني أشعر بأحاسيس طيبة كثيرة، وتصرفت معه تصرف الأصدقاء إلى آخر مدى.
جاء مع الإمبراطور الألماني إلى بلادنا بعض العلماء الألمان، من بينهم من كان يشتغل بالحفريات- تماماً مثل الإنجليز- وكانوا يريدون البحث عن الآثار تماماً، تنقب وتفتح الآبار القديمة حول الموصل، سمحت لهم، وحيث إني سمعت أنهم شموا رائحة البترول الذي كانت تنقّب عنه البعثات الإنجليزية فإني أرسلت أحد مرافقيّ باسم مستعار ونبَّهت عليه بمتابعة الأمر من مكان الحفائر، مضى على هذا وقت قصير جداً-وكان الإمبراطور ما يزال ضيفاً ببلادنا- وإذا بي أتلقّى تقريراً من صلاح الدين أفندي يقول: إن البعثة الألمانية تفعل ما فعله الإنجليز تماماً، تنقب وتفتح الآبار.
أعترف بأني ابتأستُ لهذا الخداع إذ لو كان الإمبراطور الألماني قد جاء لاقتراح البحث عن البترول لأعطيته الموافقة على أساس من بعض الشروط، إذ هذا البحث يهمّ بلادي أيضاً، أمّا أن يكون الأمر إرسال جواسيس يبحثون عن البترول بحجة البحث عن الآثار القديمة فإنه يُفصح بوضوح عن نظرة الألمان للعثمانيين.
البترول كان سبب إبعادي عن عرشي
اقترح تحسين باشا " أمين البلاط السلطاني" أن أذكر هذه المسألة للإمبراطور، لكني رفضت وقلت: نتركهم يبحثون فإذا ما اكتشفوه فإنهم لن يضعوه في جيوبهم، نعطيهم أواني الصلصال المكسورة ونستخدم نـحن البترول، وذلك لأنهم لم يحصلوا مني في الأصل على إذن للبترول، مرافقي صلاح الدين أفندي كان رجلاً يفهم هذه المسائل جيداً، استدعيته وأرسلته إلى أمريكا، لأن أمريكا متقدمة جداً في هذه الأمور في تلك السنوات، وهذا أيضاً يساعد على إقامة علاقات طيبة مع هذه الدولة، وفي نفس الوقت نستطيع أن نعرف إنْ كان في بلادنا بترول أم لا؟
وللأسف لم تسفر محاولتي هذه عن شيء، فالشركات التي اتصل بها صلاح الدين أفندي في أمريكا لم تبد اهتماماً بالأمر، وعاد بعد عام صفر اليدين.
وقال لي صلاح الدين أفندي عند عودته: "إن الأمريكيين يعتقدون أنهم يستخرجون من البترول ما يكفي احتياج العالم، وأنهم لا يميلون إلى هذا الأمر الخاص بالتنقيب عن بترول البلاد العثمانية بحجة أن وجود آبار جديدة من شأنه أن يخفض أسعار البترول"
لكننا أيضاً شممنا رائحة البترول بعد الإنجليز والألمان، ولذلك طلبت من اليابان وفدا متخصصا في التنقيب عن البترول ووافقت اليابان على طلب.
ولا أعرف بقية هذا الموضوع لأنني أُبعدت عن العرش بعد قليل) .انتهى الاقتباس.
مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني ص152 إلى 158.الطبعة الرابعة دار القلم الدمشقية
المصدر : مجلة الرائد ـ العدد الثالث و العشرين

الجيريا

الجيريا

الجيريا

الجيريا

الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.