تخطى إلى المحتوى

ظاهرة البلى اللفظي 2024.

  • بواسطة


ظاهرة البلى اللفظي للشيخ محمد سعيد رسلان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

وبِه نَسْتَعِينُ وعلَيْه نتَوكَّلُ

إِنَّ الحمدَ لله نَحْمدُهُ ، ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّـئَاتِ أَعْمالِنا ، مَنْ يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَه ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَه ، وأَشْهدُ أَنَّ محمَّدًا عبدُه ورسُولُهُ صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ، أَمَّا بَعْدُ :
فإِنَّ أَصْدَقَ الحدِيثِ كِتابُ الله ، وخَيْرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها ، وكُلَّ مُحدَثَـةٍ بِدْعةٌ وكُلَّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ ، وكُلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ ، أَمَّا بَعْدُ :
فَمِنَ الحقَائقِ المقرَّرةِ عندَ المحدَثِـينَ مِنْ عُلماءِ اللُّغاتِ أَنَّ كثرةَ الاسْتِعْمالِ تُـبْلي الأَلْفاظَ ، وتَجْعلُ الأَلْفاظَ عُرْضَةً لِقَصِّ أَطرافِها تَمامًا كما تَـبْلَى العُملاتُ المعْدِنيَّـةُ والورَقِيَّـةُ الَّتي تَتبَادلُها أَيْـدِي البشَرِ ؛ فيُصِيبُ الألْفاظَ مِنَ البِلَى ما يُصِيبُ العُملاتِ المعْدِنيَّـةَ والورَقِـيَّـةَ .
والكلِماتُ القَصِيرةُ كثيرًا ما تُقاوِمُ الانْحِرافاتِ الَّتي تُصِيبُ الكلِماتِ الطَّويلةَ بِاطِّرادٍ ، أَمَّا الكلِماتُ الطَّويلةُ فعلَى العَكْسِ مِنْ ذلِكَ ؛ تُـقَدِّمُ لَنا في بَعْضِ الأَحيانِ انْحِرافاتٍ خاصَّةً ناجِمةً مِنْ طُولِـها .
وهذِه بِوَجْهٍ خاصٍّ هِيَ الحالُ بِالنِّسْبَـةِ لِكلِماتٍ كثيرةِ الاسْتِـعْمالِ ، ومِنْ ثَـمَّ يُمْكِنُ فَهْمُها قَبلَ النُّطْقِ بِها لِكَـثْرةِ اسْتِعْمالِـها ، إِلَى حَدِّ أَنَّ المتكلِّمَ يَسْتَطيعُ أَنْ يُعْـفِيَ نَفْسَه مِنْ تَوْضِيحِ النُّطْقِ بِها مُكتَـفيًا بِنُطْقِها في صُورةٍ مُختَصَرةٍ ؛ فالبِلَى الصَّوْتِيُّ واضِحٌ فيها بِدرجةٍ خاصَّةٍ .
وهذِه الأَلْفاظُ في عُمُومِها : إِمَّا آلاتٌ مُسَاعِدةٌ في اللُّغةِ ، وإِمَّا عِباراتٌ مَحفُوظةٌ مُتدَاوَلةٌ ؛ وهِيَ لذلِكَ لَيْسَتْ في حاجةٍ إِلَى وُضُوحِ النُّطْقِ الَّذي تَقْـتَضِيه الرَّغْبةُ في الإِفْهامِ ؛ فيُصِيبُها حينَـئِذٍ تِلْكَ الظَّاهِرةُ الَّتي سَمَّاها اللُّغَوِيُّونَ : ( البِلَى اللَّفْظِـيَّ ) ، كما يبْـلَى الثَّوْبُ وكما تَبْـلَى العُملاتُ الوَرقِيَّـةُ والمعدِنيَّـةُ لِكثرةِ التَّداوُلِ بِالأَيْـدِي تَبْلَى الأَلْفاظُ أَيْضًا .
ومِنَ الأَلْـفَاظِ الَّتي تُـعَاني هَـذَا القَـصَّ والبِـلَى : الأَدواتُ الَّتي تَـدُورُ كـثيرًا في الكَـلَامِ ، وكذلِكَ كلِماتُ التَّحِيَّـةِ الَّتي يُـرَدِّدُها النَّاسُ صَباحَ مَسَاءَ ، وما شَابَههَا .
كعِبارةِ : ( عِمْ صَباحًا ) ، هذِه تَطوَّرتْ عنْ : ( أَنْعِمْ صَباحًا ) (1) .
وكعِبارةِ : ( مُ اللهِ ) وهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ : ( أَيْـمُنُ اللهِ ) (2) .
وفي مِصْرَ يَقُولُونَ : ( سَ الْخِـير ) ! بَدَلًا مِنْ : ( مَسَاءِ الـخَـيْرِ ) .
وفي العِراقِ يَقُولُونَ : ( اللهْ بِالخِيرْ ) ! أَيْ : ( صَبَّحكَ اللهُ بِالخيْرِ ) أَوْ ( مَسَّاكَ اللهُ بِالخيْرِ ) ، فأَصَابَ العِبارةَ البِلَى اللَّفْظِـيُّ وهذَا القَصُّ مِنها حَتَّى صَارتْ إِلَى هذَا الَّذي وَصَلَتْ إِلَيْه (3) .
أَيْضًا كلِمةَ ( للسَّاعةِ ) ، مَثَـلًا : للسَّاعةِ لَـمْ يأْتِ فُلانٌ ، يَعْني : لِلآنِ لَـمْ يَأْتِ فُلانٌ ، أَصْبحتْ في مِصْرَ : ( لِلسَّـهْ ) ! ولا يَـدْرِي كثيرٌ ممَّنْ يتكلَّمُ بِها مَعْناها ومِنْ أَيْنَ جاءَتْ ، هِيَ في الأَصْلِ : ( لِلسَّاعةِ ) يَعْني : لِلْآنِ .
في شَمالِـيِّ إِفْرِيقـيا يقُولُونَ : ( لِلسَّـعْ ) ! ، وفي السُّودانِ : ( لِلسَّاتِي ) ! (4) .
وكذلِـكَ كلِمةَ ( حَـتَّى ) أَصْبَحتْ في نُطْقِ أَهْلِ سُوريا الـيَـوْمَ : ( تَـا ) ، بَعْضُهُمْ يقُولُ : ( طَـوِّلْ رُوحَكْ تَا احْكِي لَكْ ) ! ، بِمَعْنَى : مَهْلًا حَتَّى أَحْكِيَ لَكَ .
رُوِيَ هذَا التَّطَـوُّرُ في كلِمةِ ( حَتَّى ) في القَدِيمِ ، ذكَرَهُ الجَوالِـيـقِيُّ ( المتوَفَّى سَنةَ 539 ) (5) ، يقُولُ عنْ عَوامِّ عَصْرِه : (( ومِنْ كَلامِهم الـمُحالِ الغَثِّ : ( جِئْتُ تَـا أَلْقاكَ ) ، يَعْني : حَتَّى أَلْقاكَ )) .
بلْ يُمْكِنُ أَنْ تَعُودَ بِهذِه الظَّاهِرةِ إِلَى عُصُورِ الاحْتِجاجِ في العَرَبِـيَّـةِ ، في مِثْلِ قَوْلِ أَبِي وَجْزةَ السَّعْدِيِّ (6) : [ الكامل ]

العَـاطِـفُونَ تَحِـينَ ما مِنْ عاطِـفٍ………والـمُطْعِمُونَ زَمانَ أَيْنَ الـمُطْعِمُ

( العاطِفُونَ تَحِـينَ ) حَتَّى حِينَ ( ما مِنْ عاطِفٍ ) لا يُوجَدُ مَنْ يَعْطِفُ ، وإِنْ كانَ نُحاةُ العَربِيَّـةِ قدِ اخْتلَطَ علَيْهمُ الأَمْرُ في شَأْنِ هذَا البَـيْتِ (7) .

