تفسير التاريخ الإسلامي
تختلف وجهات النظر التي تحاول شرح وتفسير التاريخ الإسلامي بكل تعقيداته و زخمه بالأحداث و الثورات و القلاقل ، حسب الخلفيات الإيديولوجية التي يتبناها المحللون و الأدوات التحليلية التي يستخدمونها .
في العصر الحديث بعد ما يسمى بعصر الصحوة كانت هناك توجهات واضحة من قبل المؤرخين المعروفين بالقوميين لتفسير التاريخ الإسلامي على أنه تاريخ عربي محض ، في ذات الحين نرى أيضا مؤرخون شيوعيون يميلون لرؤية التجاذبات السياسية و العسكرية في مجمل التاريخ الإسلامي بوجهة نظر ماركسية تغلب العوامل الإقتصادية و الصراع الطبقي فوق كل اعتبار آخر ، أما المؤرخون العلمانيون فكانوا يحاولون جهدهم لمنع ادخال العامل الديني ضمن تفسير الأحداث و كانت جهودهم تتركز على اعادة استكشاف ما يدعى بالتاريخ الجاهلي باعتبار أن بذور النهضة العربية بدأت في ذلك العصر و ما الإسلام ألا بذرة التطور في الفكر العربي .
بين كل ذلك الإختلاف على تفسير الأحداث بقي المؤرخون ذوو التوجه الإسلامي يناضلون لإثبات تفرد الإسلام كدين أحدث ثورة اجتماعية و حضارية منحت العرب دولتهم و حضارتهم وهذه حقيقه لا جدال فيها و يؤكدون على تسامح الإسلام و وصول العديد من الأعراق الإسلامية الأخرى الى سدة الحكم . كما يؤكد هؤلاء المؤرخون على أن بعثة النبي محمد بن عبد الله كانت نقطة فارقة أحدثت انقلابا في تاريخ المنطقة ككل بشكل خاص و العالم بشكل عام . لكن نقطة الضعف الأساسية أنهم يقدمون بعد ذلك توصيفا للأحداث بدون تفسيرها فبعض السنة تؤكد على عدم الخوض في تفاصيل الفتنة و الخلاف بين معاوية و علي باعتبار الإثنين من الصحابة و كلاهما مغفور لهما ، أما الفريق الآخر من أهل السنة و الجماعة فيؤكد خطأ معاوية في الخروج على علي و يثبتون أحقية علي بدلالة انتخابه و بيعته . على الطرف الآخر النقيض يقف الشيعة موقفهم المعروف من دعم علي و آل بيته في خلافة المؤمنين بتقرير رسول الله محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم ، جاعلين الخلافة شأنا شرعيا بخلاف نظرية السنة التي تجعل الخلافة أمرا سياسيا يتفق عليه المسلمون و ينعقد بالبيعة .
يتفرد الدكتور عبد العزيز الدوري بطرح تفسير مبكر للتاريخ الإسلامي يعتمد على عدة نظريات و يعتمد مزيج عدة عوامل في تفسير التاريخ الإسلامي ، و هذا المزج و تعدد العوامل المفسرة يمنح نموذجه التفسيري مرونة أكثر و قدرة تفسيرية أوسع .
يمكن تصنيف العوامل التي تلعب دورا رئيسيا حسب تفسير الدكتور الدوري الى :
عوامل عقدية : تلعب فيها أمور الدين و العقائد دورا أساسيا .
عوامل ثقافية : فالثقافات و العادات المختلفة سواء الموجودة مسبقا عتد العرب مما يدعى بالعادات القبلية و البدوية أو العادات التي صادفوها عند انتشارهم في الأقاليم المجاورة مثل الموروث الفارسي و الكسروي و الموروث الروماني و اليوناني .
عوامل حضارية فلسفية : تشكل مجموع العلوم و الفلسفات التي تلقاها المسلمون عند اختلاطهم بالشعوب الأخرى و هي أساسا : الفلسفات الهندية و الفارسية و اليونانية .
عوامل اقتصادية : فالمال و الثروة طالما كانت ذات دور رئيس في الكثير من الحروب و النزاعات التي رسمت تاريخ الجنس البشري .
يعتمد الدكتور عابد الجابري تصنيفا مشابها في كتابه العقل السياسي العربي : حيث يقوم بدراسة التاريخ الإسلامي حسب محاور ثلاثة : ( العقيدة ، القبيلة ، الغنيمة ) كما يدخل أيضا المدخلات الغريبة من عادات حكم و تفاليد فارسية و يونانية رومانية .
ظهور الإسلام
توفي رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلم عام 632 بعد أن وحد الجزيرة العربية تحت راية الإسلام.
