المقدمة: إذا كانت الذاكرة عملية اختزان الذكريات و استرجاعها عند وقت الحاجة و إذا كانت الإصابة في خلايا الدماغ يعرض الذاكرة للضعف أو الزوال، هل هذا يعني أن الذاكرة ظاهرة فيزيولوجية ؟ لكن إذا كانت الصدمة النفسية العنيفة قد تجعل الإنسان يسترجع ذاكرته، مع العلم أن خلايا المخ غير قابلة للتجديد، هل هذا يعني أن الذاكرة بالعكس ظاهرة نفسية؟ و المشكل المطروح: هل الذاكرة ظاهرة فيزيولوجية أم نفسية ؟
التحليل: يرى ريبو في كتابه "أمراض الذاكرة" الذي صدر سنة 1881 أن الذاكرة حالة فيزيولوجية يقوم بها الجسم الذي يحتفظ بالذكريات و يسترجعها عند وقت الحاجة يقول " الذاكرة حالة جديدة تغرس في الجسم الذي يحتفظ بها لإعادتها." عملية الاحتفاظ هذه يقوم بها الجهاز العصبي، الذي يعدلها و يربط بين أجزائها. إن الذاكرة عند ريبو تختزن آليا في الدماغ بفعل التكرار، و تستدرج آليا إذا ما أثير الدماغ.
إن الأشياء و الأفعال تنطبع في الدماغ، كما تنطبع الأفعال في الجسم. هكذا أرجع ريبو الذاكرة الى العادة، و لا يرى فرقا بينهما. إذا كانت العادة تكرار فإن الذاكرة كذلك، إذ كلما تكرر الأمر كلما انطبع في الدماغ أكثر، و سهل استرجاعه، و الدليل عنده أن أمراض الذاكرة تخضع لقانون التراجع، حيث نفقد أولا ما هو غير راسخ ثم الراسخ.
فمثلا نفقد ما هو جديد و غير منظم، ثم القديم الأكثر ثباتا بفعل التكرار، كما نفقد أسماء الأعلام التى لم نكررها كثيرا ثم أسماء الأجناس ثم الأفعال، مما يدل على ان المرض يحدث تدريجيا نتيجة لإصابة تحدث في الدماغ تدريجيا. كذلك استدل ريبو على صحة نظريته بوجود ارتباط بين الذاكرة و أجهزته الحسية، و مناطق هذه الأجهزة في الدماغ. الذاكرة عند ريبو ثلاثة عناصر: الاحتفاظ = الاسترجاع = التعرف على الماضي. إلا أن هذا العنصر الثالث و إن كان " يتمم الذاكرة فإنه لا يشكلها ". لذلك فإن الذاكرة عنده فيزيولوجية بالذات و نفسية بالعرض. ولقد أيدت التجارب التى قام بها بروكا صحة النظرية المادية لريبو، حيث أثبت ان أمراض الذاكرة الحسية الحركية ترجع الى إصابة في مختلف التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ، التى سميت بعد ذلك بمنطقة البروكا. و في سنة 1954 أيد الطبيب بيفيلد في المؤتمر العالمي في موريال، أن التنشيط الكهربائي لبعض المناطق في الدماغ يستطيع أن يجعل الإنسان يسترجع بعض الذكريات.
غير ان استرجاع الذاكرة الى الجسم فقط، هو إهمال لدور الشعور في التعرف على الذكريات. إن الذاكرة ليست عملية استرجاع للماضي فحسب و لكن عملية التعرف عليه، و ليس التعرف صفة عرضية في الذاكرة، وإنما صفة جوهرية: لأن غياب التعرف يعني غياب التذكر. هذا ما أكده ديكارت في القرن 16 و تكون الذاكرة بذلك حالة نفسية.
على هذا الأساس بنى برغسون نظريته في الذاكرة. إن الذاكرة عنده ليست عادية فالعادة ظاهرة بيولوجية بينما الذاكرة ظاهرة نفسية إن ما يعتقد أنه الذاكرة ليست سوى عادة عنده الجسم عند برغسون لا يتذكر بالمعنى الحقيقي لكلمة تذكر إنما يكرر الأفعال و الحركات فقط. و هذا يختلف عن الذاكرة الحقيقية. هكذا ميز برغسون في كتابه " المادة و الذاكرة" 1898 بين نوعين من الذاكرة الأولى هي العادة التى ترسخ في الجسم آليا و تسترجع آليا و هذه الذاكرة عادة يمكن ان تفسر مثلما أراد ريبو على أنها "تجربة رسخت في الجسم" و الثانية هي الذاكرة الحقيقية تقوم على التصور و ليس التكرار و هي ترسخ في الروح دفعة واحدة و بالتالي لا يمكن تحديد مكانها في الجسم و الذاكرة:سون قانون ريبو في أمراض الذاكرة: " إنهم الغريب عنده أن يتلف المرض دائما هذه الخلايا على نفس الترتيب ". الذاكرة عنده هي بعث الماضي الذي نحياه من جديد عندما نعيش لحظات من التأمل العميق أو لحظات من الأحلام، نهيم أثنائها في أرض ماضينا في ديمومة خصبة. يقول " التذكر في جوهره يحمل تاريخا " و يقول قرنيي " لما نتذكر ما فعلناه، فنحن نراه و نعيشه و نون في الماضي الذي ندركه بدون واسطة ".
كذلك يقول دولاي :" التكرار و الرواية يمثل كل منهما الذاكرة ذات شكل مغاير ، فتكون هذه على مستوى التركيبة ، و تلك على مستوى الآلية ، فالتذكر من حيث هو تركيبة ذهنية ، يتطلب التعرف الى الزمان و الشعور به ، و من حيث هو الآلية فإنه لا يتطلبه"
لكن بيار جاني يرى أن برغسون نظر الى الذاكرة نظرة فيلسوف و ليس نظرة عالم، مما جعله يبالغ في التمييز بين الذاكرتين، إن الفرق بين الذاكرتين عند جاني فرق في الدرجة فقط.
إنه من الخطأ اعتبار التذكر عملية آلية محضة، لأن التذكر بناء أكثر ما هي إعادة. إن الذهن ينشئ الصور المسترجعة إنشاءا، و النفس ليست مرآة للواقع و إنما هي قوة تأليف و تركيب، إنها لا تلتقط الصور و الأشكال و الألوان كما تلتقطها الصور الفوتوغرافية و إنما تلتقط الصور المصحوبة بالإدراك و الانتباه. إذا كان الطفل عند بيار جاني لا يتذكر في السنوات الثلاثة الأولى من عمره ، فلأنه لم يعرف كيف يستعمل قدراته العقلية ، مما يدل على ان الذاكرة حالة نفسية ، غير ان الأمر الذي لا يمكن إنكاره ، أن الذاكرة السليمة تقتضي جهازا عضويا سليما و مرنا.
فالطفل في مقدوره أن يحتفظ و يعيد بسهولة ما تعلمه بينما يجد المسن صعوبة في ذلك، والسبب مرونة الجملة العصبية لدى الطفل و عدم مرونتها عند المسن. كذلك يؤدي المرض و التعب الى ضعف في استرجاع الذكريات، وبالتالي ليست الذاكرة انطباعات معدة من قبل الذهن فحسب ، بل في إدراك انتباهي يرتقي بالآلية الى حالة التمثل بكل أبعادها المعنوية . إن الذاكرة ليست عادة كما يرى بيار جاني لأن العادة آلية و الآلية تفقدها معناها و روحها، بل رواية تحمل معنى و هدفا، يحتفظ بها الإنسان ليقصها على غيره، وتحمل بذلك طابعا اجتماعيا. يقول جون دولاي:" إننا نعني بهذا الاسم ذاكرة اجتماعية، تلك اللغة التى أنشأها المجتمع لمقاومة شروط الغياب، والتي تبدو له أجدر ما تكون الذاكرة المستحقة لهذا الاسم ".
الخاتمة: وأخيرا نستنتج ان الذاكرة ليست ظاهرة فيزيولوجية بحتة، و ليست ظاهرة نفسية بحتة، إنها تكامل بين الجسم و النفس لربط الإنسان بماضيه، و ماضي الجماعة التى يعيش في وسطها.
مـشكور بارك الله فيك