الحمد لله حمد الشاكر على النعمة، الصابر على النقمة والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعثه الله رحمة للعالمين محمد النبي الأمين وبعد..
فإن الشيء المحير للعقول والألباب، المثير في النفس بواعث الدهشة والاستغراب هو انتشار اللغة العربية – لتصبح لغة الدواوين في الأقطار التي فتحها العرب المسلمون في عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من عهود.
والعجيب أن تساير هذه اللغة حركة الفتوح الإسلامية مداً وجزراً وأن تستوعب مختلف الحضارات والثقافات. إلاّ أنها بالرغم من هذه القدرة الخارقة لم تسلم من الحاقدين عليها ومن الخصوم المهاجمين لها والداعين إلى إبادتها وإفنائها. ولكن الله سبحانه وتعالى قد فيض لهذه اللغة من يدافع عنها ويذود عن حماها في كل عصر. وفي كل مصر.
وأن العوامل التي حفظت اللغة العربية في الماضي لا زالت قائمة وستظل قائمة أبد الدهر- إن شاء الله – ومن هذه العوامل:
1- نزول القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم باللغة العربية.
2- سهولة اللغة العربية وثراؤها.
3- الناحية البيانية والجمالية والبلاغية في اللغة العربية.
4- المرونة الكاملة للغة العربية وقدرة المتحدثين بها على التوليد والتخريج والإشتقاق.
5- انتشار مجامع اللغة العربية والهيئات الأخرى المماثلة لها.
6- التراث الحضاري والثقافي التي خلقته اللغة العربية.
7- نمو المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر والجامعات الإسلامية.
8- ظهور الدعوة إلى التضامن الإسلامي وما يحمله نجاح هذه الدعوة من اهتمام بالدين الإسلامي ولغته العربية.
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والدين الحنيف وهي لغة التخاطب والتفاهم بين أجزاء الوطن العربي وهي الأساس الذي بني عليه التراث العربي والأدب الرفيع ولا زالت هذه اللغة تؤدي مهمتها بحيوية وحركة وتقدم منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة وحتى الآن وإلى ما شاء الله بسبب طبيعتها المرنة وبيانها الأخاذ ومفرداتها الغنية وأساليبها المتفاوتة وخلودها في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كان الخليل قد قال في كتاب العين: "إن عـدد أبـنية كـلام العـرب المستعمل والمهمل( 412ر 305 ر12) كلمة "فإن الحسـن الزبيـدي قد ذكـر أن عـدد ألفاظ العربية (400ر 699ر6) لفظاً لا نستعمل منها إلاّ (5630) والباقي مهمل.
فعسى أن أرى هذه الألفاظ العربية المهجورة وما أكثرها إذا قيست بالمستعملة – وقد عادت إلى الحياة العربية والعالمية لتسهم في تعريب المصطلحات العلمية الحديثة وتثري الفكر الإنساني كله بعوامل التقدم والخلود.
اختلطت اللغة العربية – زمن الفتوح الإسلامية – بلغات أخرى في فارس والهند والشام ومصر وجنوب إفريقيا والأندلس لكنها احتفظت دائماً بفصاحتها ووحدتها وكيانها. ولم تكتف بذلك بل أزاحت جل اللغات التي كانت سائدة في تلك الأمصار وحلت محلها. أو نفخت فيها من روحها وطريقة تفكيرها.
ففي مصر حلت اللغة العربية مكان اليونانية والقبطية وفي زمن وجيز بعد الفتح العربي.
وفي الشام أزاحت لغة الضاد اللغة السريانية والكلدانية والنبطية تماماً، بل إن اللغة العربية دخلت إلى أوروبا نفسها حين فتح العرب الأندلس إذ لا يزال في اللغة الأسبانية وفي اللغة البرتغالية بقايا من الكلمات العربية ولم تعدم الإنجليزية والفرنسية والألمانية أثراً من آثار العربية من قريب أو من بعيد كما في كلمة (أدميرال) أي أمير البحر في العربية.
ومما لا جدال فيه أن اللغة العربية تحتل حتى الآن مكانة مرموقة بين اللغات الأخرى باعتبارها أضخم هذه اللغات ثروة وأكثرها أصواتاً وأغناها في المقاطع والحروف والتعبيرات.
وإذا قارنا بين اللغة العربية وبين اللغة الإنجليزية التي تسود الآن في أجزاء كثيرة من المعمورة والتي يدعونها اللغة العالمية الأولى نرى أن عدد أصوات العربية ثمان وعشرون حرفاً لا تكرار فيها بينما عدد أصوات اللغة الإنجليزية تقل بحرفين مع تكرار فيها بارز.
ولا يخفى على الكثيرين ما تتميز به اللغة العربية على غيرها من وجود حروف لأصوات قد لا توجد في غيرها مثال ذلك مخارج الحروف حاء، خاء، ضاد، طاء، ظاء، عين، غين، قاف.
