بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من أوصاف المؤمنين الصّادقين
الشّيخ : عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله رحمه الله
قال الله تعالى: {الـم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 1-5].
يقول تعالى: هذا الكتاب وهو القرآن لا شك فيه أنّه نزل من عند الله وإنه الحق والصدق ثم وصفه بأنه (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) أي هاد لهم ومرشد وبيمن الحلال من الحرام والرشد من الغي والحق من الباطل والهدى من الضلال وخصت الهداية للمتقين وهم المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به العاملون بما فيه من الأوامر والنّواهي والفرائض والحدود وفعل الواجبات وترك المحرّمات (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) [الإسراء: 82] ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) [الإسراء: 82]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].
والتّقوى هي طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والمتّقون هم الّذين يعملون الواجبات ويمتثلون المأمورات رغبة في الثّواب ويتركون المحرّمات ويتجنبون المنهيات خوفا من العقاب،
ثم وصف الله هؤلاء المؤمنين بأوصاف خمسة:
1- أوّلهاأنّهم يؤمنون بالغيب أي يصدقون بما غاب عنهم ممّا أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة يصدّقون بذلك بأقوالهم وأفعالهم واعتقادهم ، فالإيمان الشّرعي المتفق عليه لا بد وأن يكون قولاً باللسان واعتقادًا بالقلب وعملاً بالجوارح
فهؤلاء المؤمنون يصدّقون بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وأنّه سبحانه مستو على عرشه عال على خلقه وأنّه تعالى مع عباده أينما كانوا يرى مكانهم ويسمع كلامهم ويعلم إسرارهم وإعلانهم ويصدّقون بملائكة الله العباد المكرمين يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويصدّقون بوجود الجنّ حيث أخبر الله عنهم في كتابه ويصدّقون بكلّ كتاب أنزل الله وبكلّ رسول أرسله الله.
2- الثّاني: من أوصاف المؤمنين المتّقين في هذه الآيات:أنّهم يقيمون الصّلاة وإقامة الصّلاة إتمام الرّكوع والسّجود والتّلاوة والخشوع والإقبال على الله فيها والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، فهم يقيمونها ويحافظون عليها لما يعلمون ما في إقامتها من الثواب وما في تركها والتهاون بها من العقاب فقد قال الله في حقّ المحافظين عليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج: 34، 35]
وقال في حقّ المضيّعين لها بتأخيرها عن وقتها (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4، 5]
والصّلاة صلة بالله وهي مشتملة على توحيده والثّناء عليه وتمجيده والإبتهال لله ودعائه والتّوكّل عليه فينال المصلّي بهذه الصّلاة تكفير السّيّئات وزيادة الحسنات ورفع الدّرجات وإجابة الدّعوات وقضاء الحاجات فهي راحة المؤمنين ولذّة نفوسهم وقرّة عيونهم، كما قال سيّدهم وإمامهم محمّد صلى الله عليه وسلم: ( يا بلال أرحنا بالصّلاة )([1]) وقال: «جُعِلَت قُرَّةُ عيني بالصّلاة»([2]).
3- الثالث ممّا وصف الله به المؤمنين في هذه الآيات أنّهم ينفقون ممّا رزقهم الله النّفقات الواجبة والمستحبة فيخرجون زكاة أموالهم وينفقون على أولادهم ووالديهم وأزواجهم وأقربائهم ثمّ على سائر الفقراء والمساكين بقدر يسرهم واستطاعتهم لما يرجون من الثّواب ويعلمون أنّ الأموال عواري وودائع سوف يفارقونها لذلك يبادرون في إنفاقها في حياتهم لتفيدهم بعد وفاتهم، وأتى بمن الدّالة على التّبعيض لأنّه لم يأمرهم إلاّ بإنفاق جزء يسير لا يضرّهم وفي قوله: (رزقناهم) تنبيه إلى أنّ هذه الأموال لم يكتسبوها بحولهم وقوّتهم وإنّما هي رزق الله ساقه إليهم ويسّره لهم يختبرهم به هل يشكرون فيزيدهم أو يكفرون فيعذّبهم.
