وكانت من أصعب الغزوات ، أولاً لبُعْدِها عن المدينة ، وكانت في الصيف ، في وقت نضج العنب والتمر ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، الآن ننتقل من مكة إلى المدينة بسيارة حديثة مكيفة ، والطريق واسع فسيح ، ومُضَاء ليلاً ، وإشارات ضوئية رائعة جداً ، تسير خمس ساعات حتى تصل ، وبسرعة المائة والثمانين، فكيف قطع النبي المسافة من المدينة إلى تبوك ، ومنها إلى الأردن ؟.
قال : اسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ ، وهكذا بيَّن النبي الكريم للمسلمين أن هذه الغزوة باتجاه تبوك ، وأن العدو قويٌ قوي ، وكثير العدد والعُدد ، كي يتأهبوا ، كي يأخذوا العدة الكافية ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، قال : فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ليس هناك رغبة شديدة ، قد يتحرك اليوم ، أو غداً ، أو بعد غدٍ ، قضية سهلة ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي ، لذلك قيل : هلك المسوفون ، وقيل لعارف بالله : انصحنا يا رجل ، فقال: احذروا سوف ، سوف مهلكة ، هذا الذي يسوف .
فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ .
مثلُه كمثَل رجل له أصدقاء يحبهم ويحبونه ، ثم يلتفت في أثناء الدرس فلا يجد أحدًا حواليْه ، سيجد الأشخاص البعيدين عن الله عز وجل ، وهذا وقت لله عز وجل ، وهذا استنباط لطيف ، يعني وقت صلاة الجمعة :
[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/BENCHE%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image003.gif[/IMG]
من تجد في البيت قابعاً لا يصلي ؟ المقصر ، الفاسق ، الفاجر ، المنحرف ، غير المسلم ، أما المسلمون في هذا الوقت فكلُّهم في المساجد ، وقد قال أحد كبار العارفين : ليس الوليُّ الذي يمشي على وجه الماء ، وليس الولي الذي يطير في الهواء ، لكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام ، أو أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك .
الذي آلمه أنه حين يخرج من بيته لا يرى إلا المنافقين ، والعجزة ، أما الأصحاب الكرام ، الأقوياء ، الأشداء ، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/BENCHE%7E1/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image004.gif[/IMG]
استنباط سريع ، بهذا الوقت أين المسلمون ؟ في بيوت الله ، وأنت أين تتواجد ؟ وهذا الوقت أين تمضيه ؟ يجب أن يجدك الله حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك.
النبي ما ذكره .
قال كعب : وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فالرسول لم يكن مبلِّغًا فقط ، بل كان قائدًا كذلك ، وكان مربِّيًّا يسأل عن أصحابه ، ويتفقّدهم ، وأنت لما تتفقد أخًا لك غاب عن درس ، فلا يعلم إلا الله كم لك من أجر ، شعر أن له قيمته ، شعر أنه عضو بأسرة ، وشعر أن هناك من يسأل عنه ، وهناك من يتفقده ، فكل أخ من إخواننا الكرام يجب أن يكون له أخ في الله ، فحينما يغيب الإنسان عن درس وكان مريضاً ، يتفقده إخوانه ، ويسألون عنه ، أنا اليوم قبل أن آتي إليكم ، أخٌ غالٍ علينا ، لم أرَه منذ أسبوعين أو ثلاثة ، اتصلت به قبل أن آتي ، قال لي لديه سبب يمنعه، لكن شعر بمودة بالغة ، شكرني مرتين ثلاثًا ، فقلتُ له : مِن واجبي أنْ أسال عنك ، فكل واحد منكم يتفقد إخوانه ، هذا أوصل ، وأدعى للمودة ، وأقرب إلى مرضاة الله عز وجل ، قال النبي الكريم بتبوك ، وهو جالس في القوم ، قال : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ ـ يعني يعتني بثيابه ، ببيته ، بالظل الظليل، بالفاكهة الناضجة ، فهذا ما شأنه أنْ يكون معنا ؟ وهذا طعن أليس كذلك ؟ فقال رجل ، ولم يقل : صحابي قال : فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه ، والنظرُ في عطفيه ـ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هؤلاء الأصحاب يجب أن نحبهم ، وليكنِ المؤمن عن غياب أخيه كالسيف ، يدافع عنه ، لكن هناك مؤمنون ضعاف ، يتلذذون بنهش أعرض إخوانهم ، ويتلذذون بالطعن بإيمانهم ، قال له بئسما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً .
وفي موقف آخر أيضاً تفقد النبي صحابيًّا جليلاً ، فاتَّهمه أحدهم أنّه شغلته دنياه ، فقال أحد أصحاب رسول الله : واللهِ يا رسول لقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك .
فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي ـ يعني تألمت ، أكلتُ همًّا ، بالتعبير الشائع ، وإذا سألني النبي : لماذا تخلفتَ يا كعب ؟ فبماذا أجيبه ؟ فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِيـ ماذا أقول له ؟ ما الذي شغلني عنك يا رسول الله ؟ـ فَلَمَّا قِيلَ لِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا ـ الكذب لا ينجيني ـ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ ـ أيْ اتخذ قرارًا حكيمًا ؛ أن يصدقه ـ وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ .
القصة فعلا مشوقة و انا في انتظار رد كعب بن مالك رضي الله عنه و موقف الرسول منه