السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أدعياء العلم
عجبت من أقوام يدعون العلم ، و يميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها ، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا ، لأن من أمر ما جاء و مر من غير اعتراض [ و لا تعرض ] ؟ فما قال شيئاً لا له و لا عليه .
و لكن أقواماً قصرت علومهم ، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهرة نوع تعطيل ، و لو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا .
و ما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكتابه و قد مدحته الخنساء فقالت :
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة ، قال لكاتبه : اقطع لسانها ، فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس .
قالت له : و يلك إنما قال : أجزي لها العطاء .
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت : كاد و الله يقطع مقولي .
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم ، فإنه من قرأ الآيات و الأحاديث و لم يزد ، ألمه ، و هذه طريقة السلف .
فأما من قال : الحديث يقتضي كذا ، و يحمل على كذا ، مثل أن يقول : استوى على العرش بذاته ، ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس لا من النقل .
و لقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر ، صنف كتاب التمهيد ، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال : هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لو لا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى .
و هذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل . لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام . فقاس صفة الحق عليه .
فأين هؤلاء و اتباع الأثر ؟
و لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ، ثم عابوا المتكلمين .
و اعلم أيها الطالب للرشاد ، أنه سبق إلينا من العقل و النقل أصلان راسخان عليهما مر الأحاديث كلها .
أما النقل فقوله سبحانه و تعالى : ليس كمثله شيء . و من فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس .
و أما العقل ، فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات ، و استدل على حدوثها بتغيرها ، و دخول الإنفعال عليها ، فثبت له قدم الصانع .
واعجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام .
أليس في الحديث الصحيح ، أن الموت يذبح بين الجنة و النار ؟
أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته ؟
لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت .
فقال : الموت عرض يوجب بطلان الحياة . فكيف يمات الموت ؟
فإذا قيل له : فما تصنع بالحديث ؟
قال : هذا ضرب مثلاً بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى .
قلنا له : فقد روى في الصحيح : [ تأتي البقرة و آل عمران كأنهما غمامتان ] ،
فقال : الكلام لايكون غمامة ، و لا يتشبه بها .
قلنا له أفتعطل النقل ؟ قال : لا ، و لكن يأتي ثوابهما .
قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق ؟
فقال : علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام ، و الموت لا يذبح ذبح الأنعام . و لقد علمتم سعة لغة العرب .
ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا .
فقال العلماء : صدقت . هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة ، و في ذبح الموت .
فقال واعجباً لكم ، صرفتم عن الموت و الكلام ما لا يليق بهما ، حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه ، بما قددل الدليل على تنزيهه عنه ؟
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة . و يقول : لا أقطع حتى أقطع ، فما قطع حتى قطع
العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي
بارك الله فيك