بدايةً، إن الحديث عن الأهداف الإستراتيجية يحتاج إلى رؤية معمقة وقدرة فكرية عالية ومتخصصة في طبيعة الإستراتيجية نفسها؛ لأن صناعة الأهداف الإستراتيجية ليست بالعملية الهينة إطلاقًا وتعد من الأمور التي هي في غاية الصعوبة بمحل؛ بسبب كونها مرتبطة بمصير الأمم والشعوب وبقاء الدول واستمراريتها، وإن التقديرات الخطأ من قبل صانع الهدف أو مكونه قد تودي بالدول إلى مآزق وأزمات حادة وحرجة تجعلها تستنزف كل طاقاتها وإمكانياتها في سبيل تحقيق هذا الهدف أو حتى إبقاء الوضع على ما هو عليه إذا ما تعرض هذا الهدف إلى التقويض والفشل في التنفيذ. وإذا ما أردنا أن نضع عملية صناعة الأهداف في أي مفصل من مفاصل الإستراتيجية، لوضعنا عملية صناعة الأهداف في بطون وحواضن الفكر الإستراتيجي؛ لأن الفكر الإستراتيجي هو المسؤول الأول والرئيسي عن بناء وخلق وتخليق(*) الأهداف من خلال تطوير الأفكار وتقليمها وصوغها في شكل مشاريع ونظريات متعلقة بالبيئة الإستراتيجية، هذا من جانب، أما فيما يخص حقل التحليل والتخطيط والأداء الإستراتيجي فإنها أقرب إلى عملية تقييم وتقويم الأهداف أكثر من صناعتها وتكوينها، وهذا لا يعني أننا ننفي أهمية هذه الحقول، بل على العكس من ذلك تعد هذه الحقول -وكما يعلم الجميع- أسس العملية الإستراتيجية وأهم مراحلها .
وبذلك يمكننا أن نضع تعريفًا خاصًا بنا حول الأهداف الإستراتيجية يكون بمثابة مدخل تحليلي لهذا الطرح حول عملية صنع الأهداف الإستراتيجية، حيث يمكننا أن نقول أن الأهداف الإستراتيجية هي: النتائج المرغوب تحقيها في فترة زمنية بعيدة تتجاوز 25 سنة مصحوبة برغبات ونوايا تسعى لتوظيف الإمكانيات والقدرات المتاحة وغير المتاحة للوصول إلى النتائج المطلوبة عبر خطوات محددة مسبقًا. إذن نحن هنا بصدد الحديث عن الأهداف الإستراتيجية والتي تعني بُعد مداها الزمني، ولا أقصد الأهداف المرحلية التكتيكية ولا الأهداف المتوسطة وقصيرة المدى، على الرغم من أنها تعد جزءًا لا يتجزأ ولا يمكن فصله عن الهدف الإستراتيجي بوصف أن هذه المرحلة تعد أساسية ومهمة للغاية في مراحل الهدف الإستراتيجي، إلا أن الحديث سوف يخصص للهدف الإستراتيجي بعيد المدى والمعروف بأن الهدف بعيد المدى هو الذي تتجاوز مدته 25 سنة، ويعد جوهر الإستراتيجية؛ لأنه يوصل الدول -إذا ما نجح الهدف الإستراتيجي- إلى أعتاب الغايات، ولا أقول الغايات النهائية؛ لأن الإستراتيجية ليس لها نهاية أبدًا، والتي هي أشمل وأعم وأوسع من الأهداف الإستراتيجية نفسها.
