حري بالمعلم أن يعز نفسه، وأن يصون علمه، وأن يجانب مواطن الرّيب، وأن يرتفع عن مواطن المهانة، فلا يغشى مجالس السفل، ولا يرتادَ منتدياتِ الخنا والزور، ولا يسير إلا على وفق ما تمليه عليه المروءة والحكمة.
قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في وصاياه للمعلمين: " وأوصيكم باتقاء مواطن الشبه، واجتناب مصارع الفضيلة، وبإجرار الألسنة عن مراتع الغيبة والنميمة، وفطمها عن مراضع اللغو واللجاج؛ فهي مفتاح باب الشر، وثقاب نار العداوة والبغضاء"
وقال: "إن العامة التي ائتمنتكم على أبنائها تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة؛ فالصغيرة من أعمالكم كبيرة، والخافتة من أقوالكم تسمعها جهيرة؛ فاحذروا ثم احذروا"
ولئن كانت عزة النفس جميلة رائعة من كل أحد فَلَهِيَ من أهل العلم أجمل وأروع.
ولئن كانت مرغوبةً مطلوبةً من كل أحد فلهي من أهل العلم أولى وأحرى.
فأكرم بمن رفعه العلمُ، فرفع العلمَ، وأجدر بذي العلم أن يكون ذا نفس زكية، وساحة طاهرة نقية؛ حتى لا يكون الخلل حائلاً بينه وبين هداية الناس.
ورحم الله القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني إذ يقول في عزة أهل العلم:
يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم** ومن أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أُكْرِما
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كلما ** بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ لي سلَّما
وما كلُّ برقٍ لاح يستفزني **ولا كلُّ مَنْ لا قيت أرضاه منعما
إذا قيل: هذا منهلٌ قلت قد أَرى** ولكنَّ نفسَ الحرِّ تحتمل الظما
أُنَهْنِهُهَا عن بعض ما لا يشينها **مخافةَ أقوالِ العِدا فيمَ أولما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي** لِأخْدِمَ مَنْ لا قيتُ لكن لأُخْدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً؟** ولو عظَّموه في النفوس لَعَظَّما
ولكنْ أهانوه فهانوا ودنسوا ** محياه بالأطماع حتى تَجَهَّما
فمن حق زملائك عليك أن تَقْدُرهم حق قدرهم، وأن تنصح لهم، وتحب لهم ما تحبه لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك.
قال عليه الصلاة والسلام: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه})
ومن حقهم أن تزيد في الإجلال والتقدير من يكبرك في السن والعلم، خصوصاً ممن لهم فضل عليك في تعليمك وتوجيهك؛ فلهؤلاء حق خاص، وقيامك بهذا الحق دليل على نبلك وكرم أخلاقك.
ومن حقهم عليك أن ترفع من أقدارهم، وألا تذكرهم إلا بخير، وأن تحسن العشرة إذا اجتمعت بهم، وأن تحفظ العهد والغيب إذا فارقتهم.
ومن حقهم أن تدعو لهم، وأن تحرص على مناصحتهم، وعلى ستر عيوبهم، وأن يكون صدرك سليماً لهم.
ومن حقهم أن تقبل نصيحتهم، وأن تحسن الظن بهم، وأن تحمل كلامهم على أحسن المحامل، وأن تقيل عثراتهم إذا أخطأوا، وأن لا تعجل بمعاتبتهم إذا زلوا.
أقِلْ ذا الودِّ عثرتَه وقِفْهُ على** سنن الطريق المستقيمهْ
ولا تسرع بِمَعْتَبَةٍ إليه ** فقد يهــــفو وَنِيَّتُهُ سليـــمهْ
ومن حقهم أن تحترم تخصصاتهم وعلومهم، وألا تتدخل في شؤونهم الخاصة التي يكرهون أن يطلع عليها أحد غيرهم.
ومن حقهم ألا تنتقد أحداً منهم أمام الطلاب لا تصريحاً ولا تلميحاً؛ لأن انتقادهم أمام الطلاب مدعاة لزهد الطلاب بكم جميعاً.
بل اللائق بك أن تذكرهم بخير أمام الطلاب، وألا تسمح لأحد من الطلاب أن ينال من أحد من زملائك؛ فذلك أهيب لكم، وأرفع لقدركم.
ومن حقهم أن تحرص على جمع كلمتهم كما سيأتي.
وإن رأيت من أحد زملائك نشاطاً فشجِّعْه، ونافسه في الخير.
وإن رأيت كسلاً وخمولاً فخذ بيده، واحرص على نصحه، ولا تجاره في صنيعه.
11_التعاون على البر والتقوى:
فمن أعظم ما يجب على المعلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق وبالصبر. فحري بالمعلم أن يتعاون مع مسؤوليه، فيحسن علاقته بهم، ويقوم بما يسند إليه على أكمل وجه وأتمه، وأن يحرص على مناصحتهم فيما يراه خللاً، ويبدي رأيه فيما يرى أنه أفضل مما هو معمول به، مع مراعاة ألا ينصح أو يقترح على شرط القبول، فيكبر في نفسه ألا يؤخذ برأيه.
ومن التعاون أن يتعاون مع الموجهين والمشرفين، وأن يستمع لملاحظاتهم وإرشاداتهم.
ولا يمنع ذلك من مناقشتهم حول بعض الأمور في هدوء وسكينة بعيداً عن الملاحاة والمماراة.