مقالة رئيسية: محمد بن عبد الله
الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام كانت مجموعة من الأعراب (البدو الرحل) أو المدنيين (أهل القرى و سكان المدن الصغيرة) ينتظمون في قبائل . و يعتبر الولاء للقبيلة و تحالفاتها الأساس في تنظيم المجتمع العربي ( البدوي بشكل غالب ) (مفهوم العصبية). كانت الغالبية العظمى تدين بالوثنية إضافة لأقليات يهودية و مسيحية وكانت مكة مركزا دينيا يؤمه العرب من كل صوب لأداء الحج إلى البيت الحرام الذي بناه إيراهيم .
في هذا الجو ظهر محمد (ص) ليجهر بالإسلام ، و كان أهم تأثير سياسي للإسلام أنه استطاع إقامة دولة في المدينة المنورة يسودها تشريع يحكم الجميع ، و وثائق و معاهدات مع الأقلية اليهودية التي كانت تسكن المدينة . لاحقا استطاع المسلمون هزم المشركين في عدة معارك و فتحت مكة قبل وفاة رسول الله بعامين فحطمت أوثان العرب التي كانت موجودة في الكعبة و اعلن التوحيد .
التوحيد الذي جاء به الإسلام لم يكن دينيا روحيا فقط بل كان أيضا اجتماعيا سياسيا ، فالجزيرة العربية كلها دخلت في عقيدة واحدة و أصبح لها كيان واحد و قبلة واحدة و إله واحد هو الله . في حين ضعفت العصبيات القبلية و المطامع المادية في تلك الفترة مؤقتا قبل أن تعود للظهور بعد أن حقق المسلمون انتصارات مهمة لإسقاط دولة الساسانيين و فتح بلاد الشام .
عصر الخلافة الراشدة
مقالة رئيسية: خلافة راشدة
توفي النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في عام 632 ميلادي ، تاركا للمسلمين قواعد دين واضحة و كتاب الله القرآن الكريم ، لكن قضية إدارة شؤون الأمة السياسية لم تكن واضحة و متفق عليها عند الجميع ، لذلك فإن اول معضلة كانت ستواجه المسلمين هي قضية الخلافة أو قيادة الأمة و هي قضية ما زالت موضع خلاف حتى اليوم بين الفريقين العريضين : السنة و الشيعة .
كان البعض من أنصار علي بن أبي طالب يرون ان عليا (ابن عم الرسول و زوج ابنته) هو الحق بخلافة الرسول الكريم لكن آراءا اخرى كثيرة كانت مطروحة فالأنصار كانوا يطالبون بثمن نصرتهم للرسول و إيوائهم المهاجرين باختيار خليفة منهم ، و أغلبية المهاجرون كانت ترى ان هذا الأمر لا يمكن ان ينعقد إلا لشخص من قريش ، و انتهت المفاوضات في سقيفة بني ساعدة إلى مبايعة أبي بكر الصديق خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هو من أوائل معتنقي الإسلام و هو من اختاره رسول الإسلام ليهاجر معه من مكة إلى المدينة .
استلم أبو بكر الصديق خلافة الأمة في مرحلة دقيقة ، فغياب الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم شجع الكثير من القبائل العربية التي اعلنت ولائها للإسلام إلى إعلان العصيان و محاولة الخروج عن سلطة المدينة عن طريق رفضها دفع الزكاة في حين أعلن البعض الاخر ارتداده عن الإسلام و ظهر العديد من مدعي النبوة في أرجاء مختلفة من الجزيرة العربية . عرف أبو بكر مباشرة ان مثل هذه الحركات تهدد وحدة الأمة و الدين و كان رده مباشرة عن طريق مجموعة حملات عسكرية على القبائل المرتدة عرفت بحروب الردة .
لم تستمر خلافة أبي بكر الصديق إلا سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام استطاع خلالها إهماد حركة الردة و الخروج عن سلطة المدينة . و قبل موته عادت مشكلة الخلافة من جديد فما كان من أبي بكر إلا أن حلها بالوصية إلى عمر بن الخطاب الذي أصبح خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم و سيلقب بأمير المؤمنين . استمر حكم ابن الخطاب عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما تمت خلالها معظم اوائل القتوحات الإسلامية خصوصا فتح بلاد الشام و و بلاد الرافدين و و مصر داحرين الوجود البيزنطي و الساساني في كلا من بلاد الشام و العراق و مصر . اقتحم المسلمون غمار البحار في عهد عمر بن الخطاب و هزموا البيزنطيين في معركة ذات الصواري . كل هذا جعل من الدولة الإسلامية تتحول إلى بداية إمبراطورية مترامية الأطراف تشمل العديد من الأراضي و الأقوام و الشعوب . تدفقت الأموال على المدينة المنورة و انتعشت الحياة الاقتصادية مما أثار فعليا مخاوف أمير المؤمنين الذي عرف بزهده و عدله ، و رغم ما عرف به عمر من عدل يتجلى في قصص كثيرة (قصة ابن عمرو بن العاص مع القبطي : متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) فإن انهيار الدولة الساسانية الكامل شكل غيظا شديدا عند بعض الفرس و المجوس ، مما سيجعل ابن الخطاب يلقى حتفه على يد مجوسي يدعى أبو لؤلؤة .
