بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين…
أما بعد :
فهذه (محاولة) لدراسة حديث : (( من رأى مبتلى فقال :"الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير من خلقه تفضيلا" إلا لم يصبه ذلك البلاء أبدا)) .
فأقول ـ و بالله التوفيق ـ :
ورد هذا الحديث من رواية جماعة : عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وحذيفة بن أوس.
بعضها باللفظ الآنف ذكره ،
وبعضها بلفظ : ((إلا عوفي من ذلك البلاء)) و بلفظ : ((كان ذلك شكر تلك النعمة))….
ودونك تفصيل الكلام على أسانيده:
أولا: حديث عمر بن الخطاب :
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (29736) والترمذي في "الجامع"(3431) وابن عدي في"الكامل" (5/135و6/211) والعقيلي في "الضعفاء"(3/270) والبزار في "مسنده"(124- البحر الزخار) وجماعة سواهم
كلهم من طريق : عمرو بن دينار – قهرمان آل الزبير-، عن سالم، عن ابن عمر عن أبيه .
قال الترمذي: "هذا حديث غريب ، وفي الباب عن أبي هريرة. وعمرو بن دينار قهرمان آل الزبير شيخ بصري وليس هو بالقوي في الحديث وقد انفرد بأحاديث عن سالم بن عبد الله بن عمر".اهـ.
يأتي الكلام على حديث أبي هريرة .
قال مقيده -عفا الله عنه-:و(عمرو بن دينار البصري): "ضعيف" ،بل شبه متروك .
وأحاديثه عن سالم منكرة. (ينظر"تهذيب التهذيب" 8/27)
وقد تفرد بهذا الخبر عن سالم ،
وأنكروه عليه (كما أنكروا عليه "حديث السوق") :
فقد قال ابن عدي : "وعمرو بن دينار قهرمان آل الزبير حدث بهذين الحديثين هكذا قد روي عنه ما ذكرت (…) ولا يعرف هذان الحديثان عن سالم، ولا يرويهما عن سالم غير عمرو بن دينار هذا"
وقال البزار: "وهذان الحديثان رواهما عمرو بن دينار قهرمان دار الزبير…ولم يتابع عليهما ".
ومع ضعف (عمرو بن دينار) ، فقد اضطرب في إسناده :
-فقيل: عنه ، عن سالم ، عن ابن عمر مرفوعا ـ دون ذكر عمر ـ.
أخرجه ابن ماجه (3892) وتمام الرازي "الفوائد" (1410) وغيرهما.
-وقيل : عنه، عن نافع، عن ابن عمر.أخرجه ابن عدي (2/260) من رواية الحكم بن سنان البصري.
وحكم ابن عدي على هذه الرواية بالوهم.
وقال الدارقطني في "العلل" (104):"يرويه عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم واختلف عنه :
فرواه حماد بن زيد ،عن عمرو ،عن سالم ،عن أبيه ،عن عمر.
وتابعه عبد الوارث بن سعيد ،وإسماعيل بن عليه ،وخارجة بن مصعب…
ورواه الحكم بن سنان أبو عون -صاحب القرب- عن عمرو بن دينار ،عن نافع، عن ابن عمر. و وهم فيه عليه، والصواب عن سالم". اهـ
-وقيل : عنه عن جابر !أخرجه هناد في "الزهد"(442) قال حدثنا قبيصة ، عن حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار قهرمان الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله … [أفادني بهذه الطريق الأخ عبد الله التميمي وفقه الله]
وله طريقان آخران عن نافع :
-إحداهما :
أخرجها الطبراني في "الدعاء"(798) وعنه أبو نعيم في "الحلية"(5/13-14) من طريق مروان الطاطري، عن الوليد بن عتبة ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع عن ابن عمر عن أبيه…
وقال أبو نعيم :"غريب من حديث محمد تفرد به مروان عن الوليد". اهـ .
(محمد بن سوقة) كوفي ثقة، قليل الحديث ،
و"له نحو من ثلاثين حديثا" فيما قال ابن المديني. (ينظر "تهذيب الكمال").
و(الوليد بن عتبة) توقف فيه المزي هل هو دمشقي أم لا،
ونقل قول أبي حاتم فيه :"مجهول"، وقول البخاري:"معروف الحديث" ،
واستظهر الحافظ ابن حجر في "تهذيبه"(11/125) أنه دمشقي .
و فيه نظر : فإن البخاري عده"دمشقيا" ، بينما عده أبو حاتم "كوفيا".
وعلى فرض كون (الوليد بن عتبة) هذا "معروفا"، يبقى تفرده بهذا الحديث غير محتمل ولا مقبول:
-لأنه ليس من أهل الحفظ والإتقان ، (فالتفرد إنما يقبل من الحافظ) ،
-زد عليه نزول طبقته (صغار أتباع التابعين) ،
-وتفرده بهذه السلسلة الذهبية (نافع ،عن ابن عمر، عن أبيه) ، التي يحرص الحفاظ على سماعها ونشرها، و لوكان للحديث أصل عن (نافع)، لرواه عنه كبار أصحابه الذين لازموه وجمعوا حديثه واعتنوا به، فأين مالك ، وأين عبيد الله ، وأين عبد الله بن عون ، وأين ابن جريج… من هذا الحديث؟!
