بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهذه صفحة من صفحات الإستعمار الفرنسي في الجزائر يرويها لنا الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه (تاريخ الحركة الوطنية) آثرت نقلها هذه المرة لرسم صورة بسيطة عن الجرائم التي ارتكبها الفرنسيون في حق الجزائر وأهلها حيث تحدث الدكتور الفاضل عن تاريخ مصادرة أملاك الجزائريين الخاصة والعامة وأملاك الأوقاف وتجريد المسلمين من حقوقهم ووضعها بيد شذاذ الآفاق من حثالات أروبا لعلّها تنفض شيئا من الغبار المتراكم على الذاكرة الشعبية لبعض الجزائريين ممن أصبح يمكن للإستعمار الحديث تحت شعارات شتّى على كل لن أطيل وأترككم مع المقال :
مصادرة الأملاك ….
كانت مدينة الجزائر تضم عند غزو الفرنسيين أملاكا متنوعة وكثيرة كان بعضها للدولة وبعضها للأوقاف وبعضها للأفراد .. إلخ ومنذ الغزو لم ينتظر الفرنسيون نتائج حملتهم لتقرير مصير هذه الأملاك بل أخذوا يتصرّفون فيها كما لو كانت ملكا لهم وطبقا لقوانينهم ورغم النص الصريح في اتفاق حسين باشا -بورمون على احترام الأملاك الخاصة فإنّ الفرنسيين ضربوا بوعودهم عرض الحائط واستهتروا بالإتفاق حتى أن كلوزيل أجاب حمدان خوجة عندما احتج له به بأنّ الإتفاق لم يكن سوى (لعبة حرب) .
وحسب المصادر الفرنسية فإن تلك الأماكن كانت سنة 1830 مصنفة على :
1- أملاك البايلك (الدولة) وعددها خمسة آلاف ملكية قيمتها تقدر بأربعين ألف فرنك عندئذ وقد تحولت جميعها إلى الدولة الفرنسية باعتبارها هي التي حلت محل الدولة الجزائرية ويشمل ذلك بدون شك الثكنات العسكرية والمباني الرسمية وقصور الحكام والوزراء وكبار الموظفين ونحو ذلك .
2- أملاك بيت المال وكانت تشمل ما يؤول إلى بيت المال من الأملاك المحتجزة ومن لا وارث له ,,إلخ ولا نعرف قيمة هذه الأملاك لأن المصادر لم تذكرها.
3- الأملاك الخاصة وتشمل العقار وغيره وهي الأملاك التي يملكها الأفراد سواء كانوا حاضرين أو غائبين ولا نعرف أيضا قيمتها في احصاء سنة 1830 المشار إليه
4- أملاك الأوقاف وتشمل سبعة أنواع وهي أضخم وأخطر الأملاك
وأنواعها هي :
-أوقاف مكة والمدينة (أكثرها وأغناها)
-أوقاف المساجد (من أعظمها وقف الجامع الكبير)
-أوقاف الزوايا والقباب (الأضرحة)
-أوقاف الأندلس
-أوقاف الأشراف
-أوقاف الإنكشارية
-أوقاف الطرق العامة
أوقاف عيون الماء (76)
ولا نعرف قيمة هذه الأوقاف في الإحصاء المذكور غير أنهم يذكرون أن لها دخلا عظيما
وبمجرد الاستيلاء على المدينة وإباحتها للجند من قبل بورمون كما عرفنا لم يتحرج الجيش الغالب من سكنى الثكنات التي سارع الفرنسيون بإفراغها وترحيل من فيها إلى آسيا الصغرى بدعوى أنهم من مواليدها (كما لو كان الفرنسيون عندئذ قد ولدوا بالجزائر)
كما سكنوا واحتلوا القلاع والأبراج والأبواب الرئيسية للمدينة ومن ذلك قلعة باب عزون وبرج بوليلة (أو قلعة مولاي حسن-الامبراطور) وباب الجهاد … إلخ وسكن الضباط في فيلات (الأتراك) السابقين وكذلك أحواش ودور أعيان الجزائريين الذين خرجوا من المدينة مؤقتا حتى تنجلي الغمة.
وفي نفس الوقت ضم الغزاة أموال بيت المال إلى أملاك دولتهم (الدومين) وأصبحت اللجنة التي أنشأها بورمون باسم اللجنة المالية أو الحكومية هي التي تشرف على ذلك وصادر الفرنسيين أملاك الخواص من الاتراك والكراغلة . أمّا الأوقاف فقد بقيت في يد وكلائها المسلمين إلى مجيء كلوزيل (1830) كما سنرى .
