ظاهرة الغزل العذري
بنو عذرة :
إحدى قبائل العرب الشهيرة، في التاريخ العربي ، عاصرت ما قبل الإسلام واستمرت إلى اليوم ممثلة في بطونها التي تمتد في شمال الحجاز وسوريا وفلسطين الأردن ومصر والسودان. وإليها ينتسب طائفة من فحول الشعراء العرب أشهرهم جميل بثينة ، وقيس لبنى ، وكثير عزة ، … وغيرهم . وعرفت بالحب والغزل العفيف الذي أطلق عليه الحب والغزل العذري:
تعريفه
هو وصف فيه معنيان، فهو نسبة إلى قبيلة عذرة التي اشتهرت به، وأيضا وصف لهذا النمط من الشعر بالعذرية، أي العفة والبعد عن الأوصاف الحسية _الغزل الفاحش! . والغزل العذري هو فن شعري تشيع فيه حرارة العاطفة التي تصور خلجات النفس وفرحة اللقاء وآلام الفراق، ويحفل بوصف جاذبية المحبوبة وسحرها ونظرتها وقوة أسرها، ولا يتجاوز ذلك. ويقتصر فيه الشاعر على محبوبة واحدة ردحا من حياته أو طوال حياته. وسمي عذريا لأن أول من اشتهر به من قبائل العرب هم بنو عذرة، ثم أصبح الغزل العذري بعد ذلك فنا ينطبق على كل من نهج نهجهم وذ والغزل العذري هو غزل طاهر عفيف يصور فيه الشاعر مكابدة العشق وألم البعد عن الحبيبة ، ولا يحفل فيه بجمال المرأة الجسدي بقدر ما يحفل بقوة أسرها وجاذبيتها ، ويقتصر فيه على محبوبة واحدة يخلص لها طوال حياته. هو حب خال من الجنس لأنه حرم المتعة الجسدية! ، وهو عاطفة صادقة لأنه يدوم ويستمر ويبقى بالرغم من الحرمان والجوى والفراق القاتل . هو ذاك الحب الذي يتسامى فيه صاحبه لأنه يحرص على القيم الإنسانية والمثل العليا ولا يقف عند مجرد الحسرة والندم على الحرمان فالحب العذري هو حب جارف قوي عارم ؛ فهو حب لا يلتقي فيه الحبيبان مما يجعل صاحبه يقاسي أشد أيام حياته فليله نهاره ونهاره عذاب وقد نشأ الحب العذري في بادية الحجاز بعد الإسلام ، واتضحت سماته في عهد الأمويين هب مذهبهم، وعبر عن أحاسيسه وعاطفته تعبير الشعراء العذريين.
عرف الغزل العذري منذ الجاهلية، إلا أنه تميز تميزا ظاهرا في صدر الإسلام، وفي عهد بني أمية،حيث أصبح مدرسة شعرية قائمة بذاتها، حين انقسم شعر الغزل إلى اتجاهين: عذري وصريح . وقد انتشر الغزل العذري في بادية الحجاز حيث يقيم بنو عذرة، وفي عالية نجد حيث تقيم القبائل الحجازية النجدية. وقد كانت ظروف المعيشة والواقع الإسلامي من أسباب انتشار الغزل العذري في بيئات البادية التي تحولت في هذا العصر إلى حياة جديدة في قيمها ومثلها ومعارفها فحافظت على الطهر والنقاء.
كان شعراء الغزل العذري في وضع اجتماعي أقرب ما يكون إلى الكفاف والقناعة؛ إذ لم يحسنوا التكيف السريع مع مستجدات الأحداث، ولم يستطيعوا البقاء على حياة الجاهلية الأولى التي كانوا يعيشونها قبيل الإسلام. وعندما انتقلت قوة القبائل وشوكتها إلى الأمصار وانتقل جل شبابها مع الفاتحين، لم يبق في بادية الحجاز غير أولئك الذين لم يستطيعوا ترك بلادهم وأهلهم. وقد تأثروا بالإسلام وطبعت حياتهم الجديدة بشيء غير قليل من التغير؛ فعبروا عنه بالزهد في الحياة وملذاتها، ووجدوا في الشعر تعويضا عن مطامح الدنيا التي لم يستطيعوا مواجهتها، كما وجدوا قبولا لدى الناس لهذا الفن، عوضهم عما فقدوه في واقعهم الاجتماعي.