-والأخرى :
أخرجها الطبراني في "الأوسط" (5324) من رواية زكريا بن يحيى الضرير، عن شبابة بن سوار،عن المغيرة بن مسلم ،عن أيوب ،عن نافع ، عن ابن عمر… به .
قال الطبراني : "تفرد به زكريا بن يحيى" ،
وقال الهيثمي في "المجمع"(10/200): "لم أعرفه".
وتعقب بأنه "معروف عند الخطيب البغدادي"، و أنه "ترجمه في “تاريخ بغداد “برواية جمع من الثقات الحفاظ عنه"…
قال مقيده -عفا الله عنه-:
لا ينبغي أن يُفرَح بهذه الرواية ، فإنها وهم :
فقد أبان عن عورتها الإمام الدارقطني ـ رحمه الله ـ، فقال :
"يرويه أيوب السختياني ، واختلف عنه :
فرواه مغيرة بن مسلم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، و وهم فيه.
ورواه الثوري، عن أيوب، عن رجل، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم .وهذا الرجل هو عمرو بن دينار قهرمان ابن الزبير. وهو أصح من حديث المغيرة" .اهـ .
قلت : الرواية التي فيها التصريح بشيخ سفيان الثوري أسندها أبو نعيم في "أخبار أصبهان" ،
وفيها ضعف لأنها من رواية مهران بن أبي عمر الرازي
قال ابن معين: "كان عنده غلط كثير في حديث سفيان"، وقال العقيلي:"روى عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها" .فلعل الدارقطني اعتمد على غيرها ، والله أعلم .
-وثمت وجه آخر من أوجه الاختلاف على (أيوب) لم يذكره الدارقطني رحمه الله:فقد قال معمر بن راشد :عنه، عن سالم قال: كان يقال: إذا استقبل الرجل شيئا من هذا البلاء فقال: الحمد لله …فذكره.
أخرجه عبد الرزاق (19655) ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان".
وهذه الطريق قوية ، وهي الراجحة ـ إن شاء الله ـقال الحنائي في "الفوائد" [( 3/258/2) بواسطة "السلسلة الصحيحة"] بعدما ذكر الاختلاف في سنده عن رواية معمر هذه : "و هذا أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى"
وقد اختلف على (معمر) أيضافقيل ـ أيضا ـ :عنه ، عن أيوب ، عن سالم، عن أبيه…
أخرجه ابن منده في "أماليه " من طريق يحيى بن العلاء، عنه به.
لكن إسناده ساقط،
فيه يحيى بن العلاء البجلي وهو متروك، ـ بل كذبه أحمد وابن معين، وقال ابن حجر: "رمي بالوضع"ـ فلا قيمة لمخالفته.
ثانيا : حديث أبي هريرة :
يرويه مطرف المدني أبو مصعب ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .
أخرجه الترمذي (3432) والطبراني في "الأوسط" (4724) وابن عدي (4/143) والبيهقي في "الشعب" (4443) من طرق عن مطرف به .
قال الترمذي (3432):"غريب من هذا الوجه"، [وفي بعض النسخ:"حسن غريب"]
وقال ابن عدي :"لا أعلم يرويه عن عبد الله بن عمر غير أبي مصعب مطرف هذا".
وقال الطبراني:"لم يرو هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح إلا عبد الله بن عمر، تفرد به مطرف بن عبد الله".اهـ .
وفي إسناده (عبد الله بن عمر العمري) : وهو ضعيف من قبل حفظه .
وفيه أيضا (مطرف المدني) :
تكلم فيه ابن عدي ـ وساق هذا الحديث في مناكيره كما تقدم ـ …
ودافع عن (مطرف) الذهبي وابن حجر : بأن المناكير إنما هي من أحمد بن صالح، الراوي عنه .
لكن الشيخ المعلمي اليماني اعتذر لابن عدي ، ثم أعل حديث (مطرف) هذا بإعلال بديع ـ ولم أر من أشار إليه قبله ـ ،
فقال : (وأحسب أن بعض الرواة سمع هذا، وسمع حديث سهيل عن أبي هريرة مرفوعا: "من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضره حمة تلك الليلة".وقد يكون هذا الخطأ من مطرف ، وقد يكون من شيخه عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم فإنه "لين" حتى قال البخاري :"ذاهب لا أروي عنه شيئا".
فإذا كان الخطأ من أبي مصعب ، فقد يخطئ على عبد الله بن عمر ما لا يخطئ على مالك ، لمزيد اختصاصه به).اهـ.
