صُلحُ الحُدَيبِية… الفَتحُ المُبِينُ
الشيخ أزهر سنيقرةإنَّ حاجةَ المسلمينِ إلى أخذِ العبرِ والدُّروسِ من سيرة نَبِيِّهم صلى الله عليه وسلم تُعتبر من أُولَى الأَوَّلِيَّاتِ، خاصَّةً في مثل هذا الزَّمان، الَّذي عَزَّتْ فيه القدوةُ الحسنةُ، وتَتَابَعَتْ على المسلمين فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيل المظلم، كان من أشدِّها تَكَالُبُ الأعداء عليهم على اختلاف مناهجهم وأديانهم، استوجبتْ عليهم أن يُراجِعوا سيرةَ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ويستحضرُوا مآثرَه تحقيقًا لقول الله جلَّ وعل حيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾[الأحزاب: 21]
وإنَّ من أهمِّ أحداث السِّيرةِ التي كان لها الأثرُ البالغُ في حياة نبيِّن صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصَّحابة الكرام حادثةَ الحُدَيْبِيَة، أو ما اصْطُلِحَ على تسميته بصُلْحِ الحديبية، التي كانت بُشْرَى عظيمةً لنبيِّن صلى الله عليه وسلم ومن معه، والصُّلْحُ والإِصْلاَحُ والصَّلاَحُ مِن قِيَمِ الإسلام البارزة، بل هي دعوتُه.
والصُّلح هنا المقصودُ به الاتِّفاق على السِّلْمِ بين الطَّائفتين المُتحاربتين، وهذ سِلْمٌ خاصٌّ؛ لأنَّه بَيْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقومِه الَّذين أخرجوه من أحَبِّ البلاد إليه ودارت بينه وبينهم حروبٌ، ورغم شِدَّة حبِّ الصحابة رضي الله عنهم ـ لمَهْجَرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ مشاعرَ الشَّوْقِ إلى مكَّةَ لم تَخْمُدْ في قلوبهم، وما بَرحُوا ينتظرون اليوم الَّذي تُتاح لهم فيه فرصةُ العودة إليها والطَّوافِ بِبَيْتِهَا العتيقِ، إلى أن جاء ذلك اليوم الَّذي بَرَزَ فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليخبرَهم برؤياه الَّتي رأى فيها دخولَه إلى مكَّةَ وطوافَه بالبيتِ، فاستبشر المسلمون بهذه الرُّؤي لعِلمهم أنَّ رُؤْيَا الأنبياء حقٌّ، وتَهَيَّؤُوا لهذه الرِّحلة العظيمة.
وفي يوم الاثنين من هِلال ذي القعدة من السَّنَة السَّادسة للهجرة خرج الرَّسول صلى الله عليه وسلم ـ، يريد العمرةَ ومعه ألفٌ وأربعمائةٍ من الصَّحابة، وليس معهم إلاَّ سلاحَ السَّفر، فأَحْرَمُوا بالعُمْرَة من ذي الحُلَيْفَة، فلمَّا اقتربوا من مكَّةَ بلَغَهم أنَّ قريشًا جمعتِ الجموعَ لمقاتلتهم وصدِّهم عن البيت.
هذ الخروجُ المبَارَكُ وما تخلَّلَه من أحداث، قد أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» في كتاب الشُّروط من حديث طويل برقم: (2700، 2701، 4252) نَجْتَزِئُ منه م له صِلةٌ بالعِبَرِ والفوائدِ المذكورة لاحقًا، ولعلَّ أبرزَ فصولِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ما تَضَمَّنَهُ الكتابُ الَّذي كان بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومُفَوَّضِ قريش سُهَيْل بنِ عَمْرٍو، بحضور ذلك الجَمع الحاشِدِ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ، وهم يشهدون ويسمعون لتلك الشُّروط التي لم يكن من السَّهل هَضْمُها ولا قَبُوله.
قال البخاري: «قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لم جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ! وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»، ثُمَّ قَال:َ«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللهِ»؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِه:ِ«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَ»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :«عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً أي قَهرً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِم…«.
