تخطى إلى المحتوى

عواطف المعلم 2024.

المعلم في مدرسته كالقاضي في محكمته، يفترض فيه العدل بكل أشكاله وفي كل جوانب تعامله مع طلابه. ومن الأبجديات التربوية التي يعلمها كل المعلمين ـ وإن غابت في ميدان التطبيق لدى بعضهم ـ العدل بين الطلاب في النظرات والكلمات وتوجيه الأسئلة في أثناء تقديم الدرس، ومع أننا (نحن المعلمين) تميل قلوبنا للطالب الجاد النشط المتفوق، ونحب فيه تفوقه واجتهاده، كما نكره في الكسول كسله، وفي المهمل إهماله وفي غير المنضبط عدم اكتراثه، إلا أن ذلك الشعور يجب أن يحاصر ليبقى شعورًا محكومًا بإطار من العدل. ولكن المشكلة الأخرى تبرز في فهمنا للعدل تجاه طلابنا، فأكثرنا (معشر المعلمين) يعتقد أن العدل كله أن يتجرد من عواطفه في أثناء تصحيح أوراق الإجابات، ويعتقد أنه بذلك قد حقق أعلى درجات العدل، ولكنه لا يتجرد من عواطفه عندما ينظر بعين الرضا إلى طالب نشط مهما فعل، وبعين أخرى إلى أفعال الطالب الذي قصرت به قدراته الدراسية أو العقلية عن مجاراة المتفوقين. وقد يحاول دفع الطالب الأقل حظًا عن طريق المقارنة، القاتلة، بتلك العبارة الخفيفة على ألسنتنا (نحن المعلمين) الباهظة في نفوس الطلاب (أين أنت من فلان؟!). وقد يتجاوز الأمر ذلك إلى أن يصبح صف العشرين طالبًا مختزلاً في طالبين أو ثلاثة، لا قيمة للصف بدونهم، لأنهم هم الذين يتفاعلون مع الدرس ويجيبون ويحاورون، وقد يتجاوز الأمر ذلك إلى أن يعلو بعض المعلمين بهذه النخبة من الطلاب إلى منزلة فوق زملائهم الطلاب ودون المعلمين، وقد يتجاوز الأمر إلى أن يتبنى بعض المعلمين بعض طلابهم لاتفاق ميولهم في فرع من فروع النشاط، وقد ترفع الكلفة كلية بين بعض الطلاب وبعض معلميهم، وهذا ـ في رأيي ـ لا يتفق ومبادئ التربية الصحيحة. لما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية، كان بعض معلمينا، عندما تتقرر المشاركة في حفل تقدمه المدرسة، يدخل الصف فيشير إلى مجموعة من الطلاب بالأسماء ويدعوهم إلى المشاركة متجاهلاً ثلاثة أرباع الصف، فيخرج أولئك ـ وربما كنت منهم ـ في مشية طاووسية، بينما يقبع الباقون أشبه ما يكونون بمقاعدهم وقد جللهم غبار الإحباط الذي حثاه المعلم في نفوسهم. ورأيت من يدعو طالبًا بعينه للمشاركة في مسابقة الإلقاء، وآخر في مسابقة الخطابة، وآخر في مسابقة القصة أو المقالة، وكأن بقية الطلاب خلقوا بلا ألسنة، أو كأنهم لم يأتوا إلى هنا ليتعلموا القراءة والكتابة. إنني بهذا لا أنكر أن المعلم هو أعلم الناس بقدرات تلاميذه، أو يفترض فيه ذلك، ولكن هذه الانتقائية لها ضحاياها، وربما يكون منهم الطالب المنتقى، ولتفادي النتائج السيئة لهذه الانتقائية التي قد تغلب عليها عواطفنا، علينا أن نجعل الطالب يكتشف قدراته بنفسه، علينا أن نمارس الآلية الصحيحة، بأن نعلن المسابقة بكل فروعها ثم تسجل أسماء الراغبين في المشاركة ونقدم لهم القدر نفسه من التوجيه، ثم نجعل لجنة لفحص المشاركات واختيار الأجود منها ليشارك صاحبها في المسابقة. إننا ـ معشر المعلمين ـ ندرك أن هذه الآلية من البديهيات ولكننا ربما ضاق بنا الوقت، أو استبقنا النتائج واختصرنا الطريق ظنًا منا أننا نعرف النتائج مسبقًا، ولكن ذلك كله لا يعد في ميزان العدل شيئًا، ولو ظهرت النتائج التي افترضناها فإننا نحقق باستخدام الآلية الصحيحة مكاسب عدة، فقد كسبنا مشاركة عدد من الطلاب، وكسبنا صقل موهبة الموهوب، وكسبنا شعور الطلاب الأقل حظًا بتجردنا ووقوفهم في ميدان المنافسة مع زملائهم المتفوقين جنبًا إلى جنب. كم هي المرات التي يجتمع المدير بمعلمي مدرسته ليقترحوا أسماء الطلاب الصالحين للمشاركة في مسابقة أو احتفال، أو ربما طلب ذلك من أحد المعلمين فقط، وربما اقترح الأسماء بنفسه دون مشورة من أحد. وكل الذي يشغل باله أن يفوز الطالب الذي يمثل مدرسته ولو كان ذلك الفوز مشيدًا على أنقاض نفوس العشرات من طلاب المدرسة نفسها، ليعلن اسمه وفوزه بكل وسائل الإعلان الممكنة، ويزهو كل منا بنصيبه من هذا النجاح الذي نغتال به العشرات من طلابنا الذين يعتقدون ـ ولو خطأ ـ أنهم أحق بحمل شرف هذا الفوز، وربما كان من ضحايانا الطلاب الذين يحظون بمزيد من عنايتنا، فنسقي بذرة الغرور في نفوسهم، ونزين لهم أن يتكبروا على زملائهم، فتمتلئ نفوس زملائهم بالحقد عليهم. ومما يفاقم المشكلة أننا (معشر المعلمين) نظن العدل كله يتمثل في عدم تمييزنا بين طلابنا في أثناء التصحيح لإجاباتهم، ونظن الأمانة ـ قمة الأمانة ـ ألا يطلع طلابنا كلهم أو بعضهم على أسئلة الاختبارات قبل أوانها. وهذا عدل وتلك أمانة مشكور من حققهما، ولكن أين العدل والأمانة في عواطفنا تجاه طلابنا؟ وفي توزيع الفرص والأسئلة والابتسامة، وفي نبرة الصوت في الخطاب؟ إن هذا القدر العالي من العدل والأمانة لا يتعارض ـ في رأيي ـ مع تشجيع المحسن وتأديب المسيء ولكن بقدر الإحسان والإساءة وفي حينهما ويعلم الجميع وأولهم المسيء أو المحسن، لترتبط النتائج بالأسباب في أذهان الطلاب، وعلينا ألا ننسى أننا نتقاضى أجرًا دنيويًا، ونرجو أجرًا أخرويًا على عملنا في التربية والتعليم، لنقدم التربية والمعرفة لجميع الطلاب، على حد سواء دون حيف أو اتباع هوى، فأي أجر يأمله الذي يعلو ببعض طلابه على رقاب آخرين. لقد شكوت من هذا السلوك طالبًا، وشكوت منه معلمًا وأنا أرى طلابًا لا يستطيعون التعايش مع زملائهم على أنهم متكافئون، ولا يستطيعون أن يكونوا غير ذلك. وما هم إلا ضحايا عواطف معلميهم النبيلة.. القاتلة.

