تخطى إلى المحتوى

في تأبين الجابري فيلسوف العقل 2024.

في كتاب: الخطاب العربي المعاصر الصادر عام 1981، انتقدني الجابري بعد صدور كتابي بيان من أجل الديمقراطية (1977) قائلا :
"نعم، إن الحاجة إلى بيان من أجل الديمقراطية قائمة فعلا… غير أنه لن يكون لهذا البيان أي مفعول تاريخي، ولن يكون هو نفسه في المستوى المطلوب، ما لم يسبقه، أو على الأقل يرافقه بيان من أجل العقل… العقل العربي بالذات". ص 83
وقصده أن إصلاح العقل هو المبتدأ. فما لم نصلح أداة تفكيرنا لن نستطيع التقدم في معالجة أي قضية من القضايا التي تشغلنا. ومن هنا نظر الجابري إلى مهمته التاريخية على أنها إعادة بناء العقل العربي. وتستدعي إعادة البناء هذه العمل على ثلاث محاور رئيسية، يشكل النجاح فيها شرطا لإطلاق انهضة العربية المنشودة.
الأول التحرر من سيطرة النموذج السلف، مقابل التفكير المستقل وغير المملى من قبل سلطة مرجعية جاهزة تحكم بسبب الهيمنة التاريخية او السياسية، وتعطل المحاكمة العقلية، سواء أكانت سلطة السلف الماضي أو السلف الحاضر. وهذا التحرر لا يعني شيئا آخر سوى تقديم النقد على المحاكاة، والتفكير الحر على منهج قياس الحاضر على الغائب واعتماد القياس الفقهي وتوظيف الايديولوجي للتغطية على النقص المعرفي والتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية. ومن هنا أطلق الجابري أيضا على منهجه الفكري اسم العقلانية النقدية.
والثاني توحيد السلطة المرجعية. فتوحيد المرجعية أو ايجاد سلطة معرفية واحدة بدل السلطتين المرجعيتين المتنافستين لنموذج السلف، والذي لا يمكن التوفيق بينهما، هو شرط قيام وحدة فكرية ،وتجاوز القطيعة نحو التواصل والتفاعل والحوار بين تيارات الرأي العربية التي تنتمي اليوم أو بالأحرى تخضع لإملاء سلطات مرجعية متنافية، هي التي تؤسس لصراعات، الاسلامي والعلماني، الأصولي والليبرالي، القومي والماركسي. وتشكل هذه الوحدة أيضا ضرورة للخروج من الايديولوجيا نحو البحث العلمي والتامل العقلي.
والثالث هو"الاستقلال التاريخي التام". وهذا الاستقلال، الذي يستعير الجابري مفهومه من غرامشي، هو في الواقع الغاية الرئيسية للتحرر من نموذج السلف وتحقيق السلطة المرجعية الواحدة. وليس هدف النقد والتوحيد والتجديد سوى تحقيق هذا الاستقلال. وهنا يظهر العنصر الخصوصوي في فكر الجابري بالمقارنة مع الحداثوية الكونوية السائدة أيضا منذ عصر الأنوار. فهذا الاستقلال التام ضرورة لاستقلال الفكر ولتطوره أيضا وتعقلنه إذا صح التعبير.
لكن كيف يتحقق استقلال الذات العربية التام؟
الجواب في الرد على سؤال آخر:
"ما الذي أفقد ويفقد الذات العربية استقلالها التاريخي التام؟
أنه ال "نحن" و "الآخر". أي النموذجان اللذان يتجاذبان الذات العربية منذ بدء يقظتها الحديثة: النموذج السلف العربي الاسلامي والنموذج السلف الأوروبي. وإذن فسبيل تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية هو التحرر من النموذج السلف المزدوج، أعني التحرر من سلطته (ما) المرجعية".ص 204 . وبعبارة أخرى: سلطة التراث وسلطة الحداثة الكونية.
لا يعني التحرر من هاتين السلطتين إسقاط التراث والحداثة، أو تمني سقوطهما وإنما التحرر من سلطتهما المعرفية، أي ببناء سلطة معرفية جديدة.
التحرر من الغرب يعني التعامل معه نقديا لا رفضه، "أي الدخول مع ثقافته، التي تزداد عالمية، في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها، وأيضا التعرف على أسس تقدمه والعمل على غرسها أو ما يماثلها داخل ثقافتنا وفكرنا…" ص
وكذلك الشأن في التحرر من التراث فهو لا يعني الإلقاء به في المتاحف أو في سلة المهملات وإنما امتلاكه، ومن ثم تحقيقه وتجاوزه. وهذا ما لا يتأتى لنا إلا إذا قمنا بإعادة بنائه بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذي يرد إليه في وعينا تاريخيته ويبرز نسبية مفاهيمه ومقولاته. وكما أبرزنا ذلك في فصول هذا الكتاب، فإنه ما من قضية من قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، إلا وكان الماضي حاضرا فيها ططرف منافس. … لذلك من المستحيل علينا نحن العرب أن نجد طريق المستقبل ما لم نجد طريق الماضي. وبعباررة أخرى لا يمكن للعرب أن يحلوا مشاكل المستقبل إلا إذا حلوا مشاكل الماضي".
