مُوسَى بن نُصَير ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبّت الله به أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الإفريقي، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة كتميم الداري رضي الله عنه…
قال عنه ابن خلّكان: كان عاقلاً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطّ.
أما أبوه فهو نُصَير ذلك الغلام النصراني الذي أسره خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة عين التمر، وكان قبلها يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في الكنيسة، وفي الأَسْرِ عرف الإسلام وأُعجب به، فأسلم وهو ابن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عامًا، وكان معه وعلى شاكلته سيرين أبو محمد بن سيرين التابعي المشهور.
وهنا وقفة لطيفة نشير إليها في معرض هذا الحديث، وهي تلك الثمرة التي هي من ثمار ومن تبعات الفتوحات الإسلامية، ومصداقا لقوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33} . تلك الثمرة التي منّ الله بها على نُصَير وعلى ولده من بعده، ومن ثَمّ على المسلمين أجمعين.
فانظر ماذا فعل الإسلام بنُصَير وغيره؟ وماذا كان سيكون مصير نُصير إذا ظل على ما كان عليه؟ وكيف أصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد توفي بعده بسنوات وسنوات. وإنه لثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في بلاد فارس (وهي التي أُسر فيها نُصير). وإن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير ليشاركه فيه – بإذن الله – الأجرَ خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع.
أما نُصير، فلما أسلم ازداد حبه للإسلام، فأخذ ينهل منه ويتعلم حتى أصبح عالِمًا، وفي ذات الوقت من الفرسان الأشداء والمجاهدين الأكفاء، وظل يترقى من حال إلى حال حتى صار في زمن الدولة الأموية قائدًا لجيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وظل في هذه القيادة سنوات طويلة…
قال المقرّي في نفح الطيب عن موسى بن نصير: وكان والده نصير على جيوش معاوية، ومنزلته لديه مكينة، ولمّا خرج معاوية لصفين لم يخرج معه – أي نصير – فقال له: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يدّ لم تكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك، فقال: من هو؟ فقال: الله عزّ وجلّ، فأطرق مليّاً ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه.
في هذا الوقت كان مُوسَى بن نصير يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأ على حب الجهاد في سبيل الله ونشر الدين، حتى أصبح شابًا يافعًا يتقلد الرتب والمناصب، فتقلد قيادة جيوش الأمويين في مصر في عهد عبد العزيز بن مروان الأموي، ثم بعد ذلك واليًا على إفريقيا وذلك في سنة 85 هـ= 704 م.
كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير أن ينجز ما عجز السابقون عن إنجازه فتوّجه ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وحشد جيوشه جميعًا ووقف فيهم خطيبًا وكان مما قال: إنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضّ على مثلها ومن رأى مني سيئة فلينكرها فإني أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون… ومن كانت له حاجة فليرفعها إلينا وله عندنا قضاؤها على ما عزّ وهان مع المواساة إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان: وكانت البلاد في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله عزوجل، فسقوا حتى رووا.
مُوسَى بن نُصَير وتثبيت دعائم الإسلام في إفريقيا
منذ أصبح موسى بن نصير واليًا على إفريقيا أصبح كلُّ همّه لماذا يرتدّ الناس بين الحين والآخر عن الإسلام بعد أن يكونوا قد دخلوا فيه؟! بل كيف يعودون ويقاتلون المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟! ومن هنا فقد أراد أن يجد حلًا لهذه الأمور، ويعمل على تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم الذي كان قد فتحه عقبة بن نافع رحمه الله، والذي اغتيل في القيروان من هذا الإقليم على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى.
وفي بحثه عن معرفة أسباب هذه الردّة المتكررة وجد مُوسَى بن نُصَير خطأين وقع فيهما من سبقوه.
الخطأ الأول: هو أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ويتوغلون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن تتوفر الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها، ومن ثم كانت النتيجة أن البربر فَقِهوا هذا الأمر واستغلّوه جيدًا، فانقلبوا على عقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير يفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد رضي الله عنه، فبدأ يتقدم خطوة ثم يُأَمِّن ظهره، ثم خطوة فيأمّن ظهره، حتى أتمّ فتح هذا الإقليم في سبع أو في ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.
أما الخطأ الثاني فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلموا الإسلام جيدًا ولم يعرفوه حق المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلمونهم الإسلام ويعرفونهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبّوه ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبح البربر الذين يحاربون المسلمين جند الإسلام وأهله، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيده في الشمال الإفريقي، وأتمّ فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة "سَبْتَة" (مدينة "سَبْتَة" الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق)، فقد فتح ميناء طنجة ولم يفتح ميناء "سَبْتَة" المماثل له في الأهمية، وللموقع الاستراتيجي لمدينة "سَبْتَة" ولّى موسى بن نصير على ميناء طنجة (القريب جدًا من "سَبْتَة" والقريب في ذات الوقت من الأندلس) أمهر قواده طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد لم يكن عربيًا، بل كان من قبائل البربر التي استوطنت الشمال الإفريقي – كما ذكرنا – والتي كان يميزها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر، بعكس ما يُتخيل من كونهم يشبهون الزنوج، حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوروبية، وقد حمل طارق بن زياد القائد الفذّ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، تلك التي لم تمنعه عن الانشغال بحب الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين.
من خلال ما سبق نرى أن موسى بن نصير رحمه الله قد تولّى أمر إفريقية وهي تضطرم نارًا، فكان أول عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن والقضاء على الثورات وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ووجد بعد ذلك في إفريقية طاقات ضخمة وإمكانات جبّارة فأفاد من حرية العمل المتوافرة له وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام…
كان موسى بن نصير – إذن – من أعظم رجال الحرب وافدارة المسلمين في القرن الأول للهجرة، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناضب التي تقلّدها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، على أن هذه المواهب تبدو بنوع خاص في حكمه لإفريقية، حيث كانت الحكومة الإسلامية تواجه شعبًا شديد المراس يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة الموقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدة فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفية الشعوب وبراعة في سياستها وقيادتها، وكان موسى فوق مواهبه الإدارية والعسكرية غزير العلم والأدب، متمكنًا من الحديث والفقه، عالمًا بالفلك، مجيدًا للنثر والنظم منقو ل
مشكور اخي علي الموضوع القيم جعلها الله في ميزان حسناتك
وجزي الله خيرا اولئك الفاتحين الذين تكبدو المشاق لاعلاء كلمة الدين والعمل علي نصرته