البحث العلمي النزيه أساس المعرفة الحقة التي تعود على طلابها بالنفع، وثمرته من أشهى الأكل لغذاء الفكر وتنمية العقل؛ ولذلك فإن تهيؤ أسبابه لأي باحث أمر له اعتباره في نضج ثماره ودنو قطوفه، والبحث في العلوم الشرعية عامة وفي التفسير خاصة من أهم ما يجب الاعتناء به والتعرف على شروطه وآدابه، حتى يصفو مشربهن ويحفظ روعة الوحي وجلاله. أولا : شروط المفسر ذكر العلماء للمفسر شروطا نجملها فيما يلي: ١-صحة الاعتقاد: فإن العقيدة لها أثرها في نفس صاحبها، وكثيرا ما تحمل ذويها على تحريف النصوص والخيانة في نقل الأخبار، فإذا صنف أحدهم كتابا في التفسير أول الآيات التي تخالف عقيدته، وحملها باطل مذهبه، ليصد الناس عن اتباع السلف، ولزوم طريق الهدى. ٢-التجرد عن الهوى: فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذهبهم، فيغرون الناس بلين الكلام ولحن البيان، كدأب طوائف القدرية والرافضة والمعتزلة ونحوهم من غلاة المذاهب. ٣-أن يبدأ أولا بتفسير القرآن بالقرآن، فما أجمل منه في موضع فإنه في قد فصل في موضع آخر، وما اختصر منه في مكان فإنه قد بسط في مكان آخر. ٤-أن يطلب التفسير من السنة فإنها شارحة للقرآن موضحة له، وقد ذكر القرآن أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تصدر منه عن طريق الله (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) النساء: ١٠٥ وذكر الله أن السنة مبينة للكتاب: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل: ٤٤، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه يعني السنة. وقال الشافعي رضي الله عنه: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن وأمثلة هذا في القرآن كثيرة جمعها صاحب الإتقان مرتبة مع السور في آخر فصل من كتابه كتفسير السبيل بالزاد والراحلة، وتفسير الظلم بالشرك، وتفسير الحساب اليسير بالعرض. ٥-فإذا لم يجد التفسير من السنة رجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال عند نزوله، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح. ٦-فإذا لم يجد في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، ومن التابعين من تلقى جمع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، والمعتمد في ذلك كله النقل الصحيح، ولهذا قال أحمد: ثلاث كتب لا أصل لها، المغازي والملاحم والتفسير يعني بهذا التفسير الذي لا يعتمد على الروايات الصحيحة في النقل. ٧-العلم باللغة العربية وفروعها: فإن القرآن نزل بلسان عربي، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب. والمعاني تختلف باختلاف الإعراب، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو، والتصريف الذي تعرف به الأبنية، والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها. وخواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، ومن حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها. ثم من ناحية وجوه تحسين الكلام- وهي علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع من أعظم أركان المفسر. إذ لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك الإعجاز بهذه العلوم. ٨-العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، كعلم القراءات لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن ويترجح بعض وجوه الاحتمال على بعض، وعلم التوحيد، حتى لا يؤول آيات الكتاب التي في حق الله وصفاته تأويلا يتجاوز الحق، وعلم الأصول، وأصول التفسير خاصة مع التعمق في أبوابه التي لا يتضح المعنى ولا يستقيم المراد بدونها، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك. ٩-دقة الفهم التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر، أو استنباط معنى يتفق مع نصوص الشريعة. آداب المفسر أما الآداب التي ينبغي توافرها للمفسر فهي كمايلي : ١- حسن النية وصحة المقصد- فإنما الأعمال بالنيات، والعلوم الشرعية أولى بأن يكون هدف صاحبها منها الخير العام، وإسداء المعروف لصالح الإسلام، وأن يتطهر من أعراض الدنيا ليسدد خطاه، والانتفاع بالعلم ثمرة الإخلاص فيه. ٢- حسن الخلق: فالمفسر في موقف المؤدب، ولا تبلغ الآداب مبلغها في النفس إلا إذا كان المؤدب مثالا يحتذى في الخلق والفضيلة، والكلمة النابية قد تصرف الطالب عن الاستفادة مما يسمع أو يقرأ وتقطع عليه مجرى تفكيره. ٣- الامتثال والعمل: -فإن العلم يجد قبولا من العاملين أضعاف ما يجد من سمو معارفه ودقة مباحثه- وحسن السيرة يجعل المفسر قدوة حسنة لما يقرره من مسائل الدين، وكثيرا ما يصد الناس عن تلقي العلم من بحر زاخر في المعرفة لسوء سلوكه وعدم تطبيقه. ٤- تحري الصدق والضبط في النقل: فلا يتكلم أو يكتب إلا عن تثبت لما يرويه حتى يكون في مأمن من التصحيف واللحن. ٥- التواضع ولين الجانب: فالصلف العلمي حاجز حصين يحول بين المرء والانتفاع بعلمه. ٦- عزة النفس: فمن حق العالم أن يترفع عن سفاسف الأمور، ولا يغشى أعتاب الجاه والسلطان كالسائل المتكفف. ٧- الجهر بالحق: فأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. ٨- حسن السمت: الذي يكسب المفسر هيبة ووقارا في مظهره العام وجلوسه ووقفته ومشيته دون تكلف. ٩- الأناة والروية: فلا يسرد الكلام سردا بل يفصله ويبين عن مخارج حروفه. ١٠-تقديم من هو أولى منه فلا يتصدى للتفسير بحضرتهم وهم أحياء، ولا يغمطهم حقهم بعد الممات، بل يرشد إلى الأخذ عنهم وقراءة كتبهم. ١١-حسن الإعداد وطريقة الأداء: كأن يبدأ بذكر سبب النزول- ثم معاني المفردات وشرح التراكيب وبيان وجوه البلاغة والإعراب الذي يتوقف عليه تحديد المعنى، ثم يبين المعنى العام ويصله بالحياة العامة التي يعيشها في عصره، ثم يأتي إلى الاستنباط والأحكام. أما ذكر المناسبة والربط بين الآيات أولا وآخرا فذلك حسب ما يقتضيه النظم والسياق. من كتاب مباحث في علوم القرآن تأليف مناع القطان