الحسد
أنواعه، ذمه، أسبابه، علاجه
الحمد لله الذي أعطى ومنع، وبسط وقبض، ووسَّع وقتَّر، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، كل شيء عنده بمقدار، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المختار وعلى آله وصحبه الأطهار، وبعد…
فإن الأمراض منها ما هو متعلق بالأبدان والأجسام، ومنها ما هو متعلق بالقلوب، وأمراض القلوب أشد خطراً وأعظم ضرراً من أمراض الأبدان، وعلاجها عسير والشفاء منها عزيز، وأمراض القلوب إما نتيجة شهوة أوشبهة؛ من هذه الأدواء الخبيثة، والأمراض الفتاكة المقيتة: الحسد، الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
فما حقيقة الحسد؟ وما أنواعه وأسبابه؟ وما كيفية علاجه والتخلص منه؟
الحسد: هو كراهة النعمة عند الغير وتمني زوالها.
أنواع الحسد
الحسد أنواع، منها ما هو ممدوح مرغوب فيه، وأغلب أنواعه مذموم، وبعضها أشد ذماً من بعض، والأنواع هي:
1. تمني أن يكون مثل صاحب النعمة، وهذا يسمى حسداً تجاوزاً، وإلا فهي غبطة وتنافس وتمني أن يكون له مثل ما لصاحب النعمة دون تمني زوالها عنه وذهابها منه.
2. تمني زوال النعمة من الغير لتعود إليه هو.
3. تمني زوال النعمة من الغير ولو لم تعد إليه هو.
4. يتمنى إن كان مريضاُ أن يكون الجميع مرضى، وإن كان فقيراً أن يكون الجميع فقراء، وإن كان جاهلاً أن يكون الجميع أجهل منه، وهكذا؛ وهذا النوع الأخير هو أسوأ الأنواع جميعاً.
حكم الحسد
يختلف حكم الحسد باختلاف أنواعه، فالحسد المحمود وهو الغبطة مرغوب فيه، قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" وقال: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض".
وحكم هذه الغبطة يختلف باختلاف الشيء المغبوط فيه :
1. فإن كان واجباً كانت الغبطة واجبة ، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
وكذلك عندما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال: يحجون، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون؛ فقال: ألا أعلِّمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال : تسبِّحون، وتحمدون، وتكبِّرون، خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين".
وفي رواية لمسلم: "فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما نفعله ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد الحج المبرور".
ومما يدل على فضل التنافس على أعمال البر ما رواه أبو كبشة الأنباري يرفعه: "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: رب لو أن لي مالاً مثل ما لفلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله؛ فهما في الأجر سـواء" الحديث
2. و إن كان المغبوط فيه مستحباً فحكم الغبطة الاستحباب.
3. وإن كان المغبوط فيه مباحاً فحكمها الإباحة.
ولكن المحذور في ذلك إن لم يتحقق للمتمني ما تمناه يخشى أن يولد فيه ذلك نوعاً من الحسد لصاحب النعمة، ولذلك الأفضل للمرء أن يرضى بما قسم الله له، وألا يتشوف إلى من هو أعلى منه، قال تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض".
ولهذا وصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا، فقال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو دونكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" وفي رواية البخاري: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".
ولهذا علينا أن نكثر من هذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتخشاك حق خشيتك" الحديث، فالقناعة كنز لا يفنى، والرضا بما قسمه الله نعمة كبرى، وسعادة عظيمة، ودرجة عليا لا ينالها إلا الزهاد العباد.
أما الأنواع المذمومة فحكمها الحرمة، فحرام على المرء أن يتمنى زوال النعمة من أحد، ويكره استمرارها وبقاءها عليه، اللهم إلا أن يكون كافراً أو فاجراً سخَّر نعمته هذه لمحاربة الإسلام والمسلمين، ولمحادَّة الله ورسوله والمؤمنين، فتمني زوال النعمة ممن هذه حاله مرغوب فيه، ومطلوب، كما قال موسى عليه السلام: "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" فالكافر المتجبر الذي يؤذي المسلمين، ويحارب الدي ، ويعادي أولياء الله المتقين، تمني زوال النعم عنه واجب، ولهذا نقول في الدعاء عن اليهود والنصارى وأمثالهم: "اللهم اجعلهم هم وأموالهم غنيمة للمسلمين".
كيف لا يجب على كل مسلم أن يتمنى زوال النعم من الكفار وهم يتمنون زوال أكبر نعمة عندنا، وهي نعمة الإيمان والإسلام، بل لم يكتفوا بتمني زوالها فحسب ولكنهم ساعون للقضاء على كل ما من شأنه أن يعلي شأن الدين ويمكِّن له في الأرض، كما تفعل أمريكا الآن في القضاء على المدارس والجامعات الدينية، ومتابعة المناهج في المدارس والمعاهد، ومحاولة حذف كل ما يدعو إلى الجهاد، وإلى البراءة من الكفار، وما يغرس النخوة في الشباب؛ قال تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" وقال تعالى: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءاً".
