في حكم المسح على الجوربين
السؤال:
انتشر في أوساطِ العامَّةِ إنكارُ المسحِ على الجوربين وادِّعاءُ بطلانِ صلاةِ فاعِلِه بحجَّةِ عَدَمِ ثبوت المسح على الجوارب وعَدَمِ جواز قياسه على الخفَّيْن؛ فهل مِن توجيهٍ وبيانٍ مُفَصَّلٍ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ حُكْمَ المسحِ على الجوربين مَحَلُّ خلافٍ بين أهل العلم:
ـ فمَنْ ذَهَبَ إلى القول بعَدَمِ جوازِ المسحِ على الجوربين غيرِ المجلَّدين عَلَّلَ المنعَ بأنَّ الجورب لا يُسَمَّى خُفًّا فلا يأخذ حُكْمَه؛ ذلك لأنَّ المسح على الخفِّ رخصةٌ بالنصِّ فوَجَبَ الاختصاصُ بما وَرَدَتْ فيه، وهو مذهبُ أبي حنيفة ـ رَجَعَ عنه ـ(١) ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ رحمهم الله.
ـ وذَهَبَ الجمهورُ إلى جوازِ المسح على الجوربين بشرطِ أَنْ يكونا غيرَ رقيقين، وإنما صفيقين ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض(٢)، وعُمْدَتُهم في الاشتراط: القياسُ على الخفِّ المخرَّقِ في عَدَمِ جوازِ المسح عليه مِن جهةٍ، ولأنَّ ـ مِن جهةٍ أخرى ـ كُلَّ ما يُرى منه مَواضِعُ الوضوءِ التي فَرْضُها الغَسْلُ فإنه لا يُمْسَحُ عليه لأنه لا يجوز اجتماعُ غَسْلٍ ومَسْحٍ؛ فغُلِّبَ حكمُ الغَسْلِ وبَطَلَ حكمُ المسح.
ـ أمَّا ما ذَهَبَ إليه أهلُ التحقيق فهو جوازُ المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين أو غيرَ صفيقَيْن ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض، وهو ظاهِرُ مذهب ابنِ حزمٍ، وبه قال ابنُ تيمية والشنقيطيُّ وغيرُهم(٣)، وعُمْدَتُهم في تقريرِ هذا الحكمِ: حديثُ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»(٤)، ولأنه ثَبَتَ المسحُ على الجوربين مِن غيرِ اشتراطٍ عن عددٍ كبيرٍ مِن الصحابة رضي الله عنهم، قال أبو داود: «ومَسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو أُمامةَ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وعمرُو بنُ حُرَيْثٍ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ»(٥)، ولا يُعْلَمُ لهم مِن الصحابةِ رضي الله عنهم فيه مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا وحجَّةً على ما تَقَرَّرَ أصوليًّا(٦)، كما أنه ـ مِن جهةٍ أخرى ـ ثَبَتَ عن بعض الصحابة والتابعين أَنْ لا فَرْقَ بين الجوربين والخفَّيْن في الترخيص، أو هما بِمَثابةِ الخفَّيْن في الحكم، ومِن هذه الآثار:
ـ عن الأزرق بنِ قيسٍ قال: «رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ؛ فَقُلْتُ: «أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟» فَقَالَ: «إِنَّهُمَا خُفَّانِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ»»(٧).
ـ وعن يحيى البَكَّاءِ قال: «سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ»»(٨).
ـ وعَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا [مولى ابنِ عُمَرَ] عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فَقَالَ: «هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ»(٩).
ـ وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ»(١٠).
ولا يخفى أنَّ الجورب هو لباسُ القَدَمِ، سواءٌ كان مصنوعًا مِن القُطن أو الكَتَّان أو الصوف أو غيرِ ذلك، وفي هذه الآثارِ ردٌّ صريحٌ على مَن أَبْطَلَ إلحاقَ الجوربين بالخفَّيْن، علمًا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أهلُ اللغةِ وأَفْقَهُ أهلِ الأرض، ناهيك إذا كان أَمْرُ المسحِ ـ مِن حيث جوازُه ـ مُجْمَعًا عليه في عصرهم رضي الله عنهم.
أمَّا الاحتجاج بأنَّ المسح على الخفِّ ثَبَتَ رخصةً، والرُّخَصُ لا تتعدَّى مَحَلَّها؛ فجوابُه: أنَّ سبب الترخيصِ إنما هو الحاجةُ، وهي موجودةٌ في المسح على الجوربين وغيرِهما ممَّا هو مِن غيرِ الجلد، فضلًا عن أنَّ هذا الاستدلال ـ في حدِّ ذاته ـ مُعارِضٌ للنصِّ والإجماع المتقدِّمَيْن المُثْبِتَيْن لشرعية المسح على الجوربين.