(**) ومن الأمور المسلم بها وهي حقيقة من الحقائق الثابتة في حقل الإستراتيجية، أنها تعمل- أي الإستراتيجية- على تحقيق أهدافها التي وجدت أصلًا لأجلها من خلال توظيفها الكامل لكافة الموارد المتاحة للدولة عبر عملية قياس وتمحيص يقوم بها المفكر الإستراتيجي للبيئة الداخلية والخارجية وبيئة الهدف، ومقاربتها مع الإمكانيات المحتاجة للهدف الإستراتيجي بحيث يعطي المفكر الإستراتيجي لنفسه أولًا تقريرًا كاملًا عن البيئة الإستراتيجية وما لها وما عليها، ومن ثم يقدم تقريره الإستراتيجي التحليلي للجهة المعنية بهذا الهدف، دولة على سبيل المثال، أو منظمة، أو حلف، أو شركة عابرة للقارات،… إلخ . وتدخل عملية صناعة وتكوين الأهداف في العديد من المراحل المهمة والتي تعد في صميم العمل الإستراتيجي، حيث يتم بدايةً اختيار نوع الهدف المراد صناعته وتحديد معالمه الأولى والخطوط العريضة له، كأن يكون هدفًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا على سبيل المثال لا الحصر، ومن ثم يتم وضع تقديرات -وليس تأكيدات- أولية لطبيعة الهدف ومتطلباته ومدته التقديرية التي من الممكن أن يستغرقها الهدف الإستراتيجي وهي عادةً ما تتجاوز 25 سنة أو أكثر، حسب ظروف البيئة الإستراتيجية المحيطة بالهدف. على هذا الأساس تبنى اللبنات الأولى للهدف الإستراتيجي داخل بوتقات عقل وذهن المفكر الإستراتيجي، ومن ثم يعمل هذا المفكر الإستراتيجي على قياس صلاحية الهدف ومدى توافقه مع البيئة المحيطة داخليًا وخارجيًّا، بحيث يستطيع المفكر الإستراتيجي أن يعطي مخططًا بيانيّا نظريًّا لمسار الهدف الذي سوف يسلكه خلال عملية التنفيذ، بحيث يمكنه أن يوضح أن الهدف سوف يمر بالخطوة (أ) وبعد انتهائه من الخطوة (أ) ينتقل إلى الخطوة (ب) ومن ثم (ج) و (د) وإلى تحقيق الغاية النهائية للهدف، وتتم هذه العملية بعد الاطلاع الكامل والدقيق على طبيعة الإمكانيات المتاحة للدولة، وتحليل الدولة تحليلًا إستراتيجيًّا دقيقًا، ومعرفة قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية وطبيعة القوى الاجتماعية والتماسك الداخلي والموارد البشرية والموقع الجغرافي وطبيعة العلاقات الإقليمية والهيكلية الدولية القائمة وطبيعة القوى الفاعلة في النظام الدولي، وكل هذه الأمور تتوخى المعلومة الدقيقة والصحيحة، وكذلك التدفق المستمر لها والذي يعد من أهم الأمور التي تدخل في صميم عملية التقويم الإستراتيجي للهدف.
إن صناعة الأهداف تتم من قبل المفكرين الإستراتيجيين أو مجموعة منظمة من المفكرين -مراكز الفكر الإستراتيجي على سبيل المثال- تعمل على تطوير فكرة معينة تتولد لديهم وتخضع هذه الفكرة لعمليات معالجة واختبارات ذهنية كثيرة في عقل المفكر الإستراتيجي، بحيث لا تخرج هذا الفكرة إلا بعد اقتناعه بأن هذا الهدف الإستراتيجي يمكن أن يتم وفقًا لعملية قياسية قام بها المفكر في بيئة الهدف المراد تنفيذه بها. وتعمل هذا المراكز