للشعر العذري عناصر مشتركة حافظ عليها الشعراء ولم يتخلوا عنها، وهي وصف حدة الهجران والحرمان، ومعاناة الصبر، وتأجج نار الحب، و(احترام العلاقة بين العاشقين)!، والأخذ بالعفة والرضا بالعلاقة الطاهرة وإذا كان الغزل العذري استجابة لظروف بيئية، واتباعا لعادات وأعراف اجتماعية ساعدت على نموه في نفوس الناس؛ فإنه قد اتخذ العاطفة الصادقة سبيلا لشرح العلاقة بالطرف الآخر، فقويت بواعثه في نفوس بعض الشعراء حتى أثمرت العلاقة الطاهرة التي تستجيب لفطرة الإنسان وتحترمها. لا يتخذ الغزل العذري مظهرا واحدا عند المحبين جميعا فهو هادئ عند بعضهم، ثائر عند آخرين!، يلامس بعض النفوس فتقوى لديها عاطفة الحب حتى تستبد بالشاعر، فيصف لواعج الحب ولهيب الجوى الذي يكتوي به قلبه، وهو عنها راض ليعيش في حب دائم لا ينقطع، وإن انقطعت أسبابه من الطرف الآخر، حتى يصير شعره أنينا وتضرعا، ولكنه لا يجد راحة ولا ييأس من وصل المعشوقة على كل حال..
نشأته
ينسب هذا اللون من الغزل إلى بني عذرة الذين كانوا يسكنون بوادي القرى شمال المدينة المنورة ويروي أن أحدهم سأل أعرابيا ، ممن الفتى ؟ قال من قوم إذا عشقوا ماتوا ، قال عذري ورب الكعبة فمم ذا كقال الأعرابي : في نسائنا صباحة ، وفي فتياننا عفة . وقد ترددت أخبار عشقهم ،فوصفوا بأنهم أشد خلق الله عشقا ، فكانوا مضرب الأمثال في شدة الحب وصدقه ، وقد جمعوا إلى رقة القلوب شدة العشق عفافا وتحرجا من المآثم . لكن هذا الحب العذري لم يكن مقصورا على بني عذرة ، فقد شاع أيضا في بعض القبائل ومنها بنو عامر الذين سكنوا في أطراف نجد وظهر فيهم مجنون ليلى( قيس بن الملوح ) ، ترجع بدايات هذا الغزل إلى العصر الجاهلي فمن لا يذكر قصة حب عنترة وعبلة التي قال فيها من ضمن ما قال :
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمى صباحا دار عبلة واسلمي
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
ولكنه ترعرع في هذا العصر حين طرأت على المجتمع الإسلامي في الحجاز عوامل اجتماعية وسياسية .. فقد شاع في حواضر الحجاز الغنى والترف واللهو ، بينما أهل البادية الحجازية فقراء لم يتح لهم اللهو ، وقد انقطعوا عن حياتهم الجاهلية وتأثروا بالإسلام وبالقرآن خاصة فنشأ في نفوسهم شيء من التقوى. فأدى بهم إلى شيء من ((المثل الأعلى)).. في الحياة الخلقية؛ وظهر بينهم الزهد، والغزل العفيف بعيـدا عن ألوان الفساد . وكان من نتيجة التحول في الحياة أن ظهر شعراء لا يصفون الملذات وإنما يتصدون إلى وصف العواطف الحارة الصادقة التي تعذب صاحبها دون أن تتيح له لذة مادية حسية وإنما اللذة الوحيدة التي يجنيها هي) لذة الألم في الحب) ولوعة الاشتياق إلى المحبوبة ولهذا اللون من الغزل جذور في العصر الجاهلي ولكنه أصبح فنا مستقلا في العصر الأموي بالرغم من أن غزل العذريين من الجاهليين فيه ما في غزل العذريين من الأمويين من صدق العاطفة وحرارتها ، والاقتصار على محبوبة واحدة والاهتمام بجمال المرأة المعنوي أكثر من العناية بجمالها الجسدي .. وتنقل الشاعر في تعبيره عن حبه بين شوقه وألمه وصد المحبوب ووصاله والأمل في هذا الحب واليأس من الوصول إلى الحبيب ويذكرون أن الفتيان كثيرا ما كانوا يخالطون قريباتهم وبنات أعمامهم أو كانوا ينشؤون معا في بيت واحد فإذا كبر الفتى ونضجت الفتاة تحابا كما أحب ( عروة بن حزام (عفراء) ؛ والمرقش الأكبر ابنة عمه ( أسماء) .
