تخطى إلى المحتوى

وفي التاريخ دروس وعبر 2024.

جاء القرآن الكريم – من حيث المعنى – في ثلثه تقريبا تأريخا لقصص تحكي حال الكفار مع الأمم المسلمة، سواء الأمم التي سبقتنا، ونضال أنبيائها معها لإقرار عقيدة التوحيد بين أفرادها، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونضالها مع طواغيت الكفر من المشركين. ولم يكن هدف القرآن من ذلك تسليتنا بإخبارنا بما حدث من قبلنا أو معنا، وإنما لفت نظرنا للاعتبار بما حدث وأخذ العبرة والعظة منه.

وليست دراستنا للتاريخ إلا لكي نستفيد منه. وإنما العجب كل العجب أن يستفيد أعداؤنا من دراسة تاريخنا، حيث درسوه جيدا واستطاعوا استخلاص العبر والنتائج منه. وأعجب العجب أنهم أصبحوا يحاربوننا الآن باستقرائهم لتاريخنا وبجهلنا نحن إياه!!!

وقد أمرنا تعالى بدراسة سير من قبلنا للوقوف على العبر واستخلاص الدروس التي ترشدنا في حياتنا. فقال عز وجل: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اْلأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران: 137-138 ].

فمن عجب أن نترك دراستنا للتاريخ وفق هذا النهج، أي وفق نظام السنن الإلهية في الكون، وأن يكون نهجنا لقراءة التاريخ مسايرا للنهج الغربي، الذي يعتمد في تفسيره للتاريخ على أثر البيئة الخارجي من مناخ وجغرافيا واقتصاد، أو النهج الشيوعي الذي يعتمد على التفسير المادي للتاريخ، وأن نلتفت إلى توافه الشخصيات المعاصرة لكي نجعل منهم قدوتنا، بديلا عن مصابيح الهدى من أعلامنا السابقين.

إن دراستنا للتاريخ على هذا النحو – أي وفق نظام السنن الإلهية – تتيح لنا إدراك الأسباب الحقيقية للانتكاسة الضخمة التي وقعت فيها الأمة في عصرها الأخير، ونتعرف في الوقت ذاته على طريق الخلاص. إن التخلف المادي والعلمي والسياسي والحربي والاقتصادي … الخ، الذي هو سمة المسلمين في واقعهم المعاصر، ليس هو السبب الأصيل في انتكاستهم المعاصرة، إنما هذه كلها أعراض للمرض الأصلي، الذي هو فراغ المسلمين من حقيقة الإسلام، وبعدهم عن الله، وبعدهم عن مقتضيات رسالتهم التي أخرجهم الله من أجلها.[1]

وإذا كان لكل علم ثمرة، أي غاية يجب أن يخرج بها الدارس من دراسته لهذا الفرع من العلوم، فإن دراسة التاريخ لها ثمار شتى، لعل من أهمها الوقوف على أخطاء المستشرقين وآرائهم في تحريف التاريخ الإسلامي، وتزوير حقائقه، وطمس معالمه، والتشكيك في رجاله وأعلامه، وذلك لخدمة أغراضهم الاستعمارية، ومحاولة تشكيل العقل المسلم وفق النسق الغربي الأوربي في المنهج والتصور.[2]

إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ هذا الدين الواحد، وهو الإسلام: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [ آل عمران: 19 ]، وهو تاريخ تطبيق هذا الدين … تاريخ تطبيق شريعة الله إلى أبناء آدم عليه السلام … تاريخ الصراع بين الحق والباطل … بين حزب الله وحزب الشيطان … تاريخ انتصار الرسل والدعاة في دعوتهم إلى الله عز وجل، واندحار موجات الكفر وأهله … تاريخ أمم عرفت أوامر الله ونواهيه ولم تلتزم بها فكان عاقبة أمرها خسرا … تاريخ رجال لا يخشون في الله لومة لائم … وعلماء جندوا علمهم لله، وآخرون عتوا عن أمر ربهم، وباعوا أنفسهم للشيطان، وجعلوا دين الله مطية لأهوائهم ورغباتهم، فطغوا وتجبروا وظنوا أنهم قادرون على كل شيء، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

ومن هنا تأتي العلاقة بين التاريخ والدين، وهي علاقة وثيقة … إن التاريخ الإسلامي يروي لنا تاريخ العقيدة الصحيحة … وجزاء من يلتزم بها ويقاتل من أجلها، وجزاء من يعرض عنها، ويصرف الناس عنها.[3]