"التنكيل" (247) [ اهتديت إليه بواسطة كتاب "الفوائد الجياد"]
وينظر في مدى صحة ما قاله هذا الإمام ـ رحمه الله ـ.
قال مقيده -عفا الله عنه – :وقد وقفت على متابعة لـ(مطرف)،
فأخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (187) قال : حدثني القاسم بن هاشم ، ثنا محمد بن سنان العوقي ثنا عبد الله بن عمر به .
والقاسم بن هاشم هو ابن سعيد السمسار: قال الخطيب (12/429):"صدوق". وفي "تاريخ دمشق" عن الدارقطني قوله :"لا بأس به".
فإن كانت هذه الطريق محفوظة = برئت عهدة (مطرف)، وبقي الحمل على (عبد الله العمري)، وهوضعيف .
وأخرجه الطبراني في "الدعاء" (800) قال: حدثنا الحسين بن إسحق التستري، ثنا إسماعيل بن موسى السدي ، ثنا عبد الله بن جعفر بهوعبد الله بن جعفر المديني ضعيف
والراوي عنه إسماعيل بن موسى السدي الفزاري : "صدوق يخطئ" ، ونقموا عليه التشيع .
وشيخ الطبراني "الحسين بن إسحاق التستري" لم أجد فيه كلاما للأئمة سوى أنه روى عنه جماعة من الحفاظ ، وقال الذهبي في "السير":"كان من الحفاظ الرحالة".اهـ .وهو ـ على ذلك ـ متأخر الطبقة
فيبعد الاعتداد بمثل هذه الطريق في دفع الإعلال بالتفرد الذي حكاه الأئمة.
فائدة جليلة:وكثير مما يتعقب به على الحفاظ في هذا الباب (باب التفرد)، لا يصح التعقب به :
* إما لكون الإمام يريد بالتفرد "سياقا خاصا"، فيتعقب عليه في غير ذلك السياق ،
* وإما لكونه يريد "رواية الثقات" ، فلا ترد عليه متابعات الضعفاء أصلا ،
يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله-: "وهذا يدلك على أنهم قد يطلقون النفي و يقصدون به نفي الطرق الصحيحة، فلا ينبغي أن يورد على إطلاقهم مع ذلك الطرق الضعيفة والله الموفق".
ويقول أيضا:"وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق ، وحيث يكون المتابع ممن يعتد به، لاحتمال أن يريدوا شيئا من ذلك بإطلاقهم.." .انظر "النكت" (2/709 ، 723)
قال مقيده -عفا الله عنه-:
وللحديث طريق أخرى عن أبي هريرة :
أخرجها الطبراني في "الدعاء"(801) عن مطلب بن شعيب الأزدي، عن أبي صالح، عن الليث بن سعد، عن عيسى بن موسى بن إياس، عن صفوان بن سليم، عن رجل، عن أبي هريرة .
و إسنادها ضعيف جدا :
لإبهام شيخ سليم بن صفوان ،
وعيسى بن موسى سكت عنه البخاري وابن حبان ، لكن ضعفه أبو حاتم كما في "الجرح و التعديل"(6/285).
ثالثا : حديث ابن عباس :
أخرجه تمام (1459) من طريق ناشب بن عمرو ، عن مقاتل بن حيان، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس.
و(ناشب بن عمرو) ضعفه الدارقطني ، وقال البخاري :"منكر الحديث"، كما في "لسان الميزان"(6/143) ،
وقد علم أن "منكر الحديث" معدودة في أشد عبارات الجرح عند البخاري.
وأخرج الطبراني في "الدعاء"(802) من طريق شيبان بن فروخ ، ثنا نافع أبو هرمز، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه "أنه كره أن يسمع المبتلي الاستعاذة ، لأن لا يغمه ذلك".
وإسناده واه : لأن نافعا أبا هرمز "متروك الحديث".
رابعا : حديث حذيفة بن أوس :
أخرجه ابن الأثير في "أسد الغابة" من طريق عبد الله بن يوسف العبدي ، عن عبد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة بن أوس عن أبان عن أبيه عن جده
وإسناده واه أيضا،
فعبد الله بن يوسف العبدي ، و عبد الله بن أبان لا يعرفان و كلاهما حدث بمناكير .
ينظر "الكامل"(4/229) و"لسان الميزان"(3/354) .
الخلاصة :
أن طرق الحديث التي تقدم ذكرها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تخلو من مقال ،
ومنها ما أنكره نقاد الحديث،فالأقرب القول بضعفه، وأن الثابت في الباب ما روي عن سالم بن عبد الله قال:كان يقال : "من رأى مبتلى…." إلخ، وهو في مصنف عبد الرزاق ـ كما تقدم ـ
و صلى الله وسلم على نبينا محمد .
ثم أين هي تخريجات المحدث الألباني رحمه الله تعالى !!
ملاحظة فقط ,علم الحديث ليس مقصور على أحد