مضامين الغزل العذري :
إن الموضوع الذي يستغرق شعر الشاعر العذري ، هو البحث عن المرأة الوحيدة المعشوقة دون أن تصل إليها وان يطلبها الشاعر فلا يحصل منها إلا على طيف الزيارة ، وبعض الحديث ، فتثور في نفسه مكامن اللوعة والحسرة، وتخرج زفرات الحب من تلك النفس حارة صادقة ، فيفرغها في هذا الشعر الذي نجده عند عامة الشعراء العذريين حزينا باكيا. ويعتمد هذا الشعر على تصوير الآم البعد، وعذاب الفراق ، ولوعة المكابدة ، وحرارة الحرمان من غير طائل وقد يصل الأمر بالشاعر أن يكتفي من المحبوبة بالنظرة العاجلة أو الوعد الكاذب، فالشاعر يرضى من حبيبته أن تقول له ( لا ) إذا دعاها للقاء أو أن تعده ولا تفي بهذا الوعد ، أو أن تؤمله ثم تخيب ذلك الأمل فإذا يئس من لقائها اكتفى بنظرة سريعة إليها لعل تلك النظرة تطفئ ما في فؤاده من لوعة الوجد ، ثم إنا نرى هذا الشاعر يبلغ به اليأس حدا يدفعه إلى الاكتفاء برؤية صاحبته مرة واحدة في الحول ، وقلما يكون هذا إذا حالت دون ذلك ظروف أو اعترضت سبيله عقبات . ولنا هنا أن نتصور ما يعانيه هذا الشاعر وأمثاله من الشعراء العذريين المعذبين الذين ملأ عليهم عشقهم ليلهم ونهارهم فهم في مكابدة دائمة ما دامت قلوبهم تنبض بالحياة لا يهدؤون ولا يستقرون .وقد عاش هذا الحب قيس ابن الملوح وليلي وقد نجد قصيدة المؤنسة هي القصيدة الأكثر شيوعا في حياة قيس ؛ فقد كان يرددها دائما ، وكانت تؤنسه في خلوته عندما كان يهيم بها . وهي قصيدة طويلة جدا نأخذ منها بعض المقتطفات ، حيث يقول فيها :
ألا يا حمام العراق أعنني على شجي وابكين مثل بكائيا
يقولون ليلى في العراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ولا يذكر الحب في شعرنا العربي إلا ويذكر مع مجنون ليلى هذا الاسم (الأسطورة)!! ، الذي صار علما على نوع من الحب هو الحب العذري .وتحرم ليلي على قيس وتجبر على الزواج من غيره ولا يحتمل قيس وقع الكارثة ، فيهيم على وجهه ويختبل عقله وتدركه المنية وهو علي هذا الحال ..شاردا ذاهل اللب فيما يشبه الجنون . ومن هذا الشاعر نتعرف على ارقي نماذج الحب العذري واصفها وأصدقها وترا وأشدها حرارة ، وهو شعر يمتلئ بشكاوي النفس وما يلاقيه المحب المتيم من تباريح الوجد وقسوة البعد ومرارة الحرمان ولكن مع ذلك فهو صادق اللوعة ، عف الضمير واللسان ، رصين التعبير ، غني القلب والشعور . ثم هو شاعر عاشق يرضى من محبوبته بالقليل ، بل بأقل القليل .. وقد نجده أنه دائم الحديث عن تمنع حبيبته . ولكنه حديث الراضي المستسلم الذي لا يسخط ولا يغضب ولا يتمرد ولا يهدد ولا يتوعد أو يثور ، وإنما هو مكتف بمجرد الإشارة أو النظرة العجلى
سمات وخصائص الغزل العذري :
لقد تجاوز الشعراء العذريون في قصائدهم اتجاهات الشعراء الغزليين الجاهليين وكذلك تميزوا عن الشعراء الذين عاصروهم من أصحاب الغزل الصريح فبدت أشعارهم نسيجا جديدا في الشعر الغزلي عند العرب له خصائصه وسماته لكن هذه الخصائص لا تستغرق الشعر العذري كله ، وإنما هي تتباين وتفترق في بعض الجزئيات من شاعر إلى آخر . وهذه الخصائص ، هي :
1 . الاقتصار على محبوبة واحدة . 2 . وحدة الموضوع . 3.بساطة المعاني والسهولة والوضوح . 4 . الصدق . 5 . العفة ( الصفات المعنوية للمرأة)! . 6 . الحزن أو والتشاؤم 7- يقع مقابلا للغزل المكشوف أو الغزل الفاحش ( الماجن )
هههههههه شكراااااااااا