ولذلك فكل أمة من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة، فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها … أما كتاباتنا نحن في عصرنا الحديث هذا، فكثير منها كأنه غافل عن هذه المهمة الضخمة، لأنه مكتوب على يد قوم قلوبهم موجهة إلى خارج ذواتهم، بفعل التبعية، وفعل الغزو الفكري، أو موجهة إلى ذواتهم ولكن بميول منحرفة – هي ذاتها من فعل الغزو الفكري – كالوطنية والقومية والعلمانية والاشتراكية والمادية … الخ … الخ.[4]

وإذا كان أعداؤنا قد استفادوا من قراءتهم لتاريخنا استفادة عظيمة، فإن الأمثلة على ذلك كثيرة ولا تحصى. ومن ذلك:

o قرر القائد الفرنسي شارل مارتل إرجاء الدخول في معركة مع المسلمين في الأندلس، وخطب في قومه قائلا: " الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل ما يصادفه وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع. ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم على بعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر منهم "!![5] فلما التقوا في معركة بلاط الشهداء بعد عدة سنوات كانت الغلبة للأعداء والهزيمة الساحقة للمسلمين.

o قبل أن يدخل المستعمرون الصليبيون بلاد الأندلس الإسلامية في عصر الدولة الأموية، أرسلوا أحد أقطاب المستعمرين لينظر حال المسلمين في بلاد الأندلس، ليعلموا هل يمكن غزو المسلمين في هذه البلاد أم لا؟ ودخل الرجل الصليبي بلاد الأندلس، فرأى طفلا صغيرا يبكي، فجاء إلى الطفل الباكي وسأله: لماذا تبكي أيها الطفل؟ قال الطفل: أبكي لأن أخي يضرب بالسهام في الضربة ضربتين، وأنا اضرب في الضربة ضربة واحدة!! فرجع الرجل الصليبي إلى الصليبيين المستعمرين، وقال: لم يأن الأوان لغزو المسلمين. وما كان منهم إلا أن أرسلوا إلى المسلمين ما يبعدهم عن الله تعالى، كآلات الغناء والشطرنج والطاولة والحشيش والتدخين … وبعد مدة من الزمان، رجع أحد أقطاب المستعمرين إلى بلاد الأندلس، فوجد شيخا كبيرا يبكي. فسأله: ما الذي يبكيك؟ قال: إن حبيبتي تركتني منذ ساعتين ولم تأتِ!![6] فعلموا أن الوقت قد حان لقطف الثمرة!!!

ومع دراسة الأعداء لتاريخنا وفهمهم له والتحرك من خلاله، فإنهم كذلك يأخذون ثاراتهم من هذا التاريخ أيضا. ومن ذلك:

o أصر المجتمع الدولي على إقامة مفاوضات التسوية النهائية بين فلسطين وإسرائيل بمدينة مدريد في أسبانيا في عام 1992، وهي ذكرى طرد أبي عبد الله محمد الصغير آخر ملوك المسلمين من أسبانيا منذ نحو 500 عام في الثاني من يناير عام 1592 من ميلاد المسيح عليه السلام الموافق للثاني من ربيع الأول عام 897 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والرسالة واضحة إلى الفلسطينيين: لا تظنوا أن تكون لكم دولة، بل سيكون مصيركم في فلسطين هو نفس مصير أسلافكم في الأندلس!!

o في عام 1917 دخل اللورد أللنبي في طرقات بيت المقدس قائلا: الآن انتهت الحروب الصليبية. أي إنهم يخططون مدة ثمانية قرون للثأر من هزائمهم التي أصيبوا بها آنذاك. ثم ظلوا يخططون للعودة إلى بيت المقدس طيلة هذه المدة إلى أن تسنى لهم ذلك في آخر الأمر.

o وفي عام 1920 دخل الجنرال الفرنسي جرو دمشق، وكان أول مكان يزوره ليس قصره ولا معسكرات جيشه ولا مكان ضيافته، وإنما إلى قبر صلاح الدين الأيوبي. فقال لجنوده: امضوا بي إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، فقد اشتقت إلى المقابلة! ولما ذهب إلى هناك، وقف أمام قبره ليقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين!! فهل من صلاح؟!

o قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن معركة بلاده مع المسلمين في أفغانستان والعراق هي امتداد للحروب الصليبية!! ولما أخبره مستشاروه بخطورة هذه المقولة، خشية إيقاظ المسلمين من سباتهم، عاد واعتذر وقال إنها زلة لسان!!