ومن التعاون في هذا الصدد أن يتعاون مع الطلاب _كما سيأتي_ ومع أولياء أمورهم في سبيل السعي في رفعة الطلاب.
ومن التعاون أن يقوم بحق الزملاء كما مضى، وأن يحرص على جمع الكلمة كما سيأتي.
12_ الحرص على جمع الكلمة وإصلاح ذات البين:
فمما يجب على المعلمين أن يجمعوا أمرهم، وأن يحرصوا كل الحرص على إصلاح ذات بينهم؛ جمعاً للكلمة، وإيثاراً للمصلحة العامة.
فلا يحسن بهم_ وهم القدوة_ أن يعتدَّ واحدهم برأيه، وأن ينأى بجانبه عمن يخالفه.
وإلا أصبح التعليم وقاعاته ميداناً للمهاترات، والخلافات، وصار أهل العلم سُبَّةً لمن أراد الشماتة، حينها يفشلون وتذهب ريحهم.
وربما كان السبب في ذلك أموراً تافهة لا تستحق أن يُخْتَلَف من أجلها، وقد تكون مجرد أوهام لا حقيقة لها.
ثم إن كان هناك من داع للخصومة فلتكن خصومة شريفة دعا إليها سبب معقول، وتبودلت فيها الحجج والبراهين من غير مهاترة أو مسابة، وقامت على الوسائل المكشوفة الظاهرة لا الخفية الدنيئة، وخرج كل خصم من الخصومة شريفاً لم تدنسه الخصومة؛ فهي كالصراع بين فارس نبيل وآخر مثله، لا بد لحربها من سبب قوي؛ فإذا تحاربا خضعا لأدب الحرب، وترفعا عن الصغائر والسفاسف وأساليب الخداع والمراوغة، ثم إذا انتهى الصراع انتهت الخصومة.
ثم إن حصل خلاف بين المعلمين فيجب أن يُسعى بالصلح، وعلى المتخاصمين أن يفرحوا بالصلح، وأن يستجيبوا لِدَاعيه؛ فالاجتماع رحمة ورفعة، والفرقة عذاب وحِطَّة.
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله في وصيته لولديه: " واعلما أني قد رأيت جماعة ليس لهم أقدار ولا أحوال، أقام أحوالهم، ورفع أقدارَهم اتفاقُهم وتعاضدُهم.
وقد رأيت جماعة كانت أقدارهم سامية، وأحوالهم نامية، مَحَقَ أحوالَهم، ووضع أقدارَهم اختلافُهم؛ فاحذرا أن تكونا منهم"
وقال الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي رحمه الله : "ومن أهم ما يتعين على أهل العلم _معلمين أو متعلمين_ السعيُ في جمع كلمتهم، وتأليف القلوب على ذلك، وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم، يسعون له بكل طريق؛ لأن المطلوب واحد، والقصد واحد، والمصلحة مشتركة، فيحققون هذا الأمر بمحبة كل مَنْ كان مِنْ أهل العلم، ومَنْ له قدم فيه واشتغال أو نصح.
ولا يَدَعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل، فيحب بعضهم بعضاً، ويذب بعضهم عن بعض، ويبذلون النصح لمن رأوه منحرفاً عن الآخرة، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعو إلى ضد المحبة والائتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة"
هذا وإن مما يعين على اجتماع الكلمة ما يلي:
أ_ أن تسود روح التضحية بين المعلمين:
فالتضحية من أنبل الأخلاق وأروعها، وهي من أعظم ما يكسب القوة والترابط، والأمة المضحية تأكل غير المضحية بيسر وسهولة؛ لأن الأمة المضحية كتلة واحدة متماسكة، وغير المضحية أفراد متفككة، وشهوات متعددة، تتحارب أجزاؤها، ويأكل النزاع والشهوات والأنانية قواها.
ولا تكون التضحية حتى يتعود القلب لذة العطاء كما يتعود لذة الأخذ.
فالتضحية أفق واسع تنعم فيه النفس بجمال السعة، وبعد المدى.
والأنانية أفق ضيِّق تألم فيه النفس، بضيق المكان، وتنقبض من كثرة السدود والحدود
ب_ إفشاء السلام:
فهو مجلبة للمودة، ومدعاة للمحبة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: {لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم}
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن مما يُصَفِّي لك ودَّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس"
جـ _ الشورى:
فالشورى تنمي المعارف، وتقوي الأواصر بين المتشاورين؛ لأنهم إذا تشاوروا شعروا بأن أمرهم واحد، ومصلحتهم مشتركة، وإذا شعروا بذلك قويت المحبة، وزالت العداوة.
ثم إن استشارتك لأخيك توحي إليه بمودتك له، وثقتك به، وذلك من أسباب الألفة.
قال _تعالى_ في وصف المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38).
وأمر _عز وجل_ نبيه أن يشاور أصحابه، مع وفور عقله، وسداد رأيه.
قال _تعالى_: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران: 159).
ولهذا كان النبي " كثير المشاورة لأصحابه.
د_ الدعاء:
وذلك بسؤال الله بصدق أن يجمع القلوب على التقوى.
هـ _ أن ندرك أن الاختلاف في الرأي لا يوجب اختلاف القلوب:
كما قيل:
واختلاف الرأي لا يفـ ** سد للود قضية
بعد التحية أقول لأخينا على هذا الموضوع القيم جزاك الله ،و أرجو أن يجذب المعلمين لقراءته بدل الذهاب إلى مواضيع لا قيمة لها ، تحياتنا لكل المعلمين و الأساتذة