لغتنا العربية، لغة كثيرة المترادفات متنوعة الأساليب والعبارات فيها الحقيقية والمجاز والتصريح والكناية وقد تم لها بحمد الله وبفضل الإسلام أن تتحول من لغة الأشعار إلى لغة الأفكار وأن تصبح لغة الشرع والعلم وأصبحت اللغة التي ترجم منها واليها المؤلفات العلمية والفلسفية والأدبية والتاريخية.
ويمدنا التاريخ بأدلة بينة على تجاوب اللغة العربية مع كل تطور ومسايرتها لكل نهضة ومتابعتها لكل جديد، فبهذه اللغة ترجمت الكتب اليونانية والسريانية واللاتينية وغيرها إلى العربية وبهذه اللغة عربي الآلات والأفكار والآثار اليونانية والرومانية في العصر العباسي.
ولقد صمدت هذه اللغة لكل حملات القضاء عليها سواء حملة التتار على العالم الإسلامي أو حملات الصليبيين على الشرق العربي، أو الفتح العثماني للعالم العربي، وإن كانت بحكم هذه الظروف القاسية والمعارك المستمرة قد انحسرت عن أجزاء من العالم الإسلامي كالهند وفارس وتركيا واستقرت في العالم العربي ولكنها بقيت دائماً كما عرفها جرجي زيدان في كتابه تاريخ أدب اللغة العربية: "إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنى ومعنى واشتقاقاً وتركيباً وهي أرقى لغات العالم".
انتشرت اللغة العربية – أيضاً – شرقي العراق بفارس والتركستان والهند بانتشار الإسلام. وأصبحت لغة العلم والدين عند هذه الشعوب المسلمة. فلا غرو أن كثرت الألفاظ والتراكيب العربية في لغات هذه الأمم.
أما اللغة التركية فقد غزتها الألفاظ العربية بوفرة حتى وصلت حوالي 50 % من مجموع ألفاظ اللغة التركية ولم تسلم اللغة الأردية من غزو العربية لها في كثير من الكلمات كما تفشت الكلمات العربية في لغة التتر والملايو والأفغان والأكراد ولغة السواحل وكلها تكتب بالخط العربي.
وإذا كان الأتراك العثمانيون قد حملوا لواء الدعوة إلى الجامعة الطورانية وعمدوا إلى القضاء على اللغات الحية في محيط الإمبراطورية العثمانية، فإن اللغة العربية قد كافحت عن وجودها وانتصرت في كفاحها وبقيت حية خالدة بعد أن دافعت بعنف عن بقائها وحياتها.
كافحت اللغة العربية بعزيمة لا تعرف الكلل وبهمة لا تعرف الملل، بل كافحت بشراسة عن بقائها أمام حملات الاستعمار الغربي عليها منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي – تلك الحملات التي اتهمت اللغة العربية – زوراً وبهتاناً – بالعجز عن أداء مهمتها إزاء المخترعات الحديثة. وكان رد الفعل العملي في مواجهة هذا الهجوم العاتي والتيار الجارف لو أد اللغة العربية هو ظهور المعاجم العربية في لبنان ومصر، ثم نشأت مجامع اللغة العربية في سوريا ومصر والعراق، ولقد كان للأزهر في مصر وجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب وجمعية العلماء في الجزائر دور هام في هذه المعركة التي انتصرت فيها اللغة العربية – بحمد الله – في النهاية. وقد تعاونت معاهد العلم في النجف وسوريا والحجاز والسودان وليبيا في إحراز هذا النصر. ولقد جرت محاولات جادة لإدخال كلمات جديدة إلى اللغة العربية بالنحت أو بالاشتقاق أو بالترجمة أو بالتعريب.
وإذا كان خصوم اللغة العربية قد حملوا ذات يوم لواء الدعوة إلى (العامية) أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية) فإن دعواهم وهي الأخرى قد فشلت فشلاً ذريعاً.
ولقد جرت دعوة أو دعوات لحث المسلمين على استعمال لغة واحدة بينهم. وأي لغة أصلح لذلك غير اللغة العربية التي هي لغة الدين الإسلامي، الذي يوجد بين البشر جميعاً، والذي من تعاليمه تلاوة القرآن في الصلاة باللغة العربية وهذا يحتم أن تكون العربية لغة المسلمين، في كل مكان من بقاع المعمورة.
يقول أرنست رينان في كتابه تاريخ اللغات السامية: "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب فهمه انتشار العربية. إذ أن هذه اللغة كانت مجهولة في البداية وبدأت تكتمل للغاية فجأة بسلاسة وغنى ظاهرين"، كما وصفها أيضاً بالكمال وبأنها ظهرت تامة مستحكمة.
واستطرد يقول: "إنه لم يمض على فتح العرب للأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة لترجمة صلواتهم بالعربية ليفهمها أتباع المسيح".