وإلَى الملْـتَـقَى بمشِيئَـةِ الله تعالَى ..

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعلَّ هذَا القَوْلُ هُو الأقْربُ ، وقيلَ : إِنَّه فِعْلُ أَمرٍ منْ ( وَعَمَ يَـعِمُ ) ، قالَ امرُؤُ القَيْسِ في قَصِيدتِه الَّتي تقارنُ بِمعلَّقتِه في الجوْدةِ : [ الطَّويل ]

أَلَا عِـمْ صَـباحًا أَيُّها الطَّـلَـلُ الـبَـالِي……… وهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخالِي

(2) وقَدْ تُصُرِّفَ فيها تَصَرُّفاتٍ عجيبةً ، انظُرْها في اللِّسانِ ، مادَّة ( ي م ن ) .
(3) وفي بَعْضِ البِلادِ : ( صَبَّحْكْ بِالخِير ) و ( مسَّاكْ بالخير ) ، أوْ ( مَسِّيكْ بالخير ) كأنَّهُ مِنْ : يُمَسِّيكَ المضارعِ .
(4) أَوْ : ( لِلسَّـادِي ) كأنَّها اخْتِصارُ ( للسَّاعةِ هذِه ) = ( لِلسَّاعة ذِي ) ، ويُلاحظُ أنَّ ( لِلسَّه ) ونحْوها إِذَا أدرِجتْ في جُملةٍ كانَ معناها ( إِلَى الآنِ أوْ حَتَّى هذِه السَّاعةِ ) وأمَّا إِذَا كانتْ مُفردةً في جَوابِ سُؤالٍ عنْ حُصُولِ شَيْءٍ فهِيَ تُؤَدِّي معْنَى ( إِلَى الآنِ لا ) أيْ ( لَـمَّا بَعْدُ ) .
وممَّا يُشْبِـهُ هذَا قوْلُهمْ لـ ( في هذِه السَّاعةِ ) بِمَعْنى ( الآنَ ) : ( ها السَّعْ ) ويقلبُ أهلُ العِراقِ العَيْنَ إِلَى همزةٍ ( ها السَّأْ ) ، ويُسْقِطُها أَكثرُ أهلِ الشَّامِ ( ها السَّ ) .
(5) الجوالِـيقِيُّ هُو : مَوْهُوب بْنُ أَحمدَ بْنِ الحسنِ بْنِ الخضرِ البَغْداديُّ ، والجواليقِيُّ نِسْبةً إِلَى عَملِ الجواليقِ وبَيْعِها ـ جَمْعُ جُوالِق وجُوالَق ، وِعاءٌ مَعْرُوفٌ ، مُعرَّبٌ ، في اللِّسَانِ عنِ ابْنِ الأَعْرابِيِّ ـ ، عالِمٌ بِاللُّغةِ والأَدبِ ، ترجمتُهُ في مُعْجمِ الأُدباءِ و وفياتِ الأَعيان وسِيرِ أَعلامِ النُّبلاءِ وغيْرِها .
وممَّا ذكرُوا مِنْ مناقِبه ـ وهذَا ما يَنبَغي أَنْ يُعْنَى بِه في التَّراجُمِ ـ : كانَ طويلَ الصَّمتِ شَديدَ التَّحرِّي فيما يقُولُ ، لا يقُولُ شَيْـئًا إِلَّا بعْدَ التَّحْقِيقِ ويُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ ( لا أَدرِي ) حتَّى قالَ ابْنُ الجوزِيِّ ـ وهُو مِنْ تلامِذَتِه ـ : ( رُبَّما سُئِلَ المسألةَ الظَّاهِرةَ الَّتي يُبادِرُ بِجوابِها بَعْضُ غِلْمانِه فيتَوَقَّفُ فيها حتَّى يَتيَـقَّنَ ) لله دَرُّهُ .
وكانَ ملِيحَ الخطِّ يتنافسُ النَّاسُ في تَحْصِيلِه والمغالاةِ بِه ، مِنْ مُصَنَّفاتِه المشْهُورة : ( المعرَّبُ منَ الكلامِ الأَعْجمِيِّ ) و ( شَرْحُ أَدبِ الكاتِبِ ) و ( تكمِلةُ إِصْلاحِ ما تَغلطُ فيه العامَّـةُ ) أَكملَ بِه دُرَّةَ الغَوَّاصِ لِلحَرِيرِيِّ وكُلُّها مَطْبُوعةٌ .
وقدْ تَبعَ الشَّيْخُ حفظَهُ اللهُ ياقُوتَ وابْنَ خلِّكانَ في سَنةِ وفاتِه ، وقالَ الذَّهبِيُّ رحمهُ اللهُ في السِّيرِ (20/90) : ( ماتَ في المحرَّمِ سَنةَ أَرْبعينَ وخمسمِئَـة ، وغلِطَ مَنْ قالَ : سَنةَ تِسْعٍ وثلاثِينَ ) اهـ .
(6) يَزِيد بْنُ عُبَـيْدٍ أَبُو وَجْزَةَ ـ بِفَتْحِ الواوِ وسُكُونِ الجِيمِ بَعْدَها زَايٌ ـ السَّعْدِيُّ المدَنِيُّ الشَّاعِرُ : ثِقَةٌ ، مِنَ الخامِسَةِ ماتَ سَنةَ ثَلاثِينَ ومِئَـةً ( د ، س ) . أيْ : رِوايتُه عِندَ أَبي داوُدَ والنَّسائِيِّ ، كذَا في التَّقْرِيبِ ، وفي الكاشِفِ للذَّهَبيِّ : عنْ عُمر بْنِ أَبي سَلمةَ وعنهُ ابْنُ إِسْحاقَ وسُليْمانُ بْنُ بِلالٍ ، ثقةٌ ، وانظُرْ ترجمتهُ أيْضًا في ( الشِّعْر والشُّعَراء ) لابْنِ قُتَيْـبَةَ رحمه الله (2/691) ت : الشَّيخ أحمد شاكر رحمه الله .
(7) رِوايةً ودِرايَـةً ، انْظُر رِوايةَ البَيْتِ والخِلافَ في تَوْجيه التَّاءِ في ( تَحينَ ) في اللِّسانِ ، مادَّةَ ( ح ي ن ) ، وفي الإِنْصافِ لابْنِ الأَنبارِيِّ ص (86.) ط ( المكتبة العصْرِيَّـة ) معَ تعْلِيـقِ محقِّقِـهِ محمَّد مُحيِي الدِّينِ عبدِ الحميدِ .
يتبع…..