4- من أوصاف هؤلاء المؤمنين أنّهم يصدّقون بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله وما جاء به من قبله من المرسلين لا يفرّقون بينهم ولا يكذّبونهم ولا يجحدون ما جاءوا به من ربّهم، وقد أنزل الله من السّماء مائة صحيفة وأربعة كتب أنزل منها خمسين صحيفة على شيث بن آدم وعلىإدريس النبي ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشرة وعلى موسى عشرة قبل التوراة وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزّبور على داود والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضلها وأكملها وأعلاها ، وقد اشتمل على كلّ ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم كما قال تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89] (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]
فهم يؤمنون به ويتدبّرون معانيه ويعملون به ليكون حُجَّة لهم عند ربّهم وشفيعا لهم يوم القيامة.
5- والخامس من أوصاف المؤمنين أنّهم يؤمنون بالآخرة إيمانا يقينيًا لا شكّ فيه ولا تردّد فيعملون عمل مَن يرجو الثّواب ويخاف العقاب ، والآخرة اسم لما يكون بعد الموت.
-وأوّلها
القبر فيصدّقون بنعيمه وعذابه وأنّه روضة من رياض الجَنَّة أو حفرة من حفر النّار ويؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والثواب والعقاب والحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللّبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وأبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك آنيته عدد نجوم السّماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا ترد عليه أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ويطرد عنه مَن غيّر سُنَّته وبدّلها أو ردّها أو خالفها كما يطرد البعير الهامل عن حياض القوم.-كما يصدّق المؤمنون بصحف الأعمال التي تكون باليمين والشمائل ويصدقون بالميزان (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 103، 104] كما يصدّقون بالصّراط
وهو الجسر الموضوع على متن جهنّم يمرّ النّاس عليه على قدر أعمالهم فَنَاجٍ مسلم ومكردس في النار.-ويصدّقون أنّ هناك نارًا تلظّى لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي كذّب وتولّى فلا يموت فيها ولا يحيا كلّما نضجت جلودهم بُدِّلُوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، والتي جمع فيها أنواع العذاب من الزّقّوم والحميم والإحراق والجوع والعطش والضّيق والحبس لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ولا يُخَفَّف عنهم من عذابها، ولا لحظة واحدة ثم يقولون: «ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون ، قال اخسئوا فيها ولا تُكَلّمون» ويقولون: «يا مالك ليقض علينا ربّك» «
ليميتنا فنستريح» فيقول: «إنّكم ماكثون لقد جئناكم بالحق، ولكنّ أكثركم للحقّ كارهون»وإنّ هناك جَنَّة عرضها السّموات والأرض أُعِدَّت للمتّقين ، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون.
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، جنّة عالية قطوفها دانية ويُقَالُ لهم كُلُوا من هذه الثّمار واشربوا من هذه الأنهار هنيئا بسبب أعمالكم الطيّبة في الدّنيا (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [محمد: 15] وهم فيها خالدون جزاءً بما كانوا يعملون
فهل يستوي هؤلاء ومَن هو خالد في النار.
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20]
إذا دخلوها نُودُوا إنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تخلدوا فلا تخرجوا أبدا وإنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، لمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون،
ثم أخبر الله تعالى أنّ المتّصفين بالإيمان بالغيب وإقام الصّلاة والإنفاق ممّا رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرّسول ومَن قبله من الرّسل والإيمان والإيقان بالدّار الآخرة مع الإستعداد لها بالأعمال الصّالحات وترك المحرّمات
أولئك على هُدًى من ربّهم أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى وهم الفائزون والمفلحون في الدّنيا والآخرة بحصول الثّواب والسّلامة من العقاب والفوز بالمطلوب والنّجاة من المرهوب وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبالله التّوفيق وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا([3]).
—————
([1]) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
([2]) رواه أحمد والنسائي وسنده حسن.
([3])المصدر بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين للشيخ عبد الله بن جار الله آل جار الله ـ رحمه الله ـ ص 313.
شكرا على النقل
نفعك الله بماعلمت
اخوك السلفي يحييك
آمين….بارك الله فيكم الأخ الفاضل ….وجزاكم خيرًا ووفّقكم وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصّالح .