إن المسلم مطالب حينما ينزل به ابتلاء، أو حينما تأتيه المحن والشدائد، أو حينما تأتيه المصائب، مطالب بأمور عدة منها: أن يلتزم منهج أهل السنة والجماعة، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيتمسك بها، ففيها خيرا الدنيا والآخرة، وأنَّ الانحراف عن منهج أهل السنةِ سببٌ من أسبابِ الفشل، وسببٌ من أسباب الخيبةِ والخسران في الدنيا والآخرة، وما خَسِرَت كثير من الدعوات إلا بسبب عدم التزامها التام بمنهج أهل السنة والجماعة.
وحينما تنزل الشدائد والمحن، وحينما يصابُ المرءُ بمصيبة فعليه أن يلجأ إلى الدعاء، وأن يكثر منه ومن الشكوى إلى ربه تبارك وتعالى، ولا يشتكي إلى العباد فإنَّ الشكوى إلى العباد مذمومة، لكن يشتكي إلى رب العباد، كما قال يعقوب -عليه السلام-: ((إِنَّمَا أَشكُو بَثِّي وَحُزنِي إِلَى اللَّهِ))(يوسف: من الآية86).
فيدعو الله -عز وجل- ويتضرع إليه، ويرفع أكف الفقر وأكف الضعف والضراعة إلى العلي الأعلى -سبحانه وتعالى- الذي هو على كل شيءٍ, قدير، وبيده -سبحانه وتعالى- تفريج الكروب وإزالة المحن وإنهاء الشدائد، كما أن على المسلم أن يتمسك بغرزِ الصلاة فيكثر من الصلاة، ويستعين بها كما قال -تبارك وتعالى-: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))(البقرة:153).
وقال تعالى : ((وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ))(البقرة:45).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلجأ إلى الصلاة كُلَّما نابه أمر، وفهم ذلك أصحابه رضوان الله عليهم، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- في مرةٍ, من المرات مسافراً، فأخبر أن أخاه قُثَمَ -رضي الله عنه- قد مات، فنزل وصلى متأولاً هذه الآية: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))(البقرة:153).
ثم عليه أيضاً أن يتمسك بالصبر، والصبر أمر الله -عز وجل- به وذكره في كتابه أكثر من مائة موضع، وسيأتي إن شاء الله -تعالى- ذكر بعض المواضيع التي ورد فيها الصبر.
الصبر والرضا:
والصبر كما قال أهل العلم واجبٌ على المسلم، والرضى بالمصيبة والابتلاء مستحب، فالرضا أعلى منزلة من الصبر، ولكن الصبر واجبٌ، يجبُ على المسلم أن يصبر، وأن يحتسب، فالمصيبة يكفر الله بها عنه الخطايا، وإذا صبر واحتسب أعطاه الله -عز وجل- الأجر والثواب، فكان له كسبان، أولها تكفير الخطايا والسيئات، وثانيهما زيادة الثواب والحسنات. وقد ورد في كتاب الله الكريم الأمر بالصبر في آيات كثيرات، وأثنى الله -عز وجل- على أهل الصبر، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى-كثيراً من المواضع التي ورد بها الصبر، ونقل عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه قال: إن الله -عز وجل- قد ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً من القرآن الكريم، وعلى حسب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ذكر الصبر في القرآن في أكثر من مائة موضع.
قال ابن القيم -رحمه الله- إنَّ الله ذكرَ الصبر في كتابهِ الكريم على أنواعٍ, كثيرة فمنها: الأمر به كقوله -تعالى-: ((وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))(النحل: من الآية127).
وكقوله -تعالى-: ((وَاصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ))(الطور: من الآية48).
ومنها النهي عما يضاد الصبر وهو الاستعجال، قال -تعالى-: ((وَلا تَستَعجِل لَهُم))(الاحقاف: من الآية35).
وأن يهن المسلم ويضعف ويحزن، قال تعالى : ((وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا))(آل عمران: من الآية139).