ذم الحسد وما يتولد منه
الحسد مذموم مقبوح، وما يتولد منه من بغي، وعداوة، وبغضاء، وفساد لذات البين، أشد ذماً وأعظم جرماً وأسوأ مصيراً؛ والحسد المقرون بالبغي لا يصدر من فطرة سوية، ولا نفس أبية، ولكن مصدره ومرده إلى النفوس المريضة، والفطر المعوجة، والقلوب الحقودة الخاوية من نور الإيمان واليقين.
لقد ورد في ذم الحسد والحاسدين، والنهي عنه، والتحذير من مغبة التمادي فيه والاسترسال معه العديد من الآيات الأحاديث والآثا ، نذكر بعضاُ منها:
قوله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".
وقوله: "حسداً من عند أنفسهم".
وقال صلى الله عليه وسلم، كما قال أنس رضي الله عنه الله عنه يرفعه: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أوقال: العشب"
وخرَّج الشيخان في صحيحهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " .
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهـل الجنـة"، قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم؛ فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقال في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل؛ فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، قال: نعم؛ فبات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ولم يقم إلا لصلاة الفجر؛ قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً؛ فلما مضت الثلاث وكدت أن احتقر عمله قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكـذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيراً ، فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت؛ فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه؛ قال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذين نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم"
قال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على الدنيا وهي حفرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟".
وقال معاوية رضي الله عنه: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة لا يرضيه إلا زوالها.
ولهذا قيل:
كل العداوات قد ترجى أمانتها إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟
وقال بعض الحكماء: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وغضباً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً رغماً، ولا ينال عند النزاع إلا شدةً وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله عز وجل؛ قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله.
قال ابن عبد البر: كان يقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالحكماء الضجر، و بالفقهاء سخافة الدين، وبالعلماء إفراط الحرص، وبالمقاتِلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالبخلاء الكِبْر، وبالشباب الكسل، و بالشيوخ المزاح، وبجماعة الناس التباغض والحسد.
وقال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد، حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية.
ودخل عون بن عبد الله يوماً على الفضل بن المهلب وكان أمير واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء؛ فقال: وما هو؟ قال: إياك والكبـر، فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس, وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه الله عنها، فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ: "اهبطوا منها" إلى آخر الآية, وإياك والحسـد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده، ثم قرأ: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت.
وقال بكر بن عبد الله المزني التابعي: كان رجل يغشى بعض الملوك، فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه ، فإن المسيء سيكفيه إساءته. فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر. فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: ندعوه إليك، فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر. فقال له: انصرف حتى أنظر. فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيه إساءته. فقال الملك: ادن مني. فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم. فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا صدق. قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أوصلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي. فأخذ الكتاب وخرج . فلقيه الرجل الذي سعى به ، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك له بصلة. قال: هبه لي! فقال: هو لك. فأخذه ومضى به إلى العامل. فقال له العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك. قال: إن الكتاب ليس هو لي، فالله الله في أمري حتى ترجع إلى الملك. فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة. فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به. ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك، وقال: ما فعل الكتاب ؟ فقال : لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له . قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر. قال: ما قلت ذلك. قال: فلم وضعت يدك على فيـك؟ قال: لأنه أطعمني طعامـاً فيه ثوم فكرهت أن تشمه. قال: صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته.
إذا حسدت فلا تبغ
كما قلت من قبل: المصيبة ليست في مجرد الحسد، ولكن المصيبة كل المصيبة فيما يجره الحسد من البغي والعدوان الكراهية، إذ ما من أحد يسلم من ثلاث خصال، هي: الطيرة، والحسد، والظن، وقد أرشدنا إلى كيفية التخلص من ذلك، حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية: "ثلاث لا ينجو منهن أحد، وقلَّ من ينجو منهن"، وفي رواية: "إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققـوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا".
وقال الحسن رحمه الله: "ليس أحد من خلق الله إلا وقد جعل معه الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه شيء".
وقيل للحسن: يا أبا سعيد، أيحسد المؤمن؟ قال: لا أم لك! أنسيت إخوة يوسف؟ وفي رواية: قال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمَّه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً"، أوكما قال.
إذاً العبرة ليست في مجرد الحسد، وإنما العبرة فيما يتبع ذلك.
أسباب الحسد
أسباب الحسد كثيرة جداً ومتنوعة، ولكن أخطرها ما يأتي:
1. العداوة والبغضاء، فهو أول عامل من عوامل الحسد، فليحذر الإنسان من مخاصمة الآخرين ومعاداتهم، فإنها تجلب عليه أنواعاً من الأذى والضرر.
2. الجدل والمراء، فإنهما لا يأتيان بخير قط، فإن جادلت عالماً حبس عنك علمه وحرمك منه، وإن جادلت جاهلاً أبغضك وكرهك وحسدك.
3. الكِبْر، كما حكى الله عن بعض الكفار قولهم: "لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".
4. التعزز والأنفة، فصاحب الأنفة لا يحب أن يعلو عليه أحد، فإن أدركه وإلا حسده.