* مِثْـلُ ذلِكَ ما أَصَابَ ( إِمَّا لا ) ، وهذِه اسْتَخْدَمَها العَرَبُ في مِثْلِ : ( افْعَلْ هذا إِمَّا لا ) وهِيَ في كلامِهِمْ مُخْـتَصَرةٌ مِنْ : ( افْعَلْ هذَا إِنْ كُنتَ لا تَفْعلُ غَيرَهُ ) .
أَصَابَها تَطَوُّرٌ آخر في القَرْنِ الثَّالِثِ الهجْرِيِّ : ضُمَّتِ الهمزةُ فيها وأُمِيلتْ الألِفُ الأَخيرةُ نَحْوَ الياءِ ، وذكرَ ذلِكَ أَبُو حاتِمٍ السِّجِسْتَـانِيُّ ( الـمُتوَفَّى سَنةَ 255 ) فقالَ : ( والعامَّةُ تـقُولُ أَيْضًا : أُمَّـا لِي ؛ فيَضُمُّونَ الأَلِفَ ، وهُو خطأٌ أَيْضًا ، والصَّوابُ : إِمَّا لا ، غيرَ مُمالٍ ؛ لأَنَّ الأَداوتِ لا تُمالُ ) اهـ .
ثُمَّ قُصَّتْ أَطْرافُها وأَصَابَها تَطَوُّرٌ آخَر وبِلًى آخَرفي اللَّهجاتِ الحدِيثةِ ، وصَارتْ ( أُمَّا لْ ) في مِثْلِ قَوْلِنا : ( كُلْ ، أُمَّـا لْ ) ! هذَا أَصْلُها .
أَنتَ تَـقُولُ مَثَـلًا لِرجُلٍ : ( أُمَّـا لْ فِـينْ فُلانْ ) أَوْ ( كُلْ ، أُمَّا لْ ) ولا تَدرِي ( أُمَّا لْ ) هذِه ما تكُونُ !
أَيْضًا كلِمةَ ( اخْسَأْ ) أَصْبَحتْ في كلامِنا : ( اخْصْ ) .
* وكـذلِكَ كلِـمةَ : ( يُوسُفْ أَفَـنْدِي ) وهِيَ الفاكِـهةُ الـمعْـرُوفَـةُ أَصْبَحتْ في مِصْـرَ : ( سَفَـنْـدِي ) ، وهيَ في السُّعُودِيَّـةِ : ( أَفَـنْـدِي ) .
* كلِمةَ ( بِوُدِّي ) صَارَتْ في كلامِ المصْرِيِّـينَ : ( بِدِّي ) ؛ ( بِدِّي تفْعل كذَا ) هيَ في الأَصْلِ : ( بِوُدِّي أَنْ تَـفْعلَ كذَا ) .
* وكذلِكَ كلمةَ ( أَبْغِي ) صَارَتْ في كلامِ أَهْلِ نَجْدٍ : ( أَبِي ) كذَا ، فأصَابَها البِلَى والقِدمُ ؛ فتَهرَّأتْ ثُمَّ فَنِـيَ مِنها ما فنِيَ وقُصَّ مِنها ما قُصَّ .
* عِبارةُ ( مَرْحَبًا بِكَ ) : يَنْطِقُها السُّودانِـيُّونَ : ( حَبَا بَكْ ) .
* عِبارةُ ( سَمْعًا وطاعةً ) : يَنْطِقُها أَهلُ نَجْدٍ : ( سَمْ ) ويُرِيدُونَ بِها ( سَمْعًا وطاعةً ) .
* كذلِكَ عِبارةُ ( أَيُّ شَيْءٍ ؟ ) تُقابِلُنا كثيرًا في عِباراتِ القُدماءِ في صُورةِ ( أَيْشٍ ؟ ) قالَ عَنها ابْـنُ عَبـدِ القَوِيِّ الحنبـلِيُّ : ( كما قَـالُوا : أَيْـشٍ تَـقُولُ ؟ ، وأَصْلُه : أَيَّ شَيْءٍ تَـقُولُ ؟ ) اهـ ، فـ ( أَيْـشٍ ) هذِه هذَا أَصْلُها بَعدَ أَنْ بَلِـيَتْ جِدَّتُها وقُصَّتْ أَطْرَافُها .
* كذلِكَ كلِمةُ ( العِرْزالُ ) ، ومَعْناها في اللُّغةِ : المتاعُ القَلِيلُ ، أَصْبحتْ علَى لِسَانِ النَّـاسِ : ( العِزالُ ) ؛ فيكتُبُونَ قائِمةَ العِزالِ ! ، بِمعنَى : أَثاثِ البَيْتِ ومتاعِه .
* كذلِكَ تَقُولُ في الإِجابةِ : ( إِيـوَهْ ) هذِه مُقْتَطعةٌ مِنْ : ( إِي والله ) ، كما اقْتُطِعتْ مِنْها : ( إِلَّا ) بِمعْنَى : ( نَعَمْ ) ، مِنْ ( إِي والله ) فَصَارتْ ( إِلَّا ) ، يَعْني : إِذَا ناداهُ فأَجابَ قالَ : ( إِلَّا ) ، المصْرِيُّونَ يقُولُونَ : ( إِيوَهْ ) ، قالَ الخفاجِيُّ ـ كما في شِفاءِ الغليلِ ـ : ( إِيوَهْ : إِي بِمَعْـنَى : نَعمْ ، في القَسَمِ خاصَّةً ، قالَ في الكَشَّافِ : سَمِعْتُـهُمْ في التَّصْدِيـقِ يَقُولُونَ : ( إِيوَهْ ) فيَصِلُونَـهُ بِواوِ القَسَمِ ( إِي ، و ) ولا يَنطِقُونَ بِه وحْدَه ، والنَّاسُ تَزيدُ علَيْه هاءَ السَّكْتِ فتصِيرُ : ( إِيوَهْ ) ويجعلُونَها بِمعْنَى ( نَعَمْ ) أَوْ ( أَجبْـتُك ) .
* مِنْ أَمْثِلةِ ذلِكَ أَيْضًا قَوْلُنا في مِصْرَ : ( بيض برشْتْ ) بِمَعْنَى : أَنَّـهُ بيْضٌ غيرُ ناضِجٍ نُضْجًا كامِلًا علَى النَّارِ ، أَصْلُ الكلِمةِ مِنَ الفارِسِيَّـةِ : ( نيم برِشْتْ ) وهُو المشْوِيُّ نِصْفَ شَيٍّ ، وهِيَ مُكوَّنةٌ مِنْ ( نيم ) يَعْني ( نِصْف ) و ( برِشْتْ ) مُقْتَضَبةٌ مِنْ ( برِشْتَـه ) بِمَعْنَى مَشْوِيّ ، فصارَتْ : ( بيض برِشْتْ ) وأَصْلُها فارِسِيٌّ ، قاطِعُوها لأَنَّها مِنْ عندِ الرَّوافِضِ .
* وكانَ أَحدُ المدرِّسِينَ في مراحِلِ التَّعْلِيمِ العامِّ مِنْ لَوازِمِه الكلامِيَّـةِ في شَرْحِ الدُّروسِ : عبارةُ ( مشخْبلكَ ) بَدلًا مِنْ ( مشْ واخِدْ بالَكَ ) ، فكانَ في كُلِّ حينٍ يقُولُ ـ يشْرحُ شَيْـئًا ثُمَّ يقُولُ ـ : ( مْشَخْبَلَك ) يَعْني : ( مش واخِدْ بالَكَ ) فأَصابَ ( مش واخدْ بالَك ) البِلَى اللَّفْظِيُّ ، احْفظْ هذَا .
يُسَمَّى : ( البِلَى اللَّفْظِيَّ ) هذِه ظَاهرةٌ منَ الظَّواهِرِ اللُّغَوِيَّـةِ الَّتي تُصِيبُ اللُّغةَ كما بَيَّنَ ذلِكَ المحْدَثُونَ مِنَ اللُّغَوِيِّـينَ ، وهذَا مُجمَعٌ علَيْه يُصِيبُ جميعَ اللُّغاتِ ، ولكِنْ هذِه لُغةٌ مَحفُوظةٌ لُغةُ القُرْآنِ العَظيمِ .
* في كُلِّ اللُّغاتِ أَدواتٌ وحُرُوفُ جَرٍّ وحُرُوفُ وَصْلٍ ، وأَصْلُ تِلْكَ الأَدواتِ أَوْ أَصْلُ بَعْضِها وأَصْلِ بَعْضِ حُرُوفِ الجرِّ وحُرُوفِ الوَصْلِ أَصْلُها ـ في غالِبِ الأَمرِ ـ كلِماتٌ قائِمةٌ بِنَفْسِها تَحوَّلَتْ إِلَى آلاتٍ نَحْوِيَّـةٍ ، وذلِكَ بتَحْويلِ الكلِماتِ المليئَةِ إِلَى كلِماتٍ فارِغةٍ ، فالأَدواتُ النَّحْوِيَّـةُ الَّتي تَسْتَعْمِلُها اللُّغاتُ لَيْسَتْ إِلَّا بقايا مِنْ كلِماتٍ مُسْتَـقِلَّةٍ قَديمةٍ أُفْرِغَتْ مِنْ مَعْناها الحقِيقِيِّ واسْتُعْمِلتْ مُجرَّدَ مُوَضِّحاتٍ ، أَيْ : مُجرَّدَ رُمُوزٍ ، ولكنَّها في أَصْلِها : كلِماتٌ مُسْتَقِلَّـةٌ قَديمةٌ .
يُمكِنُ أَنْ تتَـبَّعَ هذَا في كثيرٍ مِنَ اللُّغاتِ ، تتطَـوَّرُ تِلْكَ اللُّغاتُ علَى هذَا النَّحْوِ الموصُوفِ ، فتَجدُ ذلِكَ في كثيرٍ مِنْ حُرُوفِ الـجرِّ وفي حُرُوفِ الوَصْلِ وفي أَدواتِ التَّـعْرِيفِ وغيرِ ذلِكَ .
* وهِيَ في كُـلِّ اللُّغاتِ إِشَاراتٌ قَديمةٌ ؛ كما اتُّخِذَ مِن اسْمِ العَددِ أَداةُ تنكِـيـرٍ تُـعَـبِّرُ عنِ الوَحْدةِ .
في الجرْمانِيَّـةِ وفي الإِغْرِيـقِيَّـةِ الحديثةِ وفي جَميعِ اللُّغاتِ الرُّومانيَّـةِ تَجدُ ذلِكَ ؛ تَجدُ اسْمَ العَددِ أَداةَ تنكيرٍ تُعبِّرُ عنِ الوَحْدةِ .
* واسْمُ الإِنْسانِ صَارَ في الفِرنْسِيَّـةِ والجرْمانيَّـةِ والأَرْمينـيَّةِ أَداةً نَحْوِيَّةً تُعبِّرُ عنِ الشَّائِعِ ، ففي الأَلمانيَّـةِ مَثَلًا : ( … [ غير واضح ] ) يُقالُ حَرْفيًّا : يقُولُ إِنسانٌ .
* والأَفعالُ الَّتي تُسَمَّى بِـ ( الأَفعالِ المساعدةِ ) ـ كما في الإِنجليزِيَّـةِ مَثلًا ـ هِيَ كلِماتٌ مُفرَّغةٌ أَيْضًا مِنْ معانيها :
في الإِنجليـزِيَّـةِ : فِعل ( to do ) بِمعنَى : يَفْعلُ ، يُسْتعْملُ أَداةً نَحْويَّـةً لِلاسْتِفْهامِ ؛ كما في : ( ?Do you see ) هذَا فِعْلٌ ! صَارَ أَداةً نَحْوِيَّـةً لِلاسْتِفْهامِ ، كأنَّه أَداةُ اسْتِفْهامٍ ! ( ?Do you see ) يَعْني : هلْ تَرى ؟ .
* وكذلِـكَ لِلنَّـفْيِ يأتي : ( I don’t see ) يَعني : لا أرَى ، معَ أَنَّـهُ فِعلٌ كما مرَّ ! فِعل ( to do ) يُقالُ : هُو مِنَ الأَفعالِ المساعِدةِ .
* وكذلِكَ عِندنا في العَربيَّـةِ : الفِعْلُ ( عادَ ) فُرِّغَ مِنْ مَعناهُ وصَارَ أَداةً في مِثْلِ ( لَـمْ يَعُدْ صَالِـحًا لِلاسْتِعمالِ ) صَارَ أَداةً ، هُو فِعْلٌ ، ولكنَّكَ لا تَفْهَمُه في مِثْلِ هذَا التَّركيبِ علَى أَصْلِه ، وإنَّما تَفهمُه مُفرَّغًا مِنَ المعْنَى .