بارك الله فيك أخي بشير على ماجادت به قريحتك من كلام مليء بمعان جميلة وتستحق منا التقدير
فقد فسحت لي مجالا لأبوح بهذا الكلام عفويا ومن خلال موضوعك في هذه اللحظات
فما نعيشه اليوم ومايعيشه التلاميذ داخل حجرات الدرس هو ذلك الشيء المسمى "العاطفة" التي قد تغلب على عدد من المعلمين ضاربين بذلك عرض الحائط مشاعر الآخرين من خلال ما كان منهم من إعراض عن باقي الطلاب بالاقتصار على عدد قليل من الطلبة لا يكاد يفوق عدد أصابع اليد الواحدة، وليعلم المعلم أن المسؤولية عظيمة على كاهله فالكل أبناؤه ووجب عليه تعليم الكل .
لم نقل أن لا يجعل في تلاميذه حب التنافس والمثابرة لكن لا أن ينظر لعدد منهم دون غيرهم فهذا ظلم لهم وتقصير في العمل ،
هذا مجرد رأي قد يكون بسيطا ولو كلن لي الوقت لتكلمت أكثر من ما كتب هاهنا
فنسأل الله التوفيق للمعلم والمتعلم
تقبلوا تحياتي
سلام

بارك الله فيك أخي البشير عن هذه المواضيع القيمة والهادفة نرجو لك دوام الصحة ومزيد امن الابدعات وشكرا

بارك الله فيك

شكرا لك على تطرقك لموضوع هام و دقيق ، ما فهمته من تحليلك ياأستاذي أنك تركز على الجانب المعنوي في المعلم تجاه أبنائه في القسم
و هو ما يفتقر اليه الكثير من المعلمين ، أحسب ذلك يتحقق عندما يتوفر في المعلم رقابة الله سبحانه و تعالى ، و أن يعتبر هؤلاء التلاميذ مثل أبنائه .
نعم ، ربما لا يتحكم الانسان في عواطفه فلا يعدل أحيانا ، أو يعمل بالتفاضل بين طلابه ، لكن أن يستمر و أن يتعمد ذلك فهنا تحدث الكارثة ، و يحدث الاحباط للتلميذ …
على كل حال نسأل الله أن يبصر أساتذتنا بالاحساس الجميل تجاه التلاميذ ، و أن يكونوا قدوة حسنة لهم في العدل ،قال تعالى : "ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" فاذا كان العدل مع أعدائنا مطلوب منا نحن المسلمون ، فما بالنا لا نحققه مع ذواتنا ….

موضوع هادف ، لكن العدل في العواطف شيء صعب لأننا و ببساطة لا نملك عواطفنا حتى نستطيع العدل فيها فاللهم لا تؤاخذنا بما لا نملك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.