قبل وفاة ابن الخطاب يفطن إلى طريقة جديدة في اختيار الخليفة القادم تخلصه من مسؤولية الاختيار و التي ستكون تطبيقا فريدا لمباديء الشورى التي يحض عليها الإسلام : ما كان من عمر إلا أن اختار مجموعة من ستة أشخاص (هم من بقي من العشرة المبشرين بالجنة) أي انهم أشخاص قد حازوا رضا الله و رسوله و أمرهم أن يجتمعوا بعد موته لاختيار خليفة المسلمين .
انحصر امر الخلافة بعد أول جلسة شورى بين علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان و هو أيضا صهر لرسول الله (ص) ، مما دفع بالأمر لإجراء استقتاء في المدينة قام به عبد الرحمن بن عوف و كانت نتيجته لصالح عثمان بن عفان ، و يشير الكثير من المؤرخين أن الناس كانت قد ملت سياسات ابن الخطاب التقشفية و كانت تخشى أن زاهدا جديدا مثل ابن أبي طالب سيستمر بزجرهم من الاستمستاع بالثروات الجديدة ، أما ابن عفان فهو ثري أصلا و رغم تعبده و تقواه فهو لا يرى ضير من التمتع بما آتاه الله من نعم .
يقسم عادة المؤرخون خلافة ابن عفان (اثنتا عشر سنة) إلى قسمين : ستة سنوات جيدة و ست سنوات في اضطربات و فتنة . الست سنوات الأولى توبعت فيها الفتوحات و استمر تقدم الجيوش الإسلامية في شمال إفريقيا و آسيا الوسطى ، أما الست السنوات الأخيرة فقد تميزت بظهور الاضطرابات سيما في ماطق مثل العراق و مصر . و على ما يبدو ان امورا اقتصادية و التعقيدات الاجتماعية الجديدة الناشئة عن تشكل مجتمعات جديدة : قبائل عربية وافدة ، سكان أصليين ، جيوش إسلامية ، حضارات سابقة في الأراضي المفتوحة الجديدة قد بدأت بإفراز تأثيراتها في هذه السنين الست ، البعض يشير أيضا إلى أهمية وجود مؤامرات من عناصر دخيلة على المجتمع الإسلامي ، و تتجمع هذه الآراء التي تشير إلى نظرية المؤامرة في شخصية تاريخية موضع جدال شديد تدعى عبد الله بن سبأ . المحتجون على سياسة عثمان كانت تشير إلى امتيازات يحصل عليها أقرباؤه من بني أمية إضافة إلى مجموعة من الانتقادات الشرعية ، استمرت هذه الاعتراضات إلى ان انتهت بفتنة مقتل عثمان و هي أول فتنة داخلية تلم بالمسلمين .
تسلم علي بن أبي طالب مقاليد الخلافة بعد بيعة سريعة في المدينة ليواجه وضعا متأزما في الدولة الإسلامية بعد مقتل عثمان . و المشكلة الأساسية أن من بين أنصاره أشخاصا كانوا متهمين بالمشاركة في مقتل عثمان . و نتيجة لذلك سيمتنع معاوية بن أبي سفيان عن بيعة علي ، و قد كان واليا على بلاد الشام ممكنا نفوذه في عاصمته دمشق و ما حولها .
بعد فترة وجيزة ، سينقل علي بن أبي طالب مركز قيادته إلى الكوفة حيث يتجمع انصاره و شيعته ، مبتعدا عن المدينة المنورة و الصحابة ، و سيدخل لاحقا في نزاع مع اثنين من العشرة المبشرين بالجنة : طلحة بن عبيد الله و الزبير بن عوام و معهم أم المؤمنين عائشة في معركة الجمل ، منتصرا في النهاية رغم كراهيته لهذا النصر.
من جديد سيحاول علي أن يستعيد السيطرة على الشام عن طريق مواجهة معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين التي ستنتهي دون حسم و الاتفاق على مسألة التحكيم بين معاوية و علي . لكن مسألة التحكيم التي كان ممثلا الخصمين فيها : أبو موسى الأشعري و عمرو بن العاص ستنتهي دون حل. بل إنها ستخلق مشكلة جديدة لعلي عندما يلوم علي بعض أنصاره على قبوله التحكيم ، فقبول التحكيم بحد ذاته خروج عن حكم الله ، و ستخرج هذه المجموعة من جيش ابن أبي طالب و سيدعون لاحقا بالخوارج.
سيتحول الخوارج لاحقا إلى ألد خصوم علي الذي سيهزمهم بعدة معارك أهمها معركة النهروان ، لكنه في النهاية سيلقى مصرعه على يد رجل منهم يدعى أبو ملجم .
بارك الله فيك