وابتداء من سبتمبر 1830 غير كلوزيل الموقف أيضا من الأوقاف . ومهما كانت الصيغ التي عرفتها مرحلة 1830-1842 فان النتيجة واحدة وهي مصادرة الأوقاف وضمها إلى الدومين وجعل ريعها تابعا لصالح الإدارة الاستعمارية دون تعويض أصحابها ودون صيانتها بل ان الكثير منها قد هدم وأذيب دخله في الميزانية العامة للدولة . ولكن ذلك لم يتحقق فجأة بل مرّ بمراحل وقرارات كانت تهدف إلى وضع أيديهم على هذا المصدر المالي الإسلامي الذي كان الغذاء الوحيد (دون تدخل ميزانية ***في العهد العثماني) للتعليم والترقية الإجتماعية (77)
وأول قرار أصدره كلوزيل بشأن الأملاك كان في8 سبتمبر 1830 ومما جاء فيه (قارنه باتفاق حسين باشا-بورمون) :
إن كل الدور والدكاكين والمخازن والحدائق والأراضي والمحلات والمؤسسات مهما كانت التي يشغلها الداي (الباشا) والبايات والأتراك الذين خرجوا من أيالة الجزائر (والواقع أنهم لم يخرجوا من تلقاء أنفسهم وإنما رحلوا ترحيلا) أو التي يشغلها الآن الناس باسمهم بالإضافة إلى المؤسسات التابعة لمكة والمدينة (الأوقاف وهي بالطبع لا تخص الأتراك بل كان الجميع يساهمون فيها) كل ذلك يدخل في أملاك (الدومين) ويجب أن تستثمر لحسابها .
ومن أغرب ما نص عليه ذلك القرار الجائر ضربه أجل ثلاثة أيام فقط للإستظهار بإثبات الملكية وإلاّ فان سلطات الغزو تصادرها بدون انتظار. وغذا كنت لا تصدق ما في ذلك القرار من جور واعتساف وخلف العهود فاقرأ هذا : كل الأفراد الذين تخضع تلك الأملاك عليهم أن يتقدّموا (بما في ذلك حسين باشا الذي أصبح منفيا والوزراء والإنكشارية الذين وصلوا إلى أناضوليا والبايات الخ) في ظرف ثلاثة أيام من نشر القرار بإثبات البيانات التي تحتوي على : طبيعة ووضع وكمية الأملاك التي في حوزتهم وكمية الدخل منها أو الأجر الذي ينجرّ عنها وأخيرا مدة آخر الدفع. واتباعا لأسلوب البوليس الذي مهر فيه كلوزيل وروفيقو على الخصوص وعد القرار الرسمي بأن كل شخص يكشف لكلوزيل وزمرته عن وجود ملك لم يعلنه صاحبه يكافأ بنصف الغرامة التي سيفرضها كلوزيل على المالك المتخفي . أما أين تصب هذه الغرامات الجائرة ففي صندوق الجيش طبعا .. وهو الصندوق الذي جعله كلوزيل لاسترضاء زمرته وجعل الجيش يساهم بذلك كما عرفنا في مشروع استعماري (استثمار الأرض التي استولى عليها وجعلها مزرعة نموذجية) عن طريق رأس مال لشركة مساهمة مغفلة الأسهم (78)
وماذا ننتظر بعد هذا من ردود الفعل ؟ ان كثيرا من أصحاب تلك الأملاك غائبون كما عرفنا ولم يعطهم القرار سوى ثلاثة أيام لإثبات حقهم فأي معنى لاحتجاجهم اذا وقع ؟ وأين هم حتى يحتجون ؟ ذلك جانب كان كلوزيل وزمرته يعرفون أنهم مطمئنون منه . أما الإحتجاج الذي ازعجهم وأخافهم من العواقب فهو احتجاج الجزائريين على مصادرة أملاك الأوقاف التي لها قدسيتها والتي اشتركوا في تنظيمها وتغذيتها مثل كل المسلمين كما احتجوا على الطريقة التي عليهم أن يثبتوا بها الملكية الخاصة وعدم النص على التعويض إلخ . واذا كان الخواص قد تولوا الاحتجاج ضد القرار بأنفسهم فإن الاحتجاج ضد ضم الأوقاف جاء من المفتين والعلماء والوكلاء الذين أوضحوا أن الأوقاف لا تمس وأن لها أغراضا دينية وتعليمية واجتماعية أخرى .
ولما كان كلوزيل منشغلا بحملاته الفاشلة التي ذكرناها سابقا ضد المدية والبليدة (سأنقلها في وقت لاحق إن شاء الله) فإنه طأطأ رأسه للعاصفة ثلاثة أشهر ثم عاد إلى موضوع مصادرة الأملاك لأنه وجده أسهل من قيادة مرتزقته في سهول متيجة أو في مضائق الشفة وموزاية
فأصدر قرارا آخر في 7 ديسمبر 1830 طلب فيه من المفتين والقضاة والوكلاء أن يقدموا حساباتهم عن الأوقاف وسجلاتهم وأوراقهم الى مدير الدومين وهدد المخالفين بالعقاب الشديد وقد وعدهم بأن إدارة الدومين ستدفع لهم من حساب الأوقاف ما يحتاجون إليه شهريا (79)
والواقع أن هناك هدفين من مصادرة الأملاك على ذلك النحو الأول سياسي والثاني اقتصادي وهما متصلان إلى حد بعيد . فأما الأول فهو خوف الفرنسيين من أن بقاء المسلمين على أملاكهم وحصوصا أملاك الأوقاف التي هي مقدسة عند الجميع سيجعل من وكلائها وعلمائها ومفتيها زعماء دينيين سياسيين معارضين للوجود الفرنسي وهي قوة لم يحسب لها الفرنسيون حسابا عند توقيع الإتفاق مع داي الجزائر . والثاني أن بقاء تلك الأملاك في أيدي المسلمين سيبقيهم أغنياء ومستغنين عن السلطة الجديدة ولن يحصل الأفاقون الفرنسيون الذ
ين رافقوا الجيش على طريقة لشراء الأملاك والاستقرار في الجزائر . وتذكر المصادر الفرنسية ذلك بكل وضوح بينما تأميم الأملاك يسهل عملية نقل الملكية ويفقد المسلمين مصدر ثروتهم الإقتصادية (والعلمية) وقوتهم السياسية ويحقق هدف الإستعمار .
فقد شعر الغزاة من أول وهلة أنه لو تركت الأملاك الإسلامية والفردية في يد المسلمين فانه لا يمكن للمهاجرين الأروبيين (الفرنسيين) شراء الأملاك والإستقرار في البلاد . ومن جهة أخرى شعروا بأنه بواسطة الأروبيين فقط يمكن انشاء ادارة للحسابات وتوفير مصاريف الصيانة واعطاء الوصولات ومن ثم إيجاد العقارات للأروبيين وقد حاول الأروبيون فعلا شراء الأملاك من المسلمين الجزائريين ولكنهم وجدوا صعوبة في ذلك فقد تدخل اليهود كوسطاء بينهم وبين المسلمين (80) فارتفعت الأثمان وقلت الضمانات خصوصا بالنسبة لشراء أملاك الغائبين كما أن حصص البيع معقدة إذ هناك من يبيع فقط الربع أو الخمس من
الحصة (81) الخ . أما حين وضع الدومين يده على الأملاك فقد سهل على الأروبيين الحصول على الأملاك وأعطاهم الضمانات . وكان المشتري الاروبي (ابتداء من عهد كلوزيل) معفى من كل شيء سوى أن عليه أن يدفع الفائدة للدولة .
وأول ما بدئ في بيعه للأروبيين المنازل الخاصة والمقابر الواقعة عند باب الوادي ورغم ورود عبارة تعويض في القرارات الرسمية فإن ذلك لم يقع (82) .
وإذا كان الأفراد قد احتجوا ودافعوا عن أنفسهم بدون جدوى في غالب الأحيان للحصول على تعويضات عن أملاكهم المصادرة فإن الأوقاف كانت من أكثر المؤسسات ضياعا إذ يقر يقر حتى كتاب الفرنسيين أن مؤسسات الوقف ظلت بدون تعويض . ويدعون أن ذلك راجع الى تقادم العهود وضياع الوثائق واختفاء الورثة .
وهكذا اختفت الأوقاف بسرعة ولا سيما أوقاف الإنكشارية والطرق العامة والعيون الخ وذابة ميزانية ***(83) وعلى كل حال فإن قضية التعويض عن الأملاك الفردية كتانت السبب في رفع الشكاوى المستمرة من أعيان الجزائر وعندما عجزوا وطغت أيدي الظلم هاجر الكثير من أصحابها وافتقر الباقون حتى أصبحوا من المتسولين أما أملاك الوقف المشار إليه فقد وقع اغتصابها قهرا وعدوانا وكان ذلك سببا في ظمور حركة التعليم واختفاء المعلمين وغلق المدارس .
إن قرارات الإستيلاء على الأملاك بكل أنواعها قد استمرت في الظهور بين 1830-1837 وازدادت تضييقا وجورا أيضا في قرارات 1839 1842 1848 وكان الهدف كما ذكرنا تفقير الجزائريين وإجبارهم على الهجرة وترويضهم سياسيا عن طريق الاقتصاد والحصول على الأملاك للأروبيين (منحة وبيعا) الواردين على الجزائر بقصد الإستيطان والإستعمار . ولم تكن تلك القرارات مقتصرة على الأملاك في مدينة الجزائر بل شملت كل المدن التي وقعت بالتدرج فريسة للإحتلال الفرنسي مثل وهران وتلمسان وعنابة وبجاية والمدية والبليدة ثم قسنطينة وغيرها . كما شملت القطاع الريفي أيضا بعد ةالقبض على مقاليد الامور في المدن .
وكان بعض الفرنسيين أنفسهم ينددون بتلك الإجراءات خصوصا الاستيلاء على الأملاك الفردية بدون تعويض والاملاك الدينية (الأوقاف) وتعطيلها عن أداء وظيفتها ومنهم (دي صاد) عضو اللجنة الإفريقية وعضو البرلمان الفرنسي الذي استنكر سنة 1834 التخريب الكامل ل 900 منزل بدون إخطار أصحابها مسبقا وبدون أي تعويض مما أجبر كما قال عشرة آلاف مواطن جزائري على الهجرة من العاصمة ومنهم 300 عائلة من الأعيان (84) . بالإضافة إلى ترحيل من أسماهم الفرنسيون بالأتراك الذين بلغ عددهم أكثر من خمسة آلاف شخص . وقد استمرت الهجرة من المدن الجزائرية بعد سنة 1834 طبعا . والمعروف أن أليكسيس دي طوكفيل الكاتب والبرلماني الفرنسي كان على رأس الذين استنكروا تعطيل الأوقاف عن مهمتها رغم غيمانه بضرورة الإستعمار .
وقد كانت المدن الجزائرية وعلى رأسها العاصمة مضرب المثل في النظافة والأمن وكثرة الحدائق والبساتين وبهاء الدور ووفرة المياه حتى تغنى بها الأدباء والشعراء العرب وسجل ذلك الرحالة الأروبيون قبل الإحتلال الفرنسي فإذا بها تصبح بعد الإحتلال بسنوات قليلة مضرب المثل في الأوساح وذبول الحدائق وانتشار الأمراض المعدية الواردة مع الجنود والفساد الأخلاقي والغش والمضاربات والفوضى وانعدام الأمن خصوصا أيام تولى (دو بينوس) شؤون الشرطة وتولى القنصل السابق (دوفال) شؤون العدل ذلك أن بورمون قد أباح المدينة لآلاف الجنود والمرافقين لهم من حثالات فرنسا فعاثوا في المدينة فسادا واعتداء وتخريبا وحماقة واهانة وهذا أمر مسجل في كتبهم وبينا الأمر كذلك مع الجنود كان الضباط كما قال مؤرحهم (بول آزان) قد استولوا على الفيلات والقصور وجلسوا يتفرجون ويكتبون الرسائل لذويهم وخليلاتهم وها هو النائب دي صاد الذي سبق ذكره يقول لزملائه في البرلمان سنة 1834 ان الجزائر كانت مليئة بالحدائق والمحلات الجميلة .. ولكنها الآن (أي بعد أربع سنوات) أصبحت جميعا خرائب وحتى أنابيب المياه التي تسقي المدينة قد خربت (85) وهل بعد ذلك نستغرب أن يذكر لنا بول آزان في باب المدح والثناء سجلات كل من تولى أمور الجزائر في هذا العهد (1830-1837) منوها بما بذله من أجل الحياة الصحية والنظافة بعد أن يقدم لذلك بعبارات تثير الإشمئزاز عما وصلت اليه حالة المدينة قبل توليه من الغهمال والتعفن ولكن بول آزان وأمثاله لا ينسبون ذلك الى الإحتلاونتائجه لأن عين الرضى عن كل عيب كليلة ….
عن كتاب (الحركة الوطنية الجزائرية) للدكتور أبو القاسم سعد الله ص 72 وما بعدها
بوركت اخي الكريم على هذا النقل المفيد