هذا دون أنْ نَنْسَى ذلك الموقفَ الَّذي وقفه عمرُ رضي الله عنه وهو يُكَلِّم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في مضمون تلك الشُّروط، وما كان من إجاباتِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم له وللمسلمين المتَّسِمَةِ بالحكمة وبُعْدِ النَّظرِ وتركِ الاستعجالِ، والدَّاعيةِ إلى وجوب الثِّقة بالله، وفي وعدِه بِنَصْرِ المؤمنين والتَّحَلِّي بالصَّبر والاحتسابِ.
قَالَ البخاري: «…قال: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ:«بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَ إِذًا؟ وفي روايةٍ: «قال عمر: لَقَد دَخلَني أمرٌ عَظيم، وراجَعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مراجعةً ما راجعتُهُ مثْلَها قَط»، وفي رواية: «كان الصَّحابة لا يَشُكُّون في الفتح لرُؤيا رآها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم , فلمَّا رَأَوْا الصُّلحَ دخلَهم من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتَّى كادوا يَهلكُون» قَالَ:«إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَ أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ:«بَلَى؛ فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَ بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَ الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه والمراد به التَّمسُّك بأمرِه وتركُ المخالفةِ له كالَّذي يُمسِكُ بركب الفارس فلا يُفارقه فَوَالله إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
وفي جواب أبي بكر لعُمَرَ بنظير ما أجابه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دلالةٌ على أنَّه كان أكملَ الصَّحابة وأعرفَهم بأحوالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَهم بأمور الدِّين وأشدَّهم موافقةً لأمر الله تعالى ـ؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ: «قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا» في رواية: «فقال عمر: اتَّهمو الرَّأيَ على الدِّين, فلقد رَأَيْتُنِي أردُّ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأيي, وما ألومُ عن الحقِّ»، وفي رواية: «وكان عمر يقول: ما زِلْتُ أتصدَّق وأصوم وأصلِّي وأَعْتِقُ من الَّذي صَنَعْتُ يومئذٍ، مخافةَ كلامي الَّذي تكلَّمتُ به»
أهمُّ وأبرز وقائع حادثة الحديبية كما رواها بعضُ من حضرها من الصَّحابة رضي الله عنهم ـ، والَّتي وإن كانت في ظاهرها استكانةً وإهانةً للمؤمنين؛ إلاَّ أنَّها في حقيقتها فتحٌ مبينٌ بَشَّرَ اللهُ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم .
عِبَرُهَ وعِظَاتُهَا كثيرةٌ أبْرَزُهَا: أن يَسْتَيْقِنَ المسلمُ بقول الله وقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم ـ، وإن كان في ظاهره على غيرِ مرادِه وعلى غيرِ مبتغاه، وفيه دعوةٌ إلى الصَّبر عند اشتداد استفزاز الكفَّار، فقد حصَل منهم استفزازٌ للمسلمين عند كتابة الصُّلح وبعد كتابته، وممَّا حصل: محاولةُ ثمانين من قريشٍ مهاجمةَ المسلمين على غِرَّة، ثمَّ محاولةٌ أخرى في ثلاثين رجلاً، وقد أَسِرَهُم المسلمُون، وانتظروا فيهم حُكمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذي أمر بإطلاق سَراحهم(1).
وحصلت أمورٌ غيرُها تَحَمَّلَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم منها: رفض سُهيل كتابة «الرحمن» وأبدل ذلك بكتابة «باسمك اللَّهم»، ورفضُه كتابةَ محمَّد «رسول الله» وأبدلَ ذلك بكتابة: «محمد بن عبد الله»، واشترطت قريش أن يرجعَ المسلمون فل يَعْتَمِرُوا هذا العام، بل يأتون في العامِ المقبل، كما اشترطت أن لا يأتيَ رجلٌ منهم إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ ردَّه ولو كان قَدِمَ لأجل الإسلام، وفي هذ بيانٌ للسِّياسةِ الشَّرعيَّة الَّتي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها الإمامُ الأعظمُ أو من كان دونَه, وفيه كذلك حُسْنُ تربيةِ الأتباع على حُسن الظنِّ بالله والثِّقة المطلقةِ بوَعده.
وبينما هم كذلك إذ دخل أبو جَنْدَل بنُ سُهَيل بنِ عَمْرٍو يَرسُف في قيودِه، وقد خرج من أسفل مكَّةَ حتَّى رمى بنفسه بين أَظْهُرِ المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمَّد أوَّلُ من أُقاضيك عليه أنْ تردَّه إليَّ؛ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ـ:«إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَةَ بَعْدُ».
فقال سهيل: «والله إذًا لم أُصالحك على شيءٍ أبدًا»، وأمضى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم م أراد سهيل؛ الله أكبر!.. إنَّه الوفاءُ ولو مع المشْرِك.
سبحانَ الله! فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو «وليُّ أمر المسلمين» يُطلِقُ سراح من يحاول قتلَ المسلمين من الكفَّار، ويسلِّم أبا جَندل لهم، وأبو جَندل ينادي في المسلمين بعدم أُمضيت رغبةُ سُهيل وشُروطه: «يا مَعشَر المسلمين! أَتَرُدُّوني إلى أهلِ الشِّرك فيَفتِنُوني في دِيني».
ومن عِظات صُلْحِ الحديبية: أنَّ الصُّلحَ لا يأتي إلاَّ بالخيرِ كما قال تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [لنساء: 128] وأنَّ الجنوحَ للسِّلم وابتغاءَ الهُدْنَةِ من محاسنِ تعامُل المسلمين مع غيرِهم إذا لم يُكسِبْهم ذُل أو يُفَوِّت عليهم عِزًّا، كما قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾[الأنفال: 61].
والدَّليلُ على ذلك دعوةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قريشًا إلى الصُّلح الَّذي به تُعَظَّمُ حُرماتُ الله وتُحفظُ الدِّماءُ والأموالُ والأعراضُ حيثُ قال صلى الله عليه وسلم :«لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، قال الخطَّابي: «معنى تعظيمِ حُرُماتِ الله في هذه القصَّةِ تَركُ القتالِ في الحرم، والجُنوح إلى المُسالمة، والكفِّ عن إراقةِ الدِّماء»(3).
وقد ظهر أثرُ هذا الصُّلح المبْرَمِ بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقريش، وكان للإسلام والمسلمين فيه النِّصيبُ الأوفرُ، وبه تَحَقَّقَ النَّصرُ الأكبرُ بعد أن كَرِهَهُ جماعةٌ منهم وضاقت أنفسُهم به، وقد جعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [لبقرة: 216].
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ في رواية:«فلمَّا انتهى إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القولُ حتَّى وقع بينهما الصُّلحُ على أن تُوضع الحربُ بينهما عشرَ سنين وأن يَأمَنَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وأن يَرْجِعَ عنهم عامَهُم هذا».. ولمَّا كانت الهُدْنَةُ وَوُضِعَتِ الحربُ وأَمِنَ النَّاسُ، كَلَّمَ بعضُهم بعضًا، والْتَقَوْا وتَفَاوَضُوا في الحديث والمنازعةِ ولم يُكَلَّمْ أحدٌ بالإسلام يَعقِلُ شيئًا في تلك المدَّة إلاَّ دخلَ فيه, ولقد دخل في تَيْنِكَ السَّنتين مثلُ منْ كان في الإسلام قبلَ ذلك أو أكثر يعني من صَنَادِيدِ قُريش ـ، وكان في الصُّورة الظَّاهرة ضَيْمًا للمسلمين وفي الصُّورة الباطنة عِزًّا لهم, فإنَّ النَّاس لأجل الأمن الَّذي وقعَ بينهم اختلَط بعضُهم ببعض من غيرِ نَكِيرٍ, وأسمعَ المسلمون المشركينَ القرآنَ, وناظروهم على الإسلامِ جهرةً آمنين, وكانوا قبل ذلك لا يتكلَّمون عندَهم بذلك إلاَّ خُفْيَةً, وظهر من كان يُخفي إسلامَه؛ فذلَّ المشركون من حيث أرادوا العِزَّةَ وقُهِرُوا من حيث أرادوا الغَلَبَة.
ومن عظات صُلح الحديبية: أنَّ الله أنزل في شأنِها قرآنًا يُتْلى إلى يوم الدِّين، ليبقى أثرُ ذلك الدَّرسِ في قلوب المسلمين يَفْزَعُونَ إليه ويهتدون بحُكْمِه وحِكَمِهِ كلَّما تَعَرَّضُوا في معاملتهم إلى شَبِيهِ ما وقع لأسلافهم، وهذا إثْرَ رجوع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المدينة، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ الآيات [لفتح: 1].
فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه فأقرأه إيَّاها، فقال: يا رسول الله! أو فَتْحٌ هو؟ قال:«نَعَمْ»، فطابت نفسُه ورجع.
يقول الشَّاطبيُّ رحمه الله :«فهذا من فوائدِ الملازمَة والانقيادِ للعلماءِ والصَّبرِ عليهم في مَواطِن الإشكالِ حتَّى لاَحَ البرهانُ للعَيَانِ».
فالزم أخي الكريمَ غَرْزَ هؤلاء، وَسِرْ على نهجهم، وإيَّاكَ وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ ومَن على رؤوسِها من المتعالمين المغرورين.
«وفيه: قال سهل بن حنيف رضي الله عنه يوم صَفِّين: «اتَّهموا رأيَكُم، والله لقد رَأَيْتُنِي يوم أبي جَندل ولو أنِّي أستطيعُ أن أرُدَّ أمرَ رسول الله لرَدَدْتُهُ»؛ وإنَّما قال ذلك لِمَا عَرَض لهم فيه مِن الإشكالِ، وإنَّما نزلت سورةُ الفتح بعدما خالطهم الحزنُ والكآبةُ لشدَّة الإشكالِ عليهم والْتِبَاسِ الأمرِ، ولكنَّهم سلَّمُوا وتركوا رأيَهم حتَّى نزل القرآنُ، فزال الإشكالُ والالتباسُ، وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدَهم، فالْتَزَمَ التَّابعون في الصَّحابة سيرَتَهم مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى فَقهُوا ونَالُوا ذَرْوَةَ الكمالِ في العُلوم الشَّرعيَّة»(2)
أين هذا من أولئك الَّذين سفكوا الدِّماء واسْتَحَلُّوا الحرمات وَرَوَّعُوا الآمنين بحجَّة نصرة المسلمين والغَيْرة للإسلام والدِّين، وبدعوى الجهاد في سبيل الله؟!!
إذًا فمن أهمِّ الدُّروس المستفادة أنَّك إذا لم يحتمل عقلُك وغَيْرَتُك وحماسُك أمرًا مَا، فل تذهب إلاَّ إلى العلماء الرَّاسخين الذين جاءت أوصافُهم في الشَّريعة؛ فإنَّ هذ الأمرَ دينٌ فلينظرْ أحدُكم عَمَّنْ يَأْخُذُ دينَه، وإذا بَانَ لك موقفُ العلماء الرَّاسخين فالْزَمْ غَرْزَهُمْ، وإنْ خالَفْتَهُم فاتَّهِم رأيَك وإن بلَغ إيمانُك وعلمُك ما بلغ، وإذا فعلتَ ذلك فأبشرْ بفتحٍ ونصرٍ أوَّلُه التزامُ الصِّراط المستقيم والهَدْيِ القويم.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّه المصطفى الكريم.
—
(1) مسلم (1442/3) ، أحمد (4/86). (2) الموافقات (1/143-144).
(3) انظر: «فتح الباري» (5/366).
بارك الله فيك وجزاك خيرا
وفيكم بارك الله