ويقول مارجليوث: "اللغة العربية حياتها حقيقية، وهي إحدى لغات ثلاث سادت العالم الإنجليزية والإسبانية والعربية وتربو عليهما لأن بدايتها أقدم من كل تاريخ".
وإني أرى أن لغتنا العربية ليست أغنى لغات العالم فقط بل إن من دونوا كتبهم بها لا يقعون تحت حصر والعربية الفصحى ليست لغة ميتة كما قد يزعم بعض المستشرقين ولكنها حية بكل ما في الحياة من قوة ومعنى وليست اللهجات العامية في الأمصار العربية بلغات خاصة فهي لا تغنى عن الفصحى التي هي لغة القرآن ولغة الصلاة ولغة الكتابة في كل علم وفن.
وإذا قدر للعربية أن تعاود امتدادها في الأقطار الإسلامية باعتبارها لغة القرآن والصلاة فمما لا جدال أنها ستنتصر على الإنجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية التي ساعد الاستعمار على نشرها في أنحاء متباينة من المعمورة.
وقد سادت اللغة التركية منطقة العالم العربي قرنين ونصف من الزمن ومع ذلك لم تستطع القضاء على اللغة العربية أو إضعاف مكانتها ويرجع ذلك فيما يرجع إلى لين العربية ومرونتها وتكيفها مع كل الظروف.
ولا جدال في أن اللغة العربية من أعظم الينابيع التي يغترف منها العالم ثقافة وحضارة وعقيدة وتاريخاً. ويزداد عدد المتكلمين بها يوماً بعد يوم وتتسع دائرة انتشارها فهي لغة التخاطب في زنجبار وتنجانيقا وفي بلاد بعيدة كجزر الملايو، بل تدرس بكثير من المعاهد في أوربا نفسها في لندن وباريس وبرلين وليدن وغيرها.
إذ كيف لا يكون للغتنا العربية هذا السحر وهي لغة الوحي ولغة أهل الجنة وهي من اللغات البارزة في العالم وإحدى أهم الوسائل الأساسية للثقافة في العصر الوسيط ولم تزل هذه اللغة إلى اليوم أجمل لغة في الوجود وأغني لغات العالم في مفرداتها ووفرة أساليبها وقابليتها للنمو والزيادة، فالاشتقاق إحدى مميزاتها التي تمكنها من خلق صيغ جديدة من جذور قديمة كلما كان هناك حاجة لذلك. ولما كان هذا القياس يجري على نظام معين فإن القارئ يفهم بيسر وسهولة ما يمر عليه من صيغ جديدة بالقرينة والسليقة. ولعل الأمر ليس كذلك في الكلمات التي في اللغة العبرية بل وغيرها.
ولا عجب فإن العربية ثبتت على عادبات الزمان واحتفظت بكيانها في حين أن اليونانية واللاتينية والسكسونية وغيرها قد تشعبت بمرور الزمن فنشأت عنها لغات أخرى متباينة.
واللغة العربية تقوم على قواعد دقيقة تحدد الشكل الخارجي للكلمات والصيغة الظاهرة ولكن روح هذه اللغة متجددة باستمرار فلا غرابة أن تمتاز عن سائر اللغات وتتفوق عليها.
ويقول أحد المستشرقين النمساويين أن سبب اهتمام الأوربيون باللغة العربية هو الدعاية الدينية ابتداء من الحروب الصليبية.
ولعل المتتبع للألفاظ العربية عند دراسته للغة أخرى من اللغات يجدها بارزة ظاهرة في كل لغات أوربا بشكل ما. فهي ذات أثر في الأسبانية والبرتغالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية بل والهولندية والإسكندنافية والروسية والبولوندية والإيطالية. وقد عثر الباحثون في جهات البلطيق في أوربا على مسكوكات عربية إسلامية يبدو أنها من آثار تجار العرب المسلمين الذين وصلوا إلى تلك المناطق.
وإذا كان من المستشرقين من يهاجم العربية ويرى أنها لغة شائقة ولكنها شاقة جداً على من يريد أن يتعلمها وأن نطق هذه اللغة يمثل صعوبة كبرى للأوربي خاصة بل منهم من يبالغ فيراها لغزاً. إلا أن الحقيقة التي لا جدال عليها ولا اختلاف هي أن اللغة العربية آية للتعبير عن الأفكار وهي مرتبطة بتاريخ العرب المجيد والإسلام الباقي إلى الأبد.
وليس قصور الأداء في اللغة العربية بالنسبة للمخترعات الحديثة عيباً في اللغة العربية ذاتها وإنما العيب في أصحاب العربية الذين وقفوا بها حيث تركها الأولون. كما وأن اللغة التي لم تقتبس من لغات أخرى كلمات ومفردات لا وجود لها مطلقاً فيما هو شائع من لغات عالمية.
جزاك الله خيرا على الموضوع