وأمَّا اشتراطُ الجمهور السلامةَ مِن الخَرْق والتشقيقِ ونحوِهما قياسًا على عَدَمِ جوازِ المسح على الخفِّ المخرَّق فإنَّ هذا الشرط مُعارَضٌ بالأصل المقرَّرِ أنَّ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(١١) أوَّلًا، ومُنافٍ ـ ثانيًا ـ للإذن في المسح على الخفَّيْن مطلقًا؛ فكان شاملًا لكُلِّ ما وَقَعَ عليه اسْمُ الخفِّ كما هو ظاهرٌ مِن النصوص الحديثية، ولا يَسَعُ أَنْ يُسْتثنى منه إلَّا بمُسْتَنَدٍ شرعيٍّ وهو مُنْتَفٍ؛ وعليه لا يتمُّ القياسُ صحيحًا لاختلالِ شرطِ «ثبوتِ حكمِ الأصل المَقيسِ عليه»، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ».
ومِنْ جهةٍ ثالثةٍ فإنَّ خِفافَ الصحابةِ رضي الله عنهم لا تخلو مِن كونها مخرَّقةً ومشقَّقةً ومرقَّعةً، وهي السِّمَةُ الظاهرةُ بل الغالبةُ في لباسهم؛ فلو كان الخرقُ يمنع مِن المسح لَبيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ بيانٍ، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ» كما تَقَرَّرَ في القواعد، علمًا بأنَّ مِثْلَ هذه الشروطِ المُرْسَلةِ تُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم المُراعي للتيسير والتوسعةِ برفعِ الحرج والتضييق عن المكلَّفين.
وحريٌّ أَنْ أَخْتِمَ هذه الفتوى بقول الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ: «فبعد ثبوتِ المسح على الجوربين عن الصحابة رضي الله عنهم، أفلا يجوز لنا أَنْ نقول فيمَنْ رَغِبَ عنه ما قاله إبراهيمُ هذا [أي: النَّخَعيُّ] في مَسْحِهم على الخفَّيْن: «فمَن تَرَكَ ذلك رغبةً عنه فإنما هو مِن الشيطان»(١٢)؟»(١٣).
قلت: فإذا كان التركُ رغبةً عنه مِن الشيطان؛ فقَدْ استفحل كيدُه فيمَنْ يُهَوِّلُ في إنكار المسح على الجوربين إلى درجةِ إبطالِ صلاته به، واللهُ المستعانُ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
ا
لجزائر في: ٠٨ ربيع الأوَّل ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ ديسمبر ٢٠١٤م
(١) قال أبو عيسى [الترمذيُّ]: «سمعتُ صالحَ بنَ محمَّدٍ الترمذيَّ قال: سمعتُ أبا مُقاتلٍ السمرقنديَّ يقول: دخلتُ على أبي حنيفةَ في مَرَضِه الذي مات فيه، فدعا بماءٍ فتَوَضَّأَ وعليه جوربان، فمسح عليهما ثمَّ قال: «فَعَلْتُ اليومَ شيئًا لم أكُنْ أَفْعَلُه: مَسَحْتُ على الجوربين وهما غيرُ مُنَعَّلَيْن»» [«سنن الترمذي» (١/ ١٦٩)].
(٢) انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ١٣٦)، «المجموع» للنووي (١/ ٤٩٩)، «الفروع» لابن مُفْلِح (١/ ١٢٨)، «فتح القدير» لابن الهُمَام (١/ ١٥٨).
(٣) انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٢/ ٨٦)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ١٨٤)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ١٦، ١٩).
(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» (١٥٩) باب المسح على الجوربين، والترمذيُّ في «الطهارة» (٩٩) بابٌ في المسح على الجوربين والنعلين، وابنُ ماجه في «الطهارة» (٥٥٩) بابُ ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، مِن حديث المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (١٤٧)
(٥) «سنن أبي داود» (١/ ١١٣).
(٦) انظر مسألةَ قول الصحابيِّ إذا انتشر ولم يُعْلَمْ له مُخالِفٌ في: «المسوَّدة» لآل تيمية (٣٣٥)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ١٤)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ١٢٠)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٢/ ٢١٢، ٤/ ٤٢٢).
(٧) أخرجه الدولابيُّ في «الكُنى والأسماء» (١٠٠٩). وصحَّحه أحمد شاكر [انظر: «سلسلة الآثار الصحيحة» للعبيلان (١٢٠)].
(٨) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٧٨٢)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١٩٩٤). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(٩) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١٩٩٢). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(١٠) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١٩٩١). وسندُه صحيحٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٦٧).
(١١) أخرجه ـ بهذا اللفظِ ـ النسائيُّ في «الطلاق» (٣٤٥١) بابُ خيارِ الأَمَةِ تُعْتَقُ وزوجُها مملوكٌ، وابنُ ماجه في «العتق» (٢٥٢١) باب المكاتب، مِن حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاريُّ في «البيوع» (٢١٦٨) باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ، ومسلمٌ في «العتق» (١٥٠٤)، بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ [عَزَّ وَجَلَّ] فَهُوَ بَاطِلٌ».
(١٢) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (١٨٨٥).
(١٣) تحقيق الألباني لرسالة «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
اخي عبد النور
وحفظ الله الشيخ فركوس
مشكور اخي الكريم
بارك الله فيك و جزاك خيرا. مشكور