تعلم الغرب أسباب انتصار المسلمين بسبب دراستهم الطويلة لتاريخهم الذي هجروه هم أنفسهم، فاستطاعوا معرفة الأسباب التي تمكنهم من تحقيق النصر، فحاولوا ما يستطيعون إبعاد المسلمين عنها، وسبروا نقاط الضعف، فدفعوا المسلمين للتحلي بها والتمسك بأهدابها، حتى يدفعوهم إلى الهزيمة ويغرقوهم فيها.

إن القاعدة التي يتحقق بها نصر المسلمين واحدة على مر العصور والتاريخ، يلخصها قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت: 69 ]، وقوله عز وجل: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ النور: 55 ].

فكلما غرق المسلمون في شهواتهم وملذاتهم وابتعدوا عن طريق الهداية والرشاد، تخلى الله عنهم، فانهزموا وضاعت عزتهم وأمجادهم. وكلما تمسكوا بحبل الله المتين، كلما كان النصر على الأعداء قويا مؤزرا بمشيئة الله. القضية تتلخص في مدى قرب المسلمين من الله وبعدهم عنه سبحانه.

إن التفسير الإسلامي للتاريخ منبثق من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهو لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول، مما يجعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التأريخ العالمي، لأثر الوحي الإلهي فيه.[7]

عبد الله بن رواحة يحسم القضية في معركة مؤتة، وهي معركة غير متكافئة بكل المقاييس: مجاهد واحد من المسلمين يقاتل أمام سبعين من المشركين!! ولكن عبد الله بن رواحة، الذي فهم السنّة الربانية جيدا يقول: " إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون: الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرس واحد. فانطلقوا بنا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم، فذلك الذي وعدنا نبينا صلى الله عليه وسلم، وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان "!![8]

لكن إذا كنا نتحدث الآن عن سنن الله في الكون، فمن سننه سبحانه وتعالى أن أمة الإسلام أمة لا تموت، فهي الأمة التي ستشهد على بقية الأمم يوم القيامة. إذا كان الحال هكذا، فلابد لهذه الأمة من قيام بعد السقوط الذي تهاوت فيه الآن. وهذا ما يدفعنا للتفاؤل والعمل من جديد بغية تحقيق الصعود الموعود!!

يجب أن يكون التوغل في التاريخ لاستخلاص العبرة واستحضار الفكرة. إن الدراسة المتأنية للتاريخ تكشف لنا جوانب عظمة كثيرة لأمة الإسلام، يحاول أعداؤنا طمسها وتشكيكنا فيها. إن القارئ لتاريخ المسلمين يجد رجال المسلمين حملوا أعباء إبلاغ دين الله عز وجل إلى العالمين بقوة ورجولة. وقد شاركهم في ذلك الأطفال، الذين قاموا بأدوار كبيرة وكثيرة في سبيل تحقيق ذلك الأمر. حتى ليصدق قول القائل فينا الآن:

أطفالنا بالأمس كانوا رجالا *** فلماذا أصبح رجال اليوم أطفالا؟!

————————————————-

[1] كيف نكتب التاريخ الإسلامي، محمد قطب، دار الشروق، ص: 23-24.

[2] ذكر أستاذنا الدكتور طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عبية في رسالته القيمة: مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، من إصدار دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع أربع عشرة ثمرة يجنيها الدارس لعلم التاريخ، فأبدع وأجاد وأفاد. فأنظره غير مأمور.

[3] أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، لماذا؟ وكيف؟، جمال عبد الهادي محمد مسعود ووفاء محمد رفعت جمعة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ص: 17.

[4] كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص: 28.

[5] الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي، فريق البحوث والدراسات الإسلامية بمؤسسة اقرأ، المجلد الأول، ص: 222.

[6] أطفال الصحابة رضي الله عنهم، د/ مصطفى مراد، ص: 65.

[7] فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح، علي محمد الصلابي، مؤسسة أقرأ، ص: 11؛ نقلا عن: إعادة كتابة صدر التاريخ الإسلامي، د/ أكرم ضياء العمري، ص: 3.

[8] الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي، المجلد الأول،

منقول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.