تخطى إلى المحتوى

في رحاب أحاديث الصوم . 2024.


# الصيام عبادة من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو دأب الصالحين وشعار المتقين، يزكّي النفس ويهذّب الخُلُق، وهو مدرسة التقوى ودار الهدى، من دخله بنية صادقة واتباع صحيح خرج منه بشهادة الاستقامة، وكان من الناجين في الدنيا والآخرة.

وعليه فلا غَرو أن ترد في فضله أحاديث كثيرة تبين آثاره وعظيم أجره، وما أعده الله لأهله، وتحثّ المسلم على الاستكثار منه، وتهوِّن عليه ما قد يجده من عناء ومشقة في أدائه.

ومن تلك الأحاديث ما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) متفق عليه وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: (باعَد).

في رحاب الحديث

– هذا الحديث فيه ترغيب في الإكثار من الصيام، لأن (مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله) أي طاعة لله، وابتغاء وجهه، ورجاء مثوبته ، فإن الله تعالى يجازيه على هذا الصيام بأن يباعد بينه وبين النار سبعين سنة (بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) قال الإمام النووي: "معناه المباعدة عن النار والمعافاة منها، والخريف السنة، والمراد سبعين سنة"، ومُقتضى ذلك: الأمن مِن سَماع حسيسها، والنجاة منها ومِن دُخولها.

– وهذا الثواب العظيم يفوز به من صام يوما مخلصاً لله جل وعلا، سواء كان هذا اليوم الذي صامه من الأيام التي رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامها على وجه الخصوص كالإثنين والخميس وعاشوراء، أم كان من غيرها من أيام السنة، إلا أن الأيام التي رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها لها فضل خاص بها، فهي أولى بالصيام من غيرها، فصيام الخميس والاثنين وعاشوراء هو صيام في سبيل الله، وصيام أي يوم آخر من الأيام بقصد طاعة الله هو في سبيل الله أيضاً.

– أقوال الأئمة شراح الحديث في المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم (في سبيل الله): قال صاحب حاشية السندي على النسائي: "قوله (فِي سَبِيل الله) يحتمل أن المراد مجرد إصلاح النية، ويحتمل أن المراد به أنه صام حال كونه غازيا، والثاني هو المُتَبَادَر"، وفي حاشية السيوطي: "(مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله) قال في النهاية: سبيل الله عام يقع على كل خالص لله سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أُطلق فهو في الغالب واقعٌ على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصورٌ عليه"، وقال صاحب إحكام الأحكام: "قوله (فِي سَبِيل الله) العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين -أعني عبادة الصوم والجهاد-، ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه، والأول: أقرب إلى العرف"، وفي فيض القدير: "(مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله) أي لله ولوجهه أو في الغزو أو الحج". وهذا الأمر مشهور عند أهل العلم عند إطلاق لفظة (سبيل الله).

– ذكر العلماء في سبب تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بالخريف عن السنة: أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد، فإذا مر الخريف فقد مضت السنة كلها، وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام، كان سائغا بهذا المعنى؛ إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد، ولكن الخريف أولى بذلك; لأنه الفصل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول، لأن الأزهار تبدو في الربيع، والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو نضجها، ووقت الانتفاع بها أكلا وتحصيلا وادخارا في الخريف، وهو المقصود منها، فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره، والله أعلم.

الجيريا


# عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم.

في رحاب الحديث

اشتمل هذا الحديث العظيم -الذي يحتوي على شقٍّ قدسي وشقٍّ نبوي- على جملة من الفوائد، نُجملها فيما يلي:

أولا: خصوصية الصيام عن سائر العبادات (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي) سبب إضافة الصوم إلى الله تعالى أنه لم يُعبد أحدٌ غير الله تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبوداً لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك، وأيضا لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزوة والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، (وأنا أجزي به) بيان لعظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء.

ثانيا: الصيام وقاية وحماية (والصيام جُنّة) الجُنّة: الوقاية والحماية، والمعنى أن الصيام سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، قال ابن العربي: "إنما كان الصوم جُنّة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب) نهي عن الرفث وهو: الكلام الفاحش، وعن الصخب وهو: من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك .

ثالثا: منزلة الصائم (والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) الخُلُوف : تغير رائحة الفم، يقول الإمام ابن عبد البر: "معناه أزكى عند الله وأقرب إليه عنده من ريح المسك"، ويقول الإمام ابن القيم: "من المعلوم أنَّ أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين كما أنَّ رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أنَّ ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم".

رابعا: لماذا يفرح الصائم؟ (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) فرحه عند فطره يكون بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال الصالحة, وبما أباح الله له من الطعام والشراب والنكاح الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم، وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله تعالى مُوَفَّرا كاملا، في وقت هو أحوج ما يكون إليه حين يقال: أين الصائمون؟ ليدخلوا الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم.

خامسا: الصيام مدرسة لتعليم وتدريب الأفراد على عدد من القيم التربوية كما هو الشأن في بقية شعائر الدين، كما أن فى الصيام تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن مفهوم الحريات مقيد بخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، وهذا جهاد شاق يعوّد الصبر والتحمل، ويعلّم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويُعِدُّ الإنسان لمواجهة احتمالات الحياة بحلوها ومرها، وسائر تقلباتها ، ليصل بالنفس إلى أعلى مقاماتها، ويستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة.

سادسا وأخيرا: وقفة مع قول الله عز وجل (الصوم لي وأنا أجزي به): اختلف العلماء في المراد بهذا -مع أن الأعمال كلها لله تعالى وهو الذي يجزي بها- على أقوال:

أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء, كما يقع في غيره.

الثاني: أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وإنها تضعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله, إلا الصيام, فإن الله يثيب عليه بغير تقدير.

الثالث: أنه أحب العبادات إلى الله.

الرابع: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله, وإن كانت البيوت كلها لله.

الخامس: أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله, فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبي: "معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام, فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي".

السادس: أن المعنى كذلك, لكن بالنسبة إلى الملائكة؛ لأن ذلك من صفاتهم.

السابع: أنه خالص لله تعالى, وليس للعبد فيه حظ بخلاف غيره, فإن له فيه حظاً لثناء الناس عليه بعبادته.

الثامن: أن الصيام لم يُعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك.

التاسع: أن جميع العبادات توفّى منها مظالم العباد إلا الصوم.

العاشر: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة, كما لا تكتب سائر أعمال القلوب.

قال الحافظ ابن حجر: "فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة, وأقربها إلى الصواب الأول والثاني, وأقرب منهما الثامن والتاسع"، وبالله التوفيق.

الجيريا

بارك الله فيك

جزاك الله خيرااااااااااااااااا

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة fadi-1530 الجيريا
بارك الله فيك

وفيك بارك الله … وتقبل الله طاعاتك

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم نور الجيريا
جزاك الله خيرااااااااااااااااا

اخت ام نور بارك الله … تقبل الله طاعاتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.