5. حب الرئاسة والجاه، فليس هناك ضرر على دين المرء أكثر من حبه الجاه والرئاسة مع حب الدنيا.
6. خبث النفس وفساد الطوية: وهو من العوامل الرئيسية للحسد والبغي.
الاستعاذة من الحسد وما يدفع ضرره
الحسد له تأثير مادي وحسي على الإنسان، وإلا لما أمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتعوذ منه في قوله تعالى: "ومن شر حاسد إذا حسد"، ولكن الحاسد والعائن والساحر وغيرهم لا يستطيع أحد منهم أن يتصرف في إنسان إلا إذا أراد الله ذلك: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"[ وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"، أوكما قال.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده، ولا لسانه، فإن الله تعالى قال: "ومن شر حاسد إذا حسد"، فحقَّق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، ومعلوم أن الحاسد لا يسمي حاسداً إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك. ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود، لاه عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، ووجِّهت سهام الحسد من قِبَله، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك إن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد.
وقد قيل: كادت الفاقة ـ الفقر ـ تكون كفراً، وكاد الحسد يغلب القدر، والهم نصف الهرم، والفقر الموت الأكبـر.
ويدفع حسد الحاسد بأمور أهمها ما يأتي:
1. التعوذ والتحصن في الصباح والمساء بقراءة الإخلاص والمعوذتين ثلاثاً في الصباح والمسـاء، وإذا أصيب المحسود يُرقى برقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أوعين حاسـد الله يشفيك".
2. قوة اليقين والتوكل على الله.
3. الصبر ، والمصابرة، والمجاهدة بالدعاء، والتضرع إليه بصدق وإخلاص.
4. مقاومة الوهن والاستكانة والخوف من الحاسد والعائن والشيطان، قال تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً"، فالخوف والاستكانة من أقوى أسباب الإصابة بذلك، ومن الناس من يرد كل ما أصابه إلى العين والحسد والشياطين، وفي ذلك مبالغة.
5. التحرز من الذنوب والمعاصي والبدع فهي سبب كل بلاء للعبد، وتقوى الله والأعمال الصالحة سبب كل سعادة.
6. الإحسان إلى الباغي الحاسد، وهذا أقوى أسباب رد كيده في نحره، فالسيئة تمحوها الحسنة: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".
وقد قال رسولنا لقومه عندما آذوه: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
التخلص من الحسد
التخلص والمعافاة من الحسد تحتاج هي الأخرى إلى مجاهدة ومصابرة وجد ومثابرة، فكل إنسان أعلم بنفسه وأدرى بها من غيره، وأبصر بأدوائها وأمراضها، فعليه أن يسعى في خلاصها وتزكيتها، ومن الأسباب التي تعين على التخلص من ذلك ما يأتي:
أولاً: سؤال الله والتضرع إليه بجد وإخلاص وإخبات أن يعافيه من هذا الداء العضال والمرض القتال.
ثانياً: يجتهد إذا حسد ألا يبغي ولا يتعدى ولا يظلم.
ثالثاً: الإكثار من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومباعد القرابات، ومرمل الزوجات، وميتم البنين والبنات، الموت، فإن ذلك يقلل طمعه ويقصر أمله في الدنيا.
رابعاً: الاهتمام بعيوب نفسه ومحاولة التخلص منها.
خامساً: محاولة الرضا والقناعة بما قسمه الله له.
سادساً: عدم التشوُّف والتطلع إلى ما عند الآخرين.
سابعاً: الإقلال من الاختلاط بالناس.
ثامناً: الاشتغال بالذكر والطاعات وتعمير الأوقات بذلك.
تاسعاً: أن يسأل الله من فضله الواسع وخيره العميم.
عاشراً: إذا رأى نعمة على إنسان أن يدعو له بالزيادة والبركة.
أحد عشر: أن يتذكر دائماً نعم الله عليه من العافية والولد.
الثاني عشر: أن ينظر إلى من هو دونه لا إلى من هو فوقه.
وأخيراً نسأل الله أن يؤتي نفوسنا تقواها، وأن يزكيها فإنه خير من زكَّاها، وأن يُقَنِّعنا بما رزقنا، ويمتعنا به، واعلم أخي الحبيب أن الدنيا أحقر من أن يحسد ويعادى على شيء من حطامها الفاني، وتذكر قول رسولك الكريم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء"، وأن الآخرة خير وأبقى، فاعمل للباقية ولا تلهث خلف الفانية، فتبيع آخرتك بدنياك، وصلى الله وسلم على رسولنا القائل: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وكن من أولئك القوم الفُطَّن:
إن لله عبــاداً فطنــاً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمـوا أنها ليست لحي وطنـاً
جعلوها لُجَّة واتخــذوا صالح الأعمال فيها سفناً
واحذر أن تكون من العاجزين الغشم ، والحاسدين الباغين الظلم.
وصلى الله على سيدنا محمد صاحب الشريعة والبرها ن وعلى آله وصحبه اجمعين والحمد لله رب العالمين