الفكرية في الدول المتقدمة بشكل واسع وكبير ومؤثر بحيث ترفد مراكز الفكر الإستراتيجي صناع القرار بكافة المشاريع التي يأخذها صانع القرار على عاتقه ويتبناها ويقوم بتنفيذها تحت إشراف هذه المراكز، حيث لا تنتهي مهمة المفكرين الإستراتيجيين في وضع الهدف موضع التنفيذ من قبل صانع القرار، ولكن تعمل هذا المراكز بمفكريها على متابعة ومراقبة الخطوات التي يخطوها الهدف تجاه الغاية النهائية له. وهذه العملية تتم لأن الأهداف الإستراتيجية كما قلنا وكما يعلم الجميع هي بعيدة المدى، وأنها توضع في فترة معينة وتأخذ بعين الاعتبار الظروف الراهنة لعملية وضع الهدف أي ظروف وفترة وضع الهدف، وأيضًا يأخذ بالحسبان تطور ظروف البيئة الإستراتيجية بشكل مفاجئ وغير متوقع من خلال رؤية مستقبلية استشرافية للبيئة التي يوجَّه نحوها الهدف الإستراتيجي. الأمر الذي يلزم المفكر الإستراتيجي أن يقوم بعملية متابعة الهدف، في حال لم يقع أي تغيير في الظروف البيئية المحيطة بحيث يكون لدى المفكر الإستراتيجي خياران أساسيان في أجندته الفكرية -ثالثهما فشل الهدف- هما: إما أن يوقف العمل بالهدف مؤقتًا نتيجة لظروف طارئة وغير متوقعة للبيئة الإستراتيجية للهدف، ومن ثم يعيد العمل به بعد استقرار البيئة الإستراتيجية، كتوقف هدف إستراتيجي ما للطرف (أ) نتيجة حدوث حرب بين الطرفين (ب) و (ج) الأمر الذي يعرقل مسار الهدف ويزيد من فرص فشله، ويذلك فإن أهم خطوة يقوم بها المفكر الإستراتيجي هو الإيعاز لصانع القرار بإيقاف مؤقت لعملية تنفيذ الهدف إلى حين ثبات واستقرار البيئة الموجه نحوها الهدف، أو أن يقوم بتعديل مسار الهدف الإستراتيجي لكي يأخذ مسارًا جديدًا وهذا من أصعب الأمور التي يواجهها المفكر الإستراتيجي؛ لأنها تجعله يعيد النظر في المنظومة الفكرية للهدف لكي يستطيع أن ينقذ الهدف من عملية التشظي التي من الممكن أن تصيب الهدف.
إن الأهداف الناجحة هي التي تُصنع نتيجة لقوة الدولة وقدراتها وإمكانياتها من كل النواحي، وبالتالي تجعل من الهدف ذا كفاءة عالية ومردود قيم، لأن قدرات الدول وإمكانياتها هي التي تؤهلها لكي تصنع لها أهدافًا بحجمها إذا ما توفر لديها فكرًا إستراتيجيًّا ناجحًا وقدرة تخطيطية تفصل وتجزّئ مراحل تنفيذ الهدف إلى خطوات محددة، أي أن كل هدف إستراتيجي يصنع ينبغي على صانعه -المفكر الإستراتيجي أو مراكز التفكير- أن يأخذ بنظر الاعتبار حجم الدولة وإمكانياتها وقدرتها؛ لكيلا يتعرض هذا الهدف للفشل والانحراف نتيجةً لوجود فجوة إستراتيجية بين الموارد المتاحة والهدف المراد تحقيقه، بحيث يصبح الهدف عبئًا ثقيلًا جدّا وهمًّا كبيرًا على عاتق الدولة، وبالتالي يحجم قدراتها ويؤدي إلى استنزاف مواردها وطاقاتها ويجعل من أدائها الإستراتيجي مصابًا بترهل كبير، لهذا يتوخى صناع الأهداف الإستراتيجية عملية تحليل الإستراتيجي للبيئة التي يتم من خلالها قياس البيئة بكافة جوانبها داخليًّا وخارجيًّا.