ومنها أنَّ الله -عز وجل- علق الفلاح بالصبر، فقال -تعالى-: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ))(آل عمران: 200).
فعق -سبحانه- الفلاح بمجموع هذه الأمور، ومنها أن الله -عز وجل أخبر عن مضاعفة أجر الصابرين على غيرهم كقوله -تعالى-: ((أُولَئِكَ يُؤتَونَ أَجرَهُم مَرَّتَينِ بِمَا صَبَرُوا))(القصص: من الآية54).
وكقوله: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ,))(الزمر: من الآية10).
ومن ذلك الصيام، فإن الصيام نوع من الصبر، فإنه حبسُ النفس، وكفها عما تشتهيه وحبسها على طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك قال الله -تعالى-كما في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنَّهُ لي وأنا أجزي به))(2).
ومنها أيضاً أن الله -عز وجل- ذكر أنَّ الصابرين يظفرون بمعيته الخاصة -سبحانه وتعالى- قال -تعالى-: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))(البقرة: من الآية153).
ومنها أنَّ الله -سبحانه- جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به، فقال -سبحانه-: ((وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ)).
قال ابن القيم -رحمه الله- فمن لا صبر له، لا عون له.ومنها أنَّ الله -سبحانه- علق النصر على الصبر والتقوى، قال -تعالى-: ((بَلَى إِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم رَبٌّكُم بِخَمسَةِ آلافٍ, مِنَ المَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ))(آل عمران: 125).
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((واعلم أن النصر مع الصبر))[3] ومنها أنَّ الله -سبحانه- جعلَ الصبر والتقوى جُنةً عظيمةً من كيد العدو والمكره، فما استجن العبد بجنةٍ, أعظم منهما، قال -تعالى-: ((وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً))(آل عمران: من الآية120).
ومنها أنه -سبحانه- أخبر أن ملائكته تسلم على الصابرين في الجنة قال -تعالى-: ((وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ,، سَلامٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ))(الرعد: 23- 24).
ومنها أنه -سبحانه- جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور، أي مما يُعزم من الأمور التي نرى، يعزم على أجلها وأشرفها، فقال -سبحانه-: ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ))(الشورى: 43).
وقال لقمان لابنه: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأمُر بِالمَعرُوفِ وَانهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ))(لقمان: 17).
ومنها أن الله -سبحانه- وعد المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم وهي كلمته الحسنى، وأخبر أنهم إنما نالوا ذلك بالصبر، فقال -تعالى-: ((وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنَى عَلَى بَنِي إِسرائيلَ بِمَا صَبَرُوا))(لأعراف: من الآية137).
إلى أن قال -رحمه الله-: ومنها أنه -سبحانه- أثنى على عبده أيوب -عليه السلام- بأحسن الثناء على صبره.
فقال: -تعالى-: ((إِنَّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ))(صّ: من الآية44) ومنها أنه -سبحانه- حكم بالخسران حكماً عاماً على من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر، وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال -تعالى-: ((وَالعَصرِ، إِنَّ الإنسان لَفِي خُسرٍ,، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ))(العصر: 1- 3).
ومنها أنَّهُ -سبحانه وتعالى- قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها فقرنه بالصلاة كقوله: ((وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ)).
وقرنه بالأعمال الصالحة، كقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))(هود: من الآية11).
وجعله قرين التقوى، كقوله: ((إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر))(يوسف: من الآية90)) وجعله قرين الشكر، كقوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ, لِكُلِّ صَبَّارٍ, شَكُورٍ,))(إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33).
وجعله قرين الحق لقوله -تعالى-: ((وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ))(العصر: من الآية3) وجعله قرين الرحمة كقوله -تعالى-: ((وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمَرحَمَةِ))(البلد: من الآية17).
وجعله قرين اليقين كقوله: ((لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))(السجدة: من الآية24).
وجعله قرين الصدق كقوله: ((وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ))(الأحزاب: من الآية35).
وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه، وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاَ.