تخطى إلى المحتوى

طبقات علم النسب 2024.

رسائل في علم الأنساب
2

طَبَقَاتُ النَّسَبِ

كتبه
الحسين بن حيدر

س/ما معنى طبقة نسب ؟
الطّبَقات هي المَنازِل والمَراتِب . والطبقات هم القوم المتشابهون في أمرٍ . وكلُّ مَفصِل طَبَق ؛ والجمْع أطْباقٌ . والمراد بها تلك المفاصل التي تكون في سلسلة النسب ، أو تلك المنازل التي ينزلها الرجال المشهورون في سلسلة النسب .
س/وما هي طبقات النسب هذه ، وكم عددها ؟
هذه الطبقات التي للنسب هي : الشعب ؛ والقبيلة ؛ والعمارة ؛ والبطن ؛ والفخذ ؛ والأسرة . سِتُّ طبقات .
س/هلاَّ فَصَّلْتَ القول في تبيين كل واحدةٍ ؟
الشَّعْبُ : هو الطبقة الأولى ، وهو النسب الأبعد ، كعدنان بالنسبة للعرب العدنانيين ، وقحطان بالنسبة للعرب القحطانيين ، وإسرائيل بالنسبة لبني إسرائيل ، سُمّي الشَّعبُ شعباً لأن القبائل تشعبت منه ، ويجمع على شُعُوبٍ ، والشعب يجمع القبائل.
القَبِيْلَةُ : هي الطبقة الثانية ، وهي ما انقسم الشعبُ فيها ، كربيعة ومضر ، وتسمى جمجمة ، والقبيلة هي التي تجمع العمائر ، والشعب هو الذي يجمع القبائل ، ومتى تقادم الزمان وطالت الأنساب تحولت القبائل إلى شعوب ، ففي زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّم كانت قريش قبيلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، وكان مضرُ شعبٌ وربيعةُ شعبٌ، والقبيلة من بين هذه الطبقات هي التي كانوا يُجوِّزون إطلاقها على كل طبقة من طبقات النسب .
والقبيلة سُميت بهذا الاسم لإطباق تجمعاتها التي هي العمائر وما دونها على بعضها ؛ أخذاً من قبائل الشجرة التي هي فروعها كما في قول الزجاج أو من قبائل الرأس التي هي عظام الجمجمة كما في قول الأكثر ؛ وهي أربعة أعظم مشعوبة ؛ فكل فلقة من تلك العظام عظام الجمجمة المتشعبة تسمّى قبيلة ، وكل قبيلة منها قد قوبلت بالأخرى ، فكذلك العمائر والبطون والأفخاذ والعشائر قد تقابلت في الحسّ والمعنى للحميّة والعصبية فكان لها قوة وصلابة كالتي تكون للجمجمة التي هي عصمة للدماغ من التلف ، والعرب قد يطلقون على القبيلة اسم الجمجمة ، القبائل التي تجمع وتنسب إليها البطون دون النسبة إلى البطون ؛ نحو كلب بن وبرة ؛ إذا قلت كلبيٌّ استغنيت أن تنسب إلى شيء من بطون كلب .
والحاصل أن القبيلة هي مجتمع ينتسب إلى أبٍ واحدٍ غالباً يحامي عن شرف ذلك الأب ويتعصب له ، لذلك المجتمع صفات وسلوكيات مُتَّحِدَة يضم تكتلات لها ما للمجتمع الأم من أوصاف وسِمات ، تعمل هذه التكتلات لصالحها الذي هو صالح المجتمع الأمّ ولا يتعارض معه في شيء ، وتكون هذه التكتلات قائمة بنفسها ذات استقلال ذاتي داخل المجتمع الأمّ ، وباختصار نقول : هي أكبر تَجَمُّع لِنسلِ رجلٍ ، ذو حميّة واحدة ، وسلوكيات متشابهة ، يكون في ضمنه تجمعات.
العِمَارَةُ : هي الطبقة الثالثة ، وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة ، كقريش وكنانة ، ويجمع على عمائر و عمارات ، والعمارة هي التي تجمع البطون والذي يجمع العمارة هو القبيلة ، قال في لسان العرب : والعِمَارة والعَمارةُ : أَصغر من القبيلة ، وقيل : هو الحيُّ العظيم الذي يقوم بنفسه ، ينفرد بِظَعْنِها وإِقامتها ونُجْعَتِها ، وهي من الإِنسان الصدر ، سُمِّي الحيُّ العظيم عِمَارة بعِمارة الصدر ، وجمعها عَمائر .. قال الجوهريّ : والعَمَارة القبيلة والعشيرة ، .. وفي الحديث : أَنه كتب لِعَمَائر كَلْب وأَحْلافها كتاباً ؛ العَمَائرُ : جمع عَمارة، بالكسر والفتح ، فمن فتح فَلالْتفاف بعضهم على بعض كالعَمارة العِمامة ، ومَنْ كَسَرَ فلأَن بهم عمارةَ الأَرض ، وهي فوق البَطْن من القبائل ، أَولها الشَّعْب ؛ ثم القبيلة ؛ ثم العَمارة ؛ ثم البَطْن ؛ ثم الفَخْذ . ومثَّلوا لها بالنسبة للعمود النبوي بِمُضَر ؛ حيث كان قبيلة فانقسم فيه العمائر كقريش ، وكنانة ، وتميم، وأسد ، وهذا المثال قبل أن تصير قريش وكنانة وتميم وأسد قبائلاً ، أمّا في زمن النبوّة فقد كانت كلها قبائل .
البَطْنُ : وهو الطبقة الرابعة من طبقات النسب ، وجمعه بطون ، وهو : ما انقسم فيه أنساب العمارة ، وهو الذي يجمع الأفخاذ حيث تلتقي عنده ويجمع البطون العمارة ، قال في لسان العرب : والبَطْنُ : دون القبيلة ، وقيل : هو دون الفَخِذِ وفوق العِمارة ، مُذَكَّر ، والجمع أَبْطُنٌ وبُطُونٌ . وفي حديث عليّ عَلَيْهِ السَّلامُ : كَتَب على كلِّ بَطْنِ عُقولَه ؛ قال : البَطْنُ ما دون القبيلة وفوق الفخِذ أَي كَتَبَ عليهم ما تَغْرَمُه العاقلة من الدِّيات فبَيَّن ما على قوم منها.انتهى
ومثلوا له بقريش في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلِهِ وسَلَّم ، فقد كان عمارة فانقسم إلى بطون و هي : آل قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي , وآل مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب , وآل عدي بن كعب ، وكل تلك إنما هي أمثال ضربوها لتقريب الفهم ، أما قريش الذي هو النضر بن كنانة فقد كان في الزمن الذي كان فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلِهِ وسَلَّم والذي فيه هاشم قبيلة في عرف الناس ولا شك ، وكانت هذه البطون الثلاثة التي عددناها عمائر .
الفَخْذُ : هو الطبقة الخامسة من طبقات النسب ، وعرّفوه بأنه الذي تنقسم فيه أنساب البطن ، وأنه الذي يجمع الفصائل و يجمع الأفخاذَ البطنُ ، فالفخذ أسفل البطن، قال في لسان العرب : " وفَخِذُ الرجلِ : نَفَرُهُ مِن حَيِّهِ الذين هم أَقرب عشيرته إِليه ، والجمع كالجمع وهو أَقل من البطن ، وأَولها الشَّعْبُ ، ثم القبيلة ثم الفَصِيلة ثم العِمَارة ثم البَطْن ، ثم الفخذ ؛ قال ابن الكلبيّ : الشَّعْبُ أَكبر من القبيلة ثم القبيلة ، ثم العِمارة ، ثم البطن ، ثم الفَخِذُ . قال أَبو منصور : والفصيلة أَقرب من الفخذ ، وهي القطعة من أَعضاء الجسد".انتهى
ومثَّلوا للأفخاذ بالنسبة للعمود النبويّ ؛ كآل عبد مناف بطن انقسم إلى أفخاذ وهي : آل هاشم , وآل عبد شمس ، وآل المطلب ، وآل نوفل .
الأُسْرَةُ : هي التي تكون دون الفخذ ، وتجمع الفصائل التي تجتمع عندها ، فالأسرة كالكف الذي تجتمع به الأصابعُ وتُشكِل للكفِّ قوته ومنعته ومنافعه وقدرته ، كما أن الأصابع تعضد بعضها بعضاً .
س/فهل تُعْتَبَرُ الكثرة عند القبيلة ؟ أم أيّ شيء يميز القبيلة و بأي شيء تُعْرف ؟
الحق الذي عليه العرب والقدماء أن الكثرة لا اعتبار لها ، وإنما العبرة بتلك الصفات التي تميز القبيلة ، التي هي حصول الاستقلال لتلك الجماعة ، وتوفر العصبية والحميّة بين أفرادها لنسل الأب الجامع ، حتى عدَّ العربُ تكتلاتٍ صغيرةً جداً قبائل ؛ فقالوا مثلاً ؛ هذه القبيلة لا يزيد عددها عن أربعين رجلاً ، وتلك لا يزيدون فيها عن أربعة أو خمسة .
وكيف يحصل هذا؟
يحصل إذا كان جَدَّان أَخَوَان ، كان أحدهما مُكْثِر حتى عُدَّ قبيلةً في نَسْله ، فهذا لا مِرْيَة فيه . والآخر مُقِل ، فليس له إلا نسل قليل معدود ، فإنَّ فَأَلَ أخيه المكثر يتعدى إليه ، فيكون قبيلة في عُرف أهل النسب ، وهذا حاصل ولا معنى لِلتَّكَلُّف بِرَدِّهِ ، والشأن في الإكثار والإقلال كالشأن في الشهرة والخمول كذلك.
كما أن لعامل تَقَادُمِ الزمان أثر مهم ، أو بمعنى آخر ؛ الذيول الطويلة والسلاسل البعيدة . فالقبيلة هي مؤسسةُ مجتمعٍ طبيعي ؛ يتعصّب لأبٍ أعلى في سلسلة النسب المشتركة ؛ فذلك المجتمع له صفات وسمات خَلْقيّة وخُلُقِيّة متجانسة ومتشابهة ؛ وليست كثرة العدد شرطاً فيه وإنما العصبية وعامل الزمان المتقدم ، أو الحال الذي ذكرنا في المكثر والمقل . وقد لا يصير الأخ قبيلة لعدم اشتهاره ، قال السويدي: قد يكون لأب القبيلة عِدَّة أولاد ، فيحدث عن بعضهم قبيلة أو قبائل ، فَيُنْسَب إلى الولدِ أي القبيلة ، وقد يبقى بعض أولاد الأب القبيلة بلا ولد ، أو يولد له ولم يُشتهر ولدُه ، فيُنْسبُ إلى القبيلةِ الأولى .
ولذا فإن بعض الذين يحكون سلاسل النسب أو بعض المشجرين لا يذكرون هذه الطبقات ، ولا يبينون هذه المفاصل ، وهذا عيبٌ ليس بالهين ، لأن سرد السلسلة هكذا باستطالة بلا تمييز لمفاصل النسب فيها ، ولا ذكر لأفرع طبقاتها على وجه الإجمال ، قد يجعل منها قليلة الفائدة وربما عديمتها ، وربما عرضت لها شكوكُ بعض المستفيدين .
ويفترق البطن أو الفخذ عن القبيلة في أمر واحدٍ وهو التعصب لأبٍ أوسط في سلسلة النسب – كل بحسبه – مقَدّمٌ التعصّبُ إليه على الأبِ الأَعلى ؛ وكذلك الحال في الفصيلة ؛ حيث يتعصّب فيها إلى أبٍ أدنى أي أقرب ؛ وهذه الطبقات حاصلة طبعاً ؛ أدرك ذلك من أدركه كالبدو أم لم يدركه أحدٌ كبعض أهل الحضر ، ولذا فإننا عند دراستنا للأنساب نُطَبِّقُ قانون العرب من أهل الوبر في النظرية والعمل كما أفاده مشايخنا.
س/هل العشيرة والرهط من طبقات النسب؟
العَشِيْرَةُ اسم مشترك يقع على كل طبقة من طبقات النسب ، فهو يطلق على القبيلة الكبيرة كما يطلق على الطبقة الدنيا التي هي الفصيلة ، ومثله الرهط ، واللفظ المشترك هو اللفظ الواحد الذي له عدة مسميات متباينة ، كلفظ العين ، فإنه يطلق على الباصِرة ، والنَّقْدَيْن ، والجاسوس ، والجارية ، والشمس ، وذات الشيء.
قال أهل اللغة : عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون الذين يعاشرونه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّم ولما أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ} قام فنادى يا بني عبد مناف!. قال في لسان العرب: وعَشِيرَة الرجل: بنو أَبيه الأَدنونَ، وقيل : هم القبيلة ، والجمع عَشَائر .
وأمَّا الرهط وهو ليس من الطبقات ، وإنما هو عبارة عن جماعة ذات صفة معينة، بمعنى أنهم أقرب الناس إلى الرجل، وأخص الناس به، كبني هاشم بالنسبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلِهِ وسَلَّم، فهو بالنسبة له يجمع فصائل آل هاشم الذين هم آل أبي طالب، وآل العباس، وآل الحارث، وآل حمزة، وآل أبي لهب.
والحاصل الذي نَصِيرُ إليه أن الرهط والعشيرة سيَّان كما هو مذهب ابن الكلبيّ وكما هو مذهب أهل اللغة ، قال في لسان العرب : رَهْطُ الرجلِ : قومُه وقبيلته . يقال : هم رَهْطه دِنْية ، والرَّهْطُ : عدد يجمع من ثلاثة إِلى عشرة ، وبعض يقول من سبعة إِلى عشرة ، وما دون السبعة إِلى الثلاثة نَفَرٌ ، .. قال أَبو منصور : وإِذا قيل بنو فلان رَهْط فلان فهو ذو قَرَابَتِهِ الأَدْنَوْنَ ، والفَصِيلةُ أَقربُ من ذلك .. والرهط ؛ عَشِيرة الرجل وأَهلُه ، وقيل : الرهطُ من الرجال ما دون العشرة ، وقيل: إِلى الأَربعين ولا يكون فيهم امرأَة ، وهذا تَحَكُّمٌ ، وإنما أخذوه من حديث ضيافة النبي لرهطه المخلصون آل هاشم لما نزل قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ} ، وهذا غير مُلزِم ، وما قالوه عن العشيرة وعن الرهط أنهما قبيلة الرجل فهذا كما أسلفنا وقلنا أن القبيلة مما تتجوّز فيه العرب وتطلقه على جميع الطبقات ، مع أنهم يعرفون للقبيلة التقدم والعلو على غيرها من الطبقات .
س/وهل الفَصِيْلَةُ من طبقات النسب؟
الفصيلة ليست من طبقات النسب ، وقد عدَّها بعض النُّسَّاب الطبقة السادسة من طبقات النسب ، وهذا غلط ، وعرَّفوها بأنها ما انقسم فيه أنساب الفخذ ، ومثَّلوا لها الرُّكْبَة التي تنفصل من الفخذ ، وإنما نَدَرَتَ الفصيلةُ عن أن تكون من طبقات النسب لأنها لا تستوعب نفس المتكلم المنتسب ، فلو قال العلوي : إن آل عمنا العباس بن عبد المطلب هم فصيلة من فصائل هاشم ، فهو يعني أنه من فصيلة أخرى من فصائل هاشم ، فالفصيلة إنما تكون على هامش النسب ، كحال آل أبي طالب ؛ وآل العباس ؛ وآل أبي لهب ؛ وغيرهم من أولاد عبد المطلب بن هاشم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، كل أولئك فصائل أسرة هاشم في ذلك الزمان . فالفصائل هم الأحياء وجمعه حَيٌّ ، حيث انفصلوا من الأسرة ، فكل واحد من أولئك يقال فيه أنه حيّ مِن أحياء هاشم بن عبد مناف . وهي كالأصابع بالنسبة للكف .
س/حدِّثني ؛ كيف تنشأ طبقة النسب ؟
طبقة النسب تنشأ متى ضَعُفَتْ العصبية لعامل الزمان الذي يباعد الأنساب ويُطِيلُ أذيالها ، فتنشأ الطبقة متى شعر الفردُ بِوَهَنِ النُّعرة والنصرة عند الشدائد والجوائح ، فمن ثم يَسْتَقطِبْهم ذِكْرُ جَدٍّ قريبٍ يجدِّد لهم العصبية والحمية والنصرة ، وهكذا دواليك تتجدد العصبية وعنها تنشأ طبقة جديدة من طبقات الأنساب ، فمتى نشأت طبقة جديدة تغير اسم الطبقة التي قبلها إذ ترقى ، فيصير الفخذ بطناً ، والبطن عمارة ..
والمقصود بالعصبية هنا ليس الحكم المُسبق ؛ والحكم الجائر ؛ أو الحَمِيَّة الجاهلية ، وإنما المقصود بالعصبية عند أهل النسب النُّعرة الحميدة التي هي من لوازم القرابة ؛ والتي منها النجدة والنصر والشفاعة ؛ حيث يدور أهلُ بيتٍ في فلك أبٍ ينتسبون إليه يكون لهم كالقُطْبِ مِن الرَّحَى ، وهذا أمر طبيعي ؛ ومُسَلَّم ؛ لا مورد للخلاف فيه ، فالعصبية من صلة الرحم ؛ ودليل على تماسك أهل البيت الواحد ، وانسجامهم مع بعضهم ، ووطنيتهم ، وكرم محتداهم ، وهي مطلوبة شرعاً ، فحفظ النسب من مقاصد الشريعة ، كما مر في السبب الذي من أجله تنشأ طبقة ما من طبقات النسب . فالحَمِيَّةُ خصلة محمودة ، فأنت تنصر قريبك المظلوم بها حتى يسترد حقَّه {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} ، وهي في الدنيا أما في الآخرة فقد بيَّن الله مصيرها في قوله :{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}كناية عن عدم النصير ، فنفسك نفسك!. وأنت تنصر قريبك الظالم بها أيضاً بِمَنْعِه عن الظُّلم وَبِرَدِّهِ إلى رُشْدِه ، وهي من جِبِلَّة الإنسان ، لأن الإنسان مدني بطبعه ، ولذا فإن العصبية مُتَوافِرَة في المجتمعات الإنسانية كافة ؛ ولدى أهل كل طبقة من طبقات النسب ؛ ولكن بتفاوت بينها ولا شك ، وهذه سُنَّة الله وإلا نتج شرٌّ عظيم ، ولذا فإنها متدرجة من الأخص إلى الخاص إلى العام إلى الأعم لدى كل فرد من أهل الديانات والأجناس المختلفة ، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صعد الصَّفا رتَّب قريشاً على مراتب في شدة تعصبها له صلى الله عليه وآله وسلم.
س/هل من زيادة توضيح ؟
نعم ، إنَّ هذه الطبقات التي للنسب إنما تظهر وتتميز عن بعضها عند الشدائد والنكبات والجوائِح عنوةً لا عن اختيار ، فنجد طبقات النسب تترتب على هذا النمط في التفاف أفراد القبيلة حول الفرد وبتعصب كل بني أب عند ذِكْرِه وبانضمامهم إلى بعضهم دون بني عمهم ، فكلما كانت جماعة هي أقرب من غيرها كانت في العادة هي الأخص بالفرد ، والأكثر حمية وغيرة له ، وأشد دفاعاً عنه ، وأكثرهم استماتة في سبيل نصرته ، فالناس أبناء الجد الواحد يتشكلون هكذا تلقائياً في الأمور المهمة متى صاح صائحٌ ؛ وبالتالي تتبين لنا تلك المفاصل في جسم القبيلة ، وبالتالي نعرف الخاص والأخص ، والعام والأعم ؛ فالاعتضاد بالعشيرة والتكثّر بها يكون وفق درجات بحسب القرب ، وعلى قدر ذلك القرب يكون الولاءُ والوفاءُ ، وعلى قدر البُعد يكون البراءُ والجفاءُ، وهذا أمر مُسلَّمٌ جداً ولا نعرف فيه خلافاً .
قال المؤرخ جوادُ عليّ:"وجرثومة العصبية ، العصبية للدم ، وأقرب دم إلى الإنسان هو دم أسرته ، وعلى رأسها الأبوان والأخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد،حتى تصل إلى العصبية للقبيلة ، ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدهما ، فإذا ما حلَّ حادث بإنسان فعلى أقرب الناس دماً إليه أنْ يهبَّ لإسعافه والأخذ بالثأئر ممن ألحق الأذى بقريبه ، ولهذا صارت درجات العصبية متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب".
وهذا تماماً الذي حصل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلِهِ وسَلَّم ، فكان أشد الناس التفافاً حوله ، وأصدقهم إيماناً به قرابته الأدنون الذين هم بنو هاشم بن عبد مناف دون بقية عشيرته التي هي قريش ، وكان التالي لهاشم بن عبد مناف بقية آل عبد مناف بن قصي وهم آل المطلب بن عبد مناف ، وخذله بنو عبد شمس وبنو نوفل ابنا عبد مناف بن قصي وكذَّبوه واستبدلوا القرابة بالأبعدين ، كما قال أبو طالب بن عبد المطلب في لاميته الشهيرة :
جزى اللهُ عنّا عبدَ شمس ونوفلاً
لقد سفهتْ أحلامُ قومٍ تبدلوا
أعبد مناف أنتمو خير قومكم
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم
لعمري لقد أوهنتمو وعجزتمو
وكنتم قديماً حطب قدرٍ فأنتمو
ليهنىء عبد مناف عقوقها

عقوبةَ شرٍّ عاجلاً غيرِ آجل
بني خلف قيضاً بنا والغَيَاطِلِ
فلا تشركوا في أمركم كلَّ واغلِ
تكونوا كما كانت أحاديث وائلِ
وجئتم بأمر مُخْطِيءٍ للمفاصِلِ
الآن حطاب أقدر ومراجل
وخذلانها ، وتركنا في المعاقل

وكان النويريّ قد زاد الجذم ثم الجماهير قبل الشعوب ، وهي زيادة ليست بلازمة ، وزاد نشوان الحميريّ الجيل بين الفخذ والفصيل ، وليس بجيد ، كما أنه ليس في عُرْفِ العرب ، والجِذْم ؛ هو الأصل والجرثومة.
س/أرأيتَ الخامس!، ما مقصودهم به ؟
الخامس وجمعه خوامس ، والمقصود به أن يتعَصَّب قوم لجدِّهم الخامس ، بمعنى أن ينتسب قوم إلى جَدِّهم الخامس في سلسلة النسب ، ويتكَّون لديهم من عنده نوع استقلال عن كيان الطبقة النَسَبِيَّة المباشرة له ، وهذا الاستقلال يسمى بالعصبية كما سبق بيانه في سبب نشوء طبقات النسب .
والحاصل أننا نقول في تعريف الخوامس : وِحْدَةٌ اجتماعية ؛ متكاملة ؛ ومندمجة ؛ ومتآلفة ؛ ويتعصب أفراده لبعضهم؛ كل ذلك يكون في أقصى حَدٍّ ممكن بعد العائلة .
فالتسمية بالخوامس متأخرة ، والمتقدم هو التعبير عنها بالبيوت ، وهي في الحقيقة ليست تسمية بقدر ما هي بيان لحال العصبية التي تكون للفرد مع مجتمعه ، ومكامن شِدَّتها وتفاوت ثورتها في طبقات النسب ، وتشخيص لخصائص اجتماعية تتعلق بمجموعة ، فهي متأخرة أما أصلها فقديم .
س/هل يُعبِّرون عنه بلفظ آخر؟
يعبرون عن هذه العصبية كما قلنا بالخامس وجمعه خوامس ، وهم يقصدون بهذه العصبية طبقة من طبقات النسب التي مرّ التعريف بها ، وهذه الطبقة هي الأسرة الجامعة للفصائل ، أو هي بتعبير آخر البيت ، وجمعه بيوت ؛ وأبيات ، والبدنة.
فالخوامس عصبية وحمِيَّة يُعبَّر عنها تارة بالبيت وبأهل البيت ، يقال : في الفخذ الفلاني سبع أبيات ؛ ولذوي المكانة والعز والشرف يعبر عنها بالبيوتات ويقصدون سبع خوامس ، وهكذا . ومتى كثر عدد أفراده وتجاوز القدر المألوف فإنه يُستعاض عن هذه التسمية بالفخذ ، لأنه قد ارتقى إلى طبقة أعلى من طبقات سلسلة النسب . والعاملان المؤثران في ذلك هما :
1. عامل الزمان .
2. عامل الكثرة والعدد.
فهذان العاملان يؤثران في الغالب الأكثر . وإلاَّ فإن هناك عاملٌ قوي ومؤثر كان معتبراً في النظرية ومطبقاً في واقع الأمر ، وذلك متى كان أفراد الجيل متفاوتون بين مكثر ومقل ، أو أن بعضهم صاحب شهرة والآخر لا شهرة له .
وحيث أننا سلَّمنا بأن الخامس يدعى بالبيت والبدنة وبالأسرة فإنه يجب ملاحظة أن الفصيلة تختلف عن الأسرة أو البيت ، حيث أن الخوامس يتألف من عدة فصائل ، فالفصيلة هي إحدى الأجزاء المكونة للخوامس ، فكما أن آل هاشم يشكلون بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن آل أبي طالب بن عبد المطلب يُكَوِّنون أحد فصائل ذلك البيت ، وآل أبي لهب بن عبد المطلب فصيلة ، وآل العباس بن عبد المطلب فصيلة ، وآل جعفر بن عبد المطلب فصيلة ، وآل الزبير بن عبد المطلب فصيلة ، وآل الحارث بن عبد المطلب فصيلة ، فكل هذه الفصائل الهاشمية تُكوِّن أسرة هاشم وأهل بيته ، أما العائلة فهي خاصة الرجل الذين يعولهم ، وهم أولاده وزوجته الذين يحويهم البيت السكني المبني من اللبن والخشب ، والحاصل أنه ليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده .
أما ما يتعلق بآية التطهير من سورة الأحزاب فإن تأويلها قد بينته السنة ، وهو مصطلح شرعي ، فلا يعم كل بني هاشم .
س/و لماذا الخامس ؟
لأن بعد خمسة أجيال لابد أن تحصل عصبية للجد الخامس يتعصب إليه ذووه ، لأنه قد تَكَوَّنَ لديهم مفصلٌ في سلسلة النسب قد ميزهم عن بقية قرابتهم ، وهو أمر طبيعي ، ونعني بكونه طبيعي ؛ أنه قديم وغالب ، وقد قال العباس بن عبد المطلب يوماً : أنا المُسْقِي بن المسقي بن المسقي بن المسقي بن المسقي . فتوقف عند قصي بن كلاب جده الخامس ساقي الحجيج ، لأنه عند قصي تكونت لهم عصبية خاصة ضمن العصبية العامة التي هي التعصب للقبيلة الأم وهي قريش ، وهي بالنفس أتوق ، وبالإنسان ألزم ، ومعلوم أن أول من سقى بزمزم إنما هو عبد المطلب ، إذ كانت قبل ذلك مطمورة مطبقة ، فسقى لهم منها ، وسقى أسلافه من غيرها.
وسواء كان للجد الخامس إخوة أم لا إخوة لديه ، فلو فرضنا عدم الإخوة فإنه يكون قد كوَّن لِعَقِبِهِ عَصبية ينافحون عنها ، ويدورون حول قطبها ؛ وفي فلك حماها وعِزِّها ، ولو فرضنا وجود الإخوة له ، فإنه قد صار بعد الجيل الخامس مِفْصَلاً ، أي طبقة من طبقات عمود النسب ، ويكون قد تكونت له عصبية يدور عَقِبُهُ حول قطبها كما أن لإخوته عصبية تكونت لهم لدى عقب كل واحد منهم .
فالجدُّ الأول لا تتكون له عصبية منعزلة عن إخوته ، ولا تنفك العصبية لدى عقبه عن التعصب للجد الأعلى منه ، لأن النفس البشرية كما أنها تواقة لتكوين عصبية قريبة مستقلة ، فإنها في المقابل تكره أن تستقل بعصبية في مرحلة مبكرة ، لأن هذا يكون بمثابة الثورة على الوطنية ، وبمثابة التنكر للقرابة ؛ والقطيعة للرَّحم ؛ وهو لؤمٌ ونذالة ، إلا إن حصل أمر خلاف المتوقع ، ولكن متى تباعدت الأنساب كان ذلك دافعاً للنفس المحِبَّة للمدنية كي تحتمي بكهفٍ يحتوي جوانبها ، وكي تدفأ بنفوس ترى فيهم الحماس لنجدتها أشد ، فتلوذ بقريبٍ قريب ؛ من قريب بعيد بدأت تتحسس منه نوع وَحْشَة ودَهْشَة ، وتتوجس منه نوع غُرْبَة وجَنْبَة ، مع وَهَنٍ في الحماسة نحوها بالنسبة لمن له أقرب ، وهكذا كلما تباعدت الأنساب كلما انتابت النفس منها الوَحْشَة ، وأقلقت جَنَبِاتِها الغُربة ، وبردت عنها الحمية ، ونقصت فيها العصبية.
ولذا فإن خصائص أهل البيت الواحد أنهم يعقلون ـ من العقل ـ ، ويضمنون من ـ الضمان ـ ، يألفون بعضهم إلى أقصى حد .
وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء ، وذكر ثَمَّ أن اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب ، وإلا فقد يندثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم ، وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس ، إلا أنه في انحطاط وذهاب ، واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر له ومقلد وهادم وهو أقل ما يمكن ، وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ؛ إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد . وفي التوراة ما معناه : إن الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث والروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب.
س / هل يمكن أن يحصل المفصل في سلسلة النسب قبل الجد الخامس أو بعده ؟
وقد يحصل المِفْصَلُ قبل الخامس أو بعده ، ولهذا أكثر من سبب :
السبب الأول : لأن الاسم الذي حصلت له العصبية إما أن يكون غريباً في لفظه ؛ أو في اشتقاقه ؛ أو في جَرْسِهِ ؛ أو لأجل استعماله لأول مرة عند القوم .
السبب الثاني : لأن صاحب العصبية كان أسود ـ من السيادة ـ من الذي قبله أو الذي بعده ، ونعني أنه متصف بإحدى أمهات الفضائل الأربعة .
السبب الثالث : حدوث شر أو عداوة . كما استقل عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بنوع استقلال عن آل عبد مناف ، وأسس لأهل بيته عصبية بدأت من أبيه هاشم بن عبد مناف ، ومثله فعل عمه المطلب بن عبد مناف ، فأسس لأهل بيته عصبية بدأت من عنده ، ثم تحالفا في مقابل حلف عبد شمس بن عبد مناف ، ونوفل بن عبد مناف اللذان كانت لذويهما عصبية نشأت من عند عبد شمس ونوفل.
السبب الرابع : لكون الرجل الذي حصلت عنده العصبية من أهل الأموال أو أهل الرياسات .
السبب الخامس : الغُرْبَةُ والبُعْدُ عن الدِّيارِ .
السبب السادس : ما سبق بيانه في القبيلة عند ذكر الأخ المكثر والأخ المُقل والشهرة والخمول.

شكرا أخي الكريم عن الافادة

شكراً جزيلاً لك

معلومات رائعة ومفيدة .. شكرا لك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.