* مِنَ الكلِماتَ الَّتي فُرِّغتْ مِنْ مَعناها الأَصْلِيِّ وصَارَتْ أَداةً في العرَبيَّـةِ ، وعانتْ كثيرًا مِنْ آفةِ البِلَى اللَّفْظِيِّ كلمةُ : ( سَوْفَ ) .
يظُنُّ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ السِّينَ و( سَوْفَ ) أداتانِ مُختلِفتانِ لِلدَّلالةِ علَى الاسْتِقْبالِ وُضِعَتا هكذَا وَضْعًا مُنْذُ أَنْ خلَقَ اللهُ العربيَّـةَ ، بأَصْلِ الخلْقةِ ، خُدِعَ بذلِكَ نُحاةُ البَصْرةِ ، وحكَّمُوا المنطِقَ العَقْلِيَّ في أَنَّ ( زِيادةَ المبْنَى تَدُلُّ علَى زِيادةِ المعنَى ) ؛ فقالُوا : إِنَّ ( سَوْفَ ) تَدُلُّ علَى الاسْتِقْبالِ البَعيـدِ ، والسِّينُ تدُلُّ علَى الاسْتِقْبالِ القَريبِ .
لَيسَ في نُصُوصِ اللُّغةِ ما يَشْهدُ لِتكلُّفِهمْ هذَا ، يقُولُ تَعالَى : " فَسَيَـكْفِيكَهُمُ اللهُ " [ سُورةُ البقرةِ ، الآية : ] ، وهذَا لَيْسَ مَعْناهُ : تَحقُّقَ هذِه الكفايةِ في الغَدِ ، هُمْ يقُولُونَ : السِّينُ للاسْتِقْبالِ القريبِ و( سَوْفَ ) للاسْتِقْبالِ البَعيدِ ، والقُرْآنُ يرُدُّ .
كما أَنَّ قَوْلَه تعالَى : " وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) " [ الضُّحَى ] لَيْسَ مَعْناهُ : تأَخُّرَ الإِعْطاءِ عامًا أَوْ عامَيْنِ ؛ فإِذَنْ لَيْسَ كما تكلَّفُوا وقالُوا .
بلْ إِنَّ الحقيقةَ أَنَّ ( سَوْفَ ) أَقْدَمُ منَ السِّينِ وأنَّ السِّينَ جُزْءٌ مُقْتَطَعٌ مِنْها ، و ( سَوْفَ ) مِنَ الكلِماتِ القَديمةِ في اللُّغاتِ السَّاميَّـةِ الأُخْرَى ، كالآراميَّـةِ ؛ ففيها : ( ساوْ به ) هكذَا في الآراميَّـةِ ، وهيَ اسْمٌ مَعْناهُ فيها : الغايةُ والنِّهايةُ ، ثُمَّ أَصْبحَ في العربيَّـةِ القديمةِ أَداةً تدُلُّ علَى الاسْتِقْبالِ في الأَفْعالِ ، ثُمَّ بدأتْ تُعانِي قَصًّا لِبعْضِ أَطْرافِها وبِلًى وَقَعَ في حَواشيها في الفَترةِ الَّتي سبَقَتْ نُزُولَ القُرْآنِ العظيمِ .
وتجدُ ذلِكَ في مَجالِسِ ثَعْلب وفي مُغْني اللَّبيبِ وفي الصَّاحِبي لابْنِ فارسٍ : ويَـخْـتَصِرُونَ ( سَوْفَ أَفْعلُ ) فيقُولُونَ : ( سَأَفْعلُ ) .
و ورَدَ أَنَّ العرَبَ قَـالُوا : ( سَـوْ يَـكُونُ ) ، وأنَّهُمْ قَـالُوا : ( و سَـفْ يَـكُونُ ) ، وقَـالُوا : ( سايكُونُ ) ، وقالُوا : ( سَيكُونُ ) ؛ فهذَا ـ كما تَـرَى ـ إِنَّما هُو تَحقيقٌ لِتلْكَ الظَّاهِرةِ الَّتي تُعاني منْها اللُّغةُ بلِ اللُّغاتُ .
عندَما جاءَ القُرْآنُ الكريمُ ، وأَنزلَه اللهُ ربُّ العالَمينَ علَى نَبِيِّـهِ الكريمِ صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ سَجَّلَ لَنا إِحْدَى صُورِ التَّطَـوُّرِ في ( سَوْفَ ) ، أَوْ قُلْ : المرحلَةَ الأَخيرةَ منْها ، معَ الأَصْلِ الَّـذي كانُوا علَـيْه ، والَّذي كانَ لا يَـزالُ يَـعِـيشُ معهُ ما نَشَأَ عنهُ جَنْـبًـا إِلَى جَنْبٍ .
كما رَوَى لَنا اللُّـغَوِيُّونَ صُوَرَ التَّطَـوُّرِ الأُخْرَى الَّتي لَـمْ يُـكْـتَبْ لَها ما كُتِبَ لِغَـيْرِها مِنَ البَـقَاءِ .
مِنْ قُدامَى النُّحاةِ العرَبِ منْ لَحظَ هذَا وقيَّـدَهُ ، مِنْهُمُ العلَّامةُ ابْنُ مالِكٍ صَاحِبُ الأَلْفِيَّـةِ رحمَه اللهُ ؛ منعَ هذَا العلَّامةُ رحمهُ اللهُ تعالَى كَوْنَ التَّراخِي في ( سَوْفَ ) أَكْـثـرَ ؛ وعلَّـلَ بِأَنَّ ( الماضِي والمسْتقْبَـلَ مُتقابِلانِ ، فإِذَا كانَ الماضِي لا يُقْصَدُ بِه إِلَّا مُطْـلَقُ الـمُضِيِّ فكذلِكَ المسْتَقْبلُ ) ؛ لا يُقالُ مُسْتَقْبلٌ قريبٌ ومُسْتَقْبلٌ بَعيدٌ ، لِـمَ ؟ ، قالَ : ( ليَجْرِيَ المتقابِلانِ علَى سَنَنٍ واحِدٍ ) .
كما يَـرَى رحمهُ اللهُ أَنَّ دَعْوَى التَّفاوُتِ بَيْنَ السِّينِ و ( سَوْفَ ) في مُدَّةِ الاسْتِقْبالِ مَرْدُودٌ ؛ لأَنَّ العربَ عبَّرتْ عنِ المعنَى الواحِدِ في الوَقْتِ الواحِدِ ، بِقَوْلِهمْ : ( سَيَـفْعلُ ) و ( سَوْفَ يَفْعَلُ ) ؛ فعبَّرتِ العَربُ عنِ المعْنَى الواحِدِ في الوَقْتِ الواحِدِ بِالسِّينِ و ( سَوْفَ ) مِنْ غيرِ ما تَفاوُتٍ .
قالَ رحمهُ اللهُ تَعالَى : ( وجاءَ عنِ العربِ : سَفْ أَفْعلُ ، و : سَوْ أَفْعلُ ، و : سَيْ أَفْعلُ ، وهيَ أَغْربُها ) يعْني الأَخيرةَ ، قالَ : ( حكاها صَاحِبُ المحكَمِ ، واتَّفَقُوا علَى أَنَّ أَصْلَ سَفْ و سَوْ و سَيْ : سَوْفَ ) .
قالَ ابْنُ مالِكٍ رحمهُ اللهُ تعالَى : ( و زَعَمُوا أَنَّ السِّينَ أَصْلٌ بِرَأْسِها غيرُ مُفرَّعةٍ عنْ سَوْفَ ، ولكِنَّها مِنها كنُونِ التَّوْكيدِ الخفيفةِ مِنْ نُونِ التَّوْكيدِ الثَّقيلةِ ) كذَا قالُوا ، قالَ : ( وهذَا عِندِي تكلُّفٌ ، ودَعْوَى مُجرَّدةٌ مِنَ الدَّليلِ ) .
قالَ ابْنُ مالِكٍ رحمَهُ اللهُ تعالَى : ( فقَدْ أَجْمعْنا علَى أَنَّ سَفْ و سَوْ وسَيْ عندَ مَنْ أَثْـبَتها فُرُوعُ سَوْفَ ؛ فلتَـكُنِ السِّينُ أَيْضًا فَرْعَها ؛ لأَنَّ التَّخْصِيصَ دُونَ مُخَصِّصٍ مَـرْدُودٌ ، ويكُونُ هذَا التَّصَرُّفُ في سَوْفَ بِالحذْفِ شَبِيهًا بما فُعِلَ بِأَيْمُنِ الله في القَسَمِ حينَ قيلَ : أَيْمُ اللهِ ، وأَمُ اللهِ و مُنُ اللهِ ، و مُ اللهِ ، وقَريبًا مِنْ قَوْلِهمْ في حاشَا : حاشَ ، و حَشَا إلَى آخِرِه ، وقالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ كانتِ السِّينُ بَعْضَ سَوْفَ لكانَتْ مُدَّةُ التَّسْوِيفِ بِهما سَواءً ، ولَيْسَ كذَلِكَ ) هذِه حُجَّةٌ يَدْحَضُها ابْنُ مالِكٍ رحمَه اللهُ قالَ : ( وقالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ كانتِ السِّينُ بَعْضَ سَوْفَ لكانَتْ مُـدَّةُ التَّسْوِيفِ بِهما سَواءً ، ولَـيْسَ كـذلِـكَ ، بلْ هيَ بِسَوْفَ أَطْولُ ؛ فكانتْ كُلُّ واحِدةٍ مِنهُما أَصْلًا بِـرَأْسِها ) قالَ : ( قُلْتُ : وهذِه دَعْوَى مَـرْدُودةٌ بِالقِياسِ والسَّماعِ ؛ فالقِياسُ أَنَّ الماضِيَ والمسْتَقبلَ مُتقابِلانِ ، والماضِي لا يُقْصَدُ بِه إِلَّا مُطْلقُ المضِيِّ دُونَ تَعَرُّضٍ لِقُرْبِ الزَّمانِ وبُعْدِه لِـيَجْرِيَ المتقابِلانِ علَى سَنَنٍ واحِدٍ ، والقَوْلُ بِتَوافُقِ سَيَفْعلُ وسَوْفَ يَفْعلُ مُصَحِّحٌ لِذلِكَ فكانَ المصِيرُ إِلَيْه أَولَى ) وهذَا قِياسٌ ، فهُو يُـرِيدُ أَنْ يقُولَ : هيَ جُزْءٌ مِنها ، يعْني : أَصَابَ سَوْفَ مِنَ البِلَى مَا أَصَابَها وأَقْنَى علَيْها الَّذي أَقْنَى علَى لُـبَـدِ ! ، وكما أَنَّ النَّاسَ يُصِيبُهمْ ما يُصِيبُهمْ وكذلِكَ المخلُوقاتِ يُصِيبُها ما يُصِيبُها فكذلِكَ الأَلْفاظُ ، قالَ : ( هذَا قياسٌ ، وأَمَّا السَّماعُ فإِنَّ العرَبَ عبَّرتْ بِـ سَيْفْعلُ و بِـ سَوْفَ يَفْعلُ عنِ المعْنَى الواحِدِ الواقِعِ في الوَقْتِ الواحِدِ ؛ فصَحَّ بِذلِكَ تَوافُقُهما وعدَمُ تَخالُفِهما ، فمِنْ ذلِكَ قَوْلُهُ تعالَى : " وَسَوْفَ يُـؤْتِـي اللهُ الـمُؤْمِـنِـينَ أَجْرًا عَظِـيمًا " ، وقَوْلُه تعالَى : " فأَمَّا الَّذِينَ ءَامَـنُوا بِاللهِ وَاعْـتَصَمُوا بِه فسَيُدْخِلُهُمْ فِـي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ " وكذلِكَ قَوْلُه تعالَى : " كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " ، و " كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ " ، ومِنْـهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
[ الطَّويل ]