من هنا أيضا الحاجة إلى عصر تدوين جديد يتجاوز التدوين الذي البناء الثقافي العربي العام الذي شهدته الثقافة العربية ابتداءا من منتصف القرن الثاني للهجرة. ومنطلق العصر الجديد وأداته الرئيسية نقد سلاح التدوين، أي إعادة بناء العقل، من حيث هو بلورة الخيارات الأساسية في الثقافة والايديولوجية والمعرفة العربية. وهذا ما يلقي الضوء على الكثير من المفاهيم والاشكاليات التي تطرق لها الجابري، كإشكالية الفصل والتمييز بين المعرفي والايديولوجي، ومفهوم السلطة المعرفية، والوحدة المعرفية، وانفصال الفكر عن الواقع، ومنهج قياس الحاضر على الغائب والانغماس في النصوص وعدم إعمال التفكير في الواقع الفعلي.
الآن ماذا تعني النهضة التي هي مطلب مشروع نقد العقل وإعادة بنائه عند الجابري؟
لا ينتقد الجابري الحداثة ولا يعيد النظر فيها. وعلى هذا المستوى يشكل فكره امتدادا لفكر الاصلاحيين الاسلاميين الذين شقوا طريق التفكير في النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر. لكن بعكس هؤلاء لم يبحث الجابري عن التوفيق بين الفكر الاسلامي والفكر العلمي الحديث، ولا سعى إلى ترجمة المفاهيم والمصطلحات الحديثة ترجمة عربية حتى يسهل تمثلها. منذ البداية كان يعتبر أن هناك سلطتين معرفيتين لا يمكن التوفيق بينهما.
ما سعى إليه الجابري هو ما يمكن أن نسميه تأصيل الحداثة أو إعادة اختراعها في الثقافة العربية الاسلامية بدل تقليدها أو نقلها أو نسخها أو رفضها. ومجمل فلسفته يصب في خطاب التأصيل : تأصيل الحداثة من خلال إعادة تشكيل بنية الثقافة العربية التاريخية ذاتها، أي إعادة بناء العقل العربي الذي يستوطن هذه الثقافة من حيث هو عقل حديث أو مساوق للحداثة.
ومن أجل ذلك سعى الجابري إلى القيام بمسح شامل للتراث لتفكيكه وتحليله كما سعى إلى خلخلة العقلية أو الثقافة العربية الساائدة والمشجعة على الركود واالانحطاط. وبعكس العديد من المجددين الذين سبقوه، لم يكتف الجابري بالفرز الآلي بين عناصر هذه الثقافة واختيار ما اعتبره ايجابيا فيها ورمي ما هو سلبي، ولا اعتبر نقد التراث تنقية له من الشوائب، أو نفض الغبار عما خفي من عناصر الجدة فيه، كما لو كانت عناصر النهضة موجودة مسبقا ولا تنتظر إلا من ينفض الغبار عنها. إنما طبق على هذه الثقافة منهجا ديناميكيا حاول من خلاله إعادة تركيبها على توازنات جديدة تتيح لمنهج العقل أن يحتل المكانة الرئيسية فيها، في مقابل وإلى جوار المناهج الأخرى.
فالجابري من جيل نقاد الفكر العربي الذي افتتحه العروي بكتابه الايدولوجية العربية المعاصرة.
لكن الجابري لم يقتصر أو يشأ أن يقتصر على نقد الايديولوجية، ولا على إعادة بناء المفاهيم الحديثة التي دخلت الفكر العربي مع الحداثة وضبط معانيها، وإنما أراد أن يذهب بنقده إلى الأسس المعرفية للثقافة العربية، أي إلى بنياتها العميقة الموروثة من العصر الكلاسيكي والمستمرة في تأثيرها إلى اليوم. وهذا ما دفعه إلى العودة إلى عصر التدوين، والحديث عن عصر تدوين جديد. فكان نقد الجابري نقدا للتراث أولا بهدف إصلاح العلاقة بين التفكير في الواقع والمرجعية المعرفية، الذي يشكل أساس النهضة، وبالتالي ولوج الحداثة والمعاصرة. ونقد التراث على ضوء العقل لم يكن في الواقع سوى إعادة بناء مفهوم العقل ذاته، أو تأسيس عقلانية جديدة لا تقطع مع التراث بقدر ما ترفض نسخه وتقديسه لتبقي الثقافة العربية مفتوحة على المستقبل. فهو بحق فيلسوف العقل في الفكر العربي الحديث.

صاحب المقال: برهان غليون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.