بذلك يمكننا أن نقول أن هناك أهداف إستراتيجية تصنع وتوجه نحو الداخل (داخل حدود ومنظومة الدولة)، وهناك أهداف تصنع وتكون لتوجّه إلى خارج حدود الدولة (أي إلى المحيط الخارجي)، وقدر تعلق الأمر بالأهداف الداخلية، يمكننا أن نقول أن صناعة الأهداف الإستراتيجية الداخلية تكون أنسب وأسهل نسبيًّا ويكون فيها سهولة في التنفيذ والتقييم والتقويم ولقياس؛ لأنها موجهة نحو بيئة إستراتيجية مسيطر عليها في أغلب الأحوال نسبيًّا، وأن حدوث تغيير في هذه البيئة يكون تحت السيطرة ولا يؤدي إلى تشكيل خطر كبير على طبيعة الهدف الإستراتيجي، وكذلك أن يكون صانع الهدف الإستراتيجي ملمًّا أكثر ببيئته الداخلية وعارفًا بالكثير من نقاط ضعفها وقوتها، وبفرصها وتهديداتها؛ لأن المفكر الإستراتيجي هنا يكون ابن بيئته وعالمًا ودارسًا لها، وبالتالي يرسم معالم هدفه الداخلي نتيجة لمعطيات فكرية قدر ترسخت في مخيلاته الفكرية نتيجة لاحتكاكه المباشر بطبيعة البيئة الداخلية. أما فيما يتعلق بصناعة الأهداف الخارجية والتي تبتغي أن تحقق مكاسبًا وأرباحًا خارج حدود المنظومة الداخلية ويكون الفعل الإستراتيجي للهدف هنا موجهًا نحو الخارج، حيث تكون ذات صعوبة؛ لأن هذه الأهداف موجهة نحو بيئة غير مستقرة وفي حالة تغير مستمر وسريع، مما يتطلب من المفكر الإستراتيجي أن يقيس جميع عوامل ومتغيرات البيئة الخارجية وما تحويه من خطورة وفرص وتهديدات، وتشخيصه لمواطن القوة والضعف فيها، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن المفكر الإستراتيجي في عملية صناعته للهدف الخارجي يتعامل ويتفاعل مع الكثير من المتغيرات والعوامل كالدول والمنظمات وغيرها من الوحدات الدولية التي لديها في المقابل أهدافها الخاصة والتي تريد أن تحققها أيضًا، فيكون من الصعب في مكان أن تستوعب البيئة الدولية أهدافًا كثيرة تريد جميعها أن تنجح في ظل تنافس وصراع دوليّ شديد، وذلك على عكس البيئة الداخلية التي يتفاعل فيها الهدف الإستراتيجي مع عدد أقل من العوامل والمتغيرات التي لا تضع الهدف في مراحل حرجة تجعل من عملية إنجازه أمرًا في غاية الصعوبة كما هو الحال مع الأهداف الخارجية.
وينبغي أن نذكر أخيرًا بأن أدوات تحقيق الهدف الإستراتيجي داخليًّا وخارجيًّا من الممكن أن تتشابه في آلية العمل، حيث أن الأداة السياسية تعمل في الداخل والخارج وكذلك الأداة الاقتصادية، وحتى العسكرية من الممكن جدًّا أن تستخدم داخليًّا وخارجيًّا، هذا ناهيك عن باقي الأدوات الأخرى كالأداة التكنولوجية والأداة الثقافية والاجتماعية.
الهوامش:
(*) الخلق لله وحده لا شريك له ولكن استخدمنا هذه العبارة لغرض التعبير المجازي فقط.
(**) إن الهدف يختلف عن الغاية حيث تكون الغاية أشمل وأعم وأوسع من الهدف، بمعنى أن الهدف هو مرحلة تسبق الوصول إلى الغاية النهائية، وعلى سبيل المثال فإن هناك طالب هدفه النجاح وغايته التفوق، وهنا نلاحظ الفرق الكبير بين النجاح والتفوق، والمثال هنا لغرض التوضيح لا غير.
أن يكون صانع الهدف الإستراتيجي ملمًّا أكثر ببيئته الداخلية
وعارفًا بالكثير من نقاط ضعفها وقوتها، وبفرصها وتهديداتها
الخبرة و الزمن كفيلان بترتيب كثير من الفوضى و الاندفاعية المفرطة
الميدان يحتاج الى نظر عميق و مسح شامل للمتغيرات
شكرا جيلا ………
تحيتي ………..