وَما حالَـةٌ إِلَّا سَيُـصْرَفُ حَالُـها………إِلَى حَالةٍ أُخْـرَى وسَوْفَ تَـزُولُ )

فاسْتَخْدَمَ السِّينَ وسَوْفَ ، قالَ : ( .. فهذَا كُـلُّـهُ صَريحٌ في تَوافُقِ سَيَفْعلُ وسَوْفَ يَفْعلُ في الدَّلالةِ علَى مُطْلقِ الاسْتِقْبالِ دُونَ تَفاوُتٍ في قُرْبٍ وبُعْدٍ ) ؛ فابْنُ مالِكٍ لَحظَ هذَا أَيْضًا ، ولَحظَ أَنَّ بَعْضَ الكلِماتِ يُصِيبُها البِلَى اللَّفْظِيُّ ، ويُصِيبُها القَصُّ مِنْ أَطْرافِها حتَّى تَصِيرَ بَعْضَ ما كانَتْ .
ذكرَ السِّينَ و سَوْفَ وذكرَ تَعاقُـبًا في هذَا البِلَى فذَكرَ سَابِقَه ، فذَكرَ ما رَصَدَ ورَصَدَهُ اللُّغَوِيُّونَ قَبْلَه مِنْ ( سَفْ ) و ( سَوْ ) و ( سَيْ ) ؛ فقالَ : والسِّينُ أَيْضًا مُلْحَقَـةٌ .
وذكرَ أَيْضًا ما تَعاقَبَ علَى ( أَيْمُنِ اللهِ ) وكذلِكَ ما وَقَعَ بِكلِمةِ ( حاشَا ) .
* وأَيْضًا هذِه لامُ الاسْتِغاثَـةِ الَّتي تَدْخُلُ علَى المنادَى ، في مِثْلِ قَوْلِ مُهَلْهِلٍ ـ هُو ابْنُ رَبِيعةَ ـ :
[ المديد ]

يَـا لَـبَـكْـرٍ أَنْشِـرُوا لِي كُـلَـيْـبًا………يَـا لَـبَـكْـرٍ أَيْـنَ أَيْـنَ الـفِــرارُ

هذِه اللَّامُ بَقِيَّـةٌ مِنْ ( آل ) الَّتي فُـرِّغَتْ مِنْ مَعْناهَا وقُصَّتْ أَطْرافُها علَى النَّحْوِ الَّذي مَـرَّ في ( سَوْفَ ) ، وهيَ لامُ الاسْتِغاثـةِ ؛ يَعْني : كأَنَّـهُ قالَ : ( يا آلَ بَـكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْـبًا ، يا آلَ بَـكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الفِرارُ ؟! ) .
* وهذَا يقَعُ كثيرًا في كثيرٍ مِنَ الأَسْماءِ ، يَعْني : كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يقُولُ : ( الشَّيْخُ محمَّدٌ بْنُ صَالِحٍ العُثَـيْـمِين ) هِيَ : ( آلُ عُثَـيْمينَ ) ، وكذلِكَ : ( الشَّيخُ عبْدُ اللهِ الجار اللهِ ) هيَ في الأصْلِ : ( عبدُ اللهِ آل جارِ اللهِ ) ، وكذلِكَ : ( الشَّيْخُ الفَوْزان ) هيَ : ( آلُ فَوْزان ) ، كثيرٌ مِنْ هذِه الأَسْماءِ وَقَعَ فيها هذَا الأَمْرُ ، و وَقَعَ فيها ما يُقالُ لَه : البِلَى اللَّفْظِيُّ .
* والاسْتِسْهالُ في النُّطْقِ والكَسَلُ في الأَداءِ فيأْكُلُونَ مِنْ هُنا حَرْفًا ومِنْ هُنالِكَ حَرْفًا حتَّى تَصِيرَ مَسْخًا ، ولا يُدْرَى مَعْناها في الحقيقَـةِ ، وهذِه لامُ الاسْتِغاثـةِ ولَها ما لَها مِنْ مَوْقِعِها في كُتُبِ النَّحْوِ .
يتبع……

* ومِنْ أَمْثِلةِ هذِه الظَّاهِرَةِ ظاهِرةِ التَّفْرِيغِ والتَّحَوُّلِ إِلَى الأَداةِ والبِلَى ـ كما في لامِ الاسْتِغاثَةِ وكذلِكَ ما مرَّ ذِكْرُه ـ في العامِّـيَّـةِ : في العرَبِيَّـةِ كلِمةُ ( شَيْءٍ ) ، بَلِيَتْ وصَارَتْ علَى حرْفٍ واحِدٍ هُو : الشِّينُ ، ثُمَّ فُـرِّغَتْ مِنْ مَعْناها وأَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ أَداةِ النَّفْيِ ، إِلَى درجةِ أَنَّ العامَّـةَ يقُولُونَ في مِصْرَ : ( ما شُفْتِشْ شَيْ ) هِيَ في الأصْلِ : ( ما شُفْت شَيْء ) فأصَابَ ( شَيْء ) البِلَى حَتَّى صَارَتْ ( شِينًا ) ، ثُمَّ فُرِّغَتْ مِنْ مَعْناها وأَصْبَحتْ جُزْءًا مِنْ أَداةِ النَّفْيِ ، ( ما شُفْت شَيْ ) هذَا هُو الأصْلُ فصَارَتْ : ( ما شُفْتِشْ شَيْ ) ، ونَسُوا أَنَّ هذِه الشِّينَ هِيَ ( شَيْء ) فجاءُوا بِـ ( شَيْء ) وراءَها فقالُوا : ( ما شُفْتِشْ شَيْء ) فما الدَّاعي إِلَى الإِتْيانِ بِـ ( شَيْء ) وراءَ ( شَيْء ) ؟! ولكِنْ نُسِيَ أَنَّ الشِّينَ مُختَصَرَةٌ مِنْ ( شَيْء ) ، وأَصْبَحَتْ لا تَعْني في ذِهْنِ المتحَدِّثِ بِها إِلَّا النَّـفْيَ .
* كذلِكَ ( الحاءُ ) الَّتي تدخُلُ في لَهجاتِ الخطابِ العامِّـيَّـةِ ، تَدْخُلُ علَى الفِعْلِ المضَارِعِ لِلدَّلالةِ علَى الاسْتِقْبالِ ، فهذِه الحاءُ أَصْلُها : كلِمةُ ( رائِح ) مِنَ الرَّواحِ ، فُـرِّغَتْ مِنْ مَعْناها الأَصْلِيِّ وتَعاوَرَها البِلَى والقصُّ .
يُقالُ مَثَلًا : ( رايِـح أَعمل كذَا ) أَوْ ( راح أَعمل كذَا ) و يقُولُ : ( حاعملْ كذَا ) ، كُلُّ هذِه الصُّورِ لا تزالُ مُسْتَعْمَلةً في لَهجاتِ الخطابِ في البلادِ العربِيَّـةِ ، بلْ تَطَوَّرتْ في لَهجةِ المصْرِيِّينَ إِلَى أَبْعدَ مِنْ هذَا ؛ فصَارَتْ هاءً تُوضَعُ في أَوَّلِ المضَارعِ ، ويُمْكِنُ أَنْ تَجدَ ـ مَثَلًا ـ في بَعْضِ الإِعْلاناتِ أَوْ بَعْضِ الكتاباتِ علَى الجدرانِ وتَقِفُ طَويلًا تـتأَمَّلُ لأنَّكَ لا تَسْتطيعُ أَنْ تَقْرأَهُ ، مثلًا لَوْ وَجدْتَ : ( هندَّخِر علشَان نَبْني البَلَد ) ! ، ( هندَّخِر ) هذِه لا يُمْكنُ أَنْ تأتي بَـادِيَ الرَّأيِ إِلَى الـذِّهْنِ بِمَـعناها الـحقِّ ، والأَصْلُ أَنَّـهُ يُـرِيدُ أَنْ يَـقُولَ : ( حندَّخِر ) أَوْ : ( راح نَدَّخِر ) أوْ : ( رايح ندَّخِر ) أو : ( رايحين ندَّخِر لنَبْنيَ البلد ) ، فأصَابَها البِلَى ثُمَّ وقَعَ علَيْها هذَا الإِبدالُ ، أُبْدِلَتِ الحاءُ هاءً ؛ هذَا مَعْلُومٌ لِقُرْبِ المخرَجِ .
الشَّيْخ محمَّد علي الدُّسُوقِيُّ رحمهُ اللهُ لَـمْ يَعْرِفْ أَصْلَ الهاءِ و الحاءِ في مِثْلِ هذِه التَّراكِيبِ ، قالَ ـ مَثلًا ـ : ( هتفْعل كذَا صَحيح ) قالَ : ( لأنَّ الهاءَ مُبْدَلةٌ مِنَ الهمزِ ، والأَصْلُ : أَتفْعلُ كذَا ؟ ، قالَ في القامُوسِ في الكلامِ علَى أَوْجُهِ الهاءِ : الرَّابِعُ : المبدَلةُ مِنْ همزَةِ الاسْتِفْهامِ ، وفي اللِّسانِ : ويقُولُونَ : هإِنَّكَ زَيْدٌ ؟ ) مَعْناهُ : أَ إِنَّكَ زَيْدٌ ؟ فأُبْدِلتِ الهمزةُ هاءً ، وإِنَّما هُو خللٌ في النُّطْقِ لِقُرْبِ المخرجِ أَيْضًا ، فهذِه جَميعُها مِنْ حُرُوفِ الحلْقِ : [ الرَّجز ]
هَمْزٌ فَـهَاءٌ ثُـمَّ عَـيْنٌ حَـاءُ………..مُهْمَلَـتَانِ ثُـمَّ غَـيْنٌ خَـاءُ
هِيَ جَميعُها مِنْ حُرُوفِ الحلْقِ ؛ فيقَعُ هذَا الخلْطُ الَّذي يُقالُ لَه الإِبْدالُ ، قالَ : ( وفي قِراءَةٍ : "هأَلِدُ وأنا عَجُوزٌ " أَيْ : أَ أَلِدُ ) ، قالَ : ( وهذِه لُغَـةُ الوَجْهِ القِبْـلِيِّ ) ، قالَ : ( وبَعْضُ العامَّـةِ يُبْدِلُها حاءً خَطأً فيَـقُولُ : حتَـكْتُب ؟ ) ، قالَ : ( وقَدْ يَسْتَعْمِلُها العامَّـةُ بِمَعْنَى السِّينِ ، يقُولُونَ : حقُوم ، أَو هاقُوم أَو سَأَقُوم ، وذلِكَ خطأٌ ؛ لأنَّـهُ لَـمْ يَـرِدْ إِبْدالُ السِّينِ حاءً أَو هاءً في مِثْلِ هذَا ) ولَـيْسَ كذلِكَ ، وإِنَّما هذَا الَّذي مَـرَّ ذِكْـرُه ، الأَصْلُ هُو : كلِمةُ ( رائِح ) مِنَ الرَّواحِ ، فُرِّغَتْ مِنْ معناها الأَصْلِيِّ وتعاوَرَها البِلَى .
والعامَّـةُ المصْرِيُّونَ قَوْمٌ ذَوُوا حِيَـلٍ ؛ فجعلُوا الحاءَ هاءً ( هاعملْ كذَا ) ! ، والشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ رحمهُ اللهُ لَـمْ يَلْتَـفِتْ لِذَلِكَ ، وأَعادَ الأَمرَ إِلَى القامُوسِ ، وخطَّـأَ وقالَ ، رحمهُ اللهُ تعالَى .
* كذلِكَ تِلْكَ الباءُ الَّتي تدْخُلُ في المضَارعِ لِلدَّلالةِ علَى الزَّمنِ الحالِيِّ ، في مِثْلِ : ( فُلانٌ بِياكل ، وبِـيشْـرَب و بيلْعَب .. ) ! ، هذِه الباءُ هِيَ كُلُّ ما بَقِيَ مِنَ الفِعْلِ ( بَقِيَ ) : ( فُلانٌ بَقِيَ يَـأْكُلُ ) و ( بَقِيَ يَشْربُ ) و ( بَقِيَ يَلْعبُ ) ، ثُمَّ أَصَابَ البِلَى اللَّفْظِيُّ ( بَقِيَ ) حَتَّى صَارَتْ علَى الباءِ وَحْدَها مِسْكينةً مُفْرَدَةً ! .
فَلَمْ يُدْرِك الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ رحمَهُ اللهُ سِرَّ هذِه الباءِ و رَآها في صُورتِها الحالِـيَّـةِ ، فقالَ : هذِه علَى هذِه الصُّورةِ مُشْبِهةٌ لِـباءِ الجرِّ ، وقالَ عنْ عامَّـةِ عَصْرِه مُتَـوَجِّعًا : ( لَقَدْ فقَدَ العامَّـةُ أَهمَّ قَواعِدِ اللُّغةِ وقَـوَّضُوا أَعْظمَ أَركانِها ، وهُو أَنَّـهُ لا يَجُوزُ دُخُولُ أَيِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الجرِّ علَى الأفْعالِ ؛ فعكَسُوا القَضِيَّـةَ واسْتبَاحُوا حِمَى اللُّغةِ العربيَّـةِ ) اهـ ، ولَيْسَ كذلِكَ ، وإِنَّما هُو البِلَى اللَّفْظِيُّ أَصَابَ ذلِكَ الفِعْلَ ( بَـقِيَ ) حَتَّى صَارَ علَى الباءِ وَحْدَها ، وصَارَ النَّاسُ يَنْطِقُونَ بِها كذلِكَ : ( فُلان بيلْعبْ وبياكلْ وبيشْرَبْ ) ! ، وهِيَ في الأَصْلِ ما بَقِيَ مِنْ ذلِكَ الفِعْلِ ، ولَيْسَتْ بِحرْفِ جَرٍّ دَخَلَ علَى فِعْلٍ كما قالَ الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ رحمَه اللهُ تعالَى .
ما الَّذي حَدَثَ لِـهذَا الفِعْلِ ( بَقِيَ ) مِنَ التَّفْرِيغِ والبِلَى ؟
هذَا أَمرٌ قَديمٌ في عُصُورِ العربيَّـةِ ، هذِه الزِّيادةُ علَى فِعْلِ المضَارعِ قَديمةُ العَهْدِ جِدًّا ، حَتَّى إِنَّها رُصِدَتْ مِنْ كلامِ النَّاسِ في القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ كما في كِتابِ ( دُرَرِ التِّيجانِ وغُرَرِ تَوارِيخِ الزَّمانِ ) لأبي بكرٍ بْنِ عَبْـدِ الله بْنِ أيبَك صَاحِبِ ( صَرْخَدْ ) مِنْ عُلَماءِ القَرْنِ الثَّامِنِ ، ونَقَلَ كلامًا عنْ أُناسٍ مِنَ القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ .
* والفَرَّاءُ فَطِنَ رحمهُ اللهُ إِلَى أَنَّ كثْرةَ الاسْتِعْمالِ تُـبْـلِي الأَلْفاظَ ؛ فقالَ : ( "ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ " : هِيَ في قِراءَةِ عَبْدِ الله : "ولَسَيُعْطِـيكَ " ) ، قالَ : ( والمعْنَى واحِدٌ ، إِلَّا أَنَّ "سَوْفَ " كثُرَتْ في الكَلَامِ وعُرِفَ مَوْضِعُها فتُرِكَ مِنْها الفاءُ والواوُ ، والحرْفُ إِذَا كثُرَ فرُبَّما فُعِلَ بِه ذلِكَ ؛ كما قِيلَ : أَيْشٍ تَقُولُ ؟ ، وكما قيلَ : قُمْ لاباكَ ، وكما قيلَ : قُمْ لَـبْشانِـئِكَ ! يُريدُونَ : لا أبَا لَكَ ، ولا أَبَا لِشَانِـئِكَ ! ) ذَكَـرَ ذلِكَ في ( مَعانِي القُرْآنِ ) ؛ ففَطِنَ رحمَه اللهُ لِـهذِه الظَّاهِرةِ مِنْ ظَواهِرِ اللُّغةِ ، وهِيَ دائِرةٌ في اللُّغاتِ كُلِّها .
فإِذَا عرَفْتَ هذَا وتأَمَّلْتَ فيه تَسْتَطيعُ أَنْ تَعْرِفَ مَعانِيَ كلِماتٍ تدُورُ علَى لِسانِكَ لا تُلْقِي لَها بالًا ، فإِذَا أَرْجَعْتَها إِلَى أَصْلِها عَرَفْتَها ، وإِذَا عَرَفْتَها وتَحقَّقْتَ مِنْها أَدْرَكْتَ مَعْناها ومَرامِيَها وما وَراءَها .
قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ : ( هذَا اللَّفْظُ كثُرَ في كلامِهمْ وشَاعَ اسْتِعْمالُه ، وهُمْ لِـما كثُرَ في اسْتِعْمالِـهِمْ أشَدَّ تَغْيِـيرًا ، كما جاءَ عنهُمْ لِذَلِكَ : لَـمْ يَكُ ، ولَـمْ أَدْرِ ، ولَـمْ أبَلْ ، وأَيْشٍ تقُولُ ؟ ) ، وكلُّ هذَا إِنَّما هُو قَصٌّ مِنْ تِلْكَ الأَحْرُفِ في بَعْضِ الكلِماتِ بلْ كما وَقَعَ في بَعْضِ الـجُمَلِ كما في قَوْلِ العامَّـةِ في مِصْرَ : ( مَساءُ الخيْرِ ) فَصَارَتْ علَى التَّسْهِيلِ : ( مَسَا الخيْرِ ) ثُمَّ صَارَتْ : ( سا الخِير ) ، وكُلُّ ذلِكَ إِنَّما هُو بِـلًى يُدْرِكُ الكلِماتِ حتَّى تَصِيرَ إِلَى تِلْكَ التَّراكِيبِ .
قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَيْضًا : ( لَـمَّا كثُرَ اسْتِعْمالُها لَها تلاعَبَتْ بِها العَربُ كأَشْياءَ يكثُـرُ تَصَرُّفُها فيها لِكَثْرَةِ نُطْقِها بِها ) اهـ ؛ فهذِه ظاهِرةٌ مِنْ ظَواهِرِ اللُّغةِ بَحثَها عُلَماؤُنا وفَطِنُوا لَها قَديمًا ، ورَصَدُوها وكتَـبُوها .
وكانَ الوَاجِبُ أَنْ يَصِلَ الخلَفُ أَنْـفُسَهُمْ بِمَوْصُولِ السَّلَفِ وأَنْ يَـشِيدُوا علَى ما أَسَّسُوا ، تَمامًا كما وَقَعَ مِنْ عَبْدِ القاهِرِ في كِتابَيْه : ( دلائِلِ الإِعْجازِ ) و ( أَسْرارِ البلاغةِ ) ، فقَدْ أَسَّسَ نَظَرِيَّـةَ النَّظْمِ قائِمةً ، ودَلَّ علَى العلاقَاتِ ، وأرْجَعَ ذلِكَ إلَى النَّحْوِ ، وأَسَّسَ أَسَاسًا مَتِـينًا لَـمْ يَلْتَـفِتْ إِلَـيْه أَحَدٌ .
ثُمَّ جاءَ مَنْ جاءَ بَعْدُ ممَّنْ بَحثَ في اللُّغاتِ مِنْ عُلَماءِ الغَرْبِ كَـ ( فندريس ) وأَمْثَالِه ، وتكلَّمُوا عنْ نَظَرِيَّـةِ ( النَّظْمِ ) كأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَسَّسُوها وهُم الَّذينَ وَضَعُوا قَواعِدَها ! ، وكُلُّ ذلِكَ مَسْرُوقٌ ، وكلُّ ذلِكَ عِندَنا نَحْنُ ! .
فأَمْثالُ هذِه الأُمُورِ مَبْثُوثَـةٌ بِفَضْلِ الله تبارَكَ وتعالَى في كُتُبِ أَسْلافِنا ، ولكِنْ تَحْتاجُ جيلًا ناهِضًا مُحْـتَسِبًا صَابِرًا يُهْمِلُ أَمرَ المالِ والزَّمنِ ، ويتبَـتَّـلُ في مَحاريبِ العِلْمِ طَالِـبًا ، ويَعْكُفُ علَى آثارِ أَجْدادِه وأسْلافِه سَاهِرًا ، ويُنَقِّبُ في الأَضابِيرِ في بُطُونِها ، مُسْتَخْرِجًا كُنُوزَها ودَفائِـنَها .
وكَمْ مِنْ غَوَّاصٍ غاصَ في بِحارِ أَسْلافِنا فأَخْرَجَ مِنَ اللَّآلِـئِ ما يَبْهرُ الأَنْظارَ ، ويُحَيِّرُ العُقُول والأنْظارَ ، وما زالَ البَحْرُ زاخِرًا ، زاخِرًا بِما فيه مِنْ تِلْكَ الكُنُوزِ .
نسْأَلُ اللهَ أَنْ يُهَـيِّـئَ لِـهذِه الأُمَّـةِ مِنْ أَمْرِها رَشَدًا .
منقول : شبكة الآجري

شكرا بارك الله فيك

وفيك بارك الله ، جزاك الله خيرا على المرور الطيب.

شكرا جزاك الله خير

العفو…أهلا و سهلا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.