أمير علي.. روح الإسلام في الهند
أمضى العلامة "أمير علي" زهاء نصف قرن يجاهد في سبيل الإسلام وبث دعوته والتعريف بمبادئه وأحكامه، وفي العمل على نهوض الشعوب الإسلامية وتقدمها المعنوي ورفاهيتها المادية، وكان سلاحه في ذلك قلمه الفياض، ثم نفوذه السياسي الذي غنمه بذكائه وبيانه واعتداله.
وربما كانت السبيل التي اختارها "أمير" لتحقيق هذه الأمنية خير السبل، يوم أن نشط إلى الجهاد؛ فقد كانت الأمم الإسلامية واقعة تحت ضروب مرهقة من الانحطاط العقلي والمادي، وكان الغرب قد أحكم أغلاله حول أعناقها من كل صوب، ولم تكن قد جاشت بعد نزعات التحرير والاستقلال.
وكانت أوروبا تعامل الشعوب الإسلامية بتعسف وتحامل؛ وهو ما يرجع من وجوه كثيرة إلى خطأ في فهم روح الإسلام ومبادئه وآدابه، والتمسك الغربي بكثير من الآراء والنظريات القديمة التي ورثتها أوروبا الحديثة عن العصور.
ولذا رأى أن خدمة قضية الشعوب الإسلامية -في مثل هذه الظروف- يكون من خلال التعريف بالإسلام وروحه ومبادئه الحقة، والتعريف بالمجتمعات الإسلامية وما قامت به في سبيل العلم والمدنية، وهذا ما أخذه "أمير علي" على نفسه، وربما كان "أمير علي" بنشأته وتكوينه الفكري خير من يؤدي هذه المهمة من مفكري الإسلام المحدثين.
التكوين
يعتبر "أمير علي" سليل أسرة عربية تنتمي إلى آل البيت، استقرت أولا في بلاد فارس (إيران)، وكان عميد الأسرة "محمود صادق خان" من كبراء البلاط الفارسي في عهد الشاه عباس، وانضم ابنه "أحمد فاضل" إلى جيش "نادر شاه" حينما غزا السند في أواسط القرن (18م)، ثم دخل في خدمة سلطان دلهي حينما رجع "نادر شاه" إلى فارس. و"أمير علي" هو الحفيد الرابع لهذا الجندي.
ولد في موهان من إقليم "أود" في (6 إبريل سنة 1849م) من أب مسلم هو "سعادت علي" وأم إنجليزية هي "إيزابيل أدا".
وتلقى تعليمه في كلية "هوجلي" في "كلكتا"، ونال أعلى درجاتها في التاريخ والأدب، ثم نال شهادة العالمية من كلية "عليكرة" الإسلامية، ثم سافر إلى لندن لدراسة القانون، وفي عام (1873م) حصل على شهادة القانون؛ ليعين للتدريس في "كلكتا" حتى عام (1881م)، ثم أصبح عميدا لكلية الحقوق عام (1891م)، فقاضيا بالمحكمة العليا في "البنغال"؛ فكان أول هندي جلس في هذا الكرسي.
وفي عام (1904م) اعتزل القضاء، وعاد إلى إنجلترا، وأقام في لندن، وكان اسمه قد ذاع يومئذ، ولفت أنظار ولاة الأمر في الهند وإنجلترا بخدماته القضائية وكفايته الفقهية، ومقدرته النادرة في الكتابة بالإنجليزية.
وعين في عام (1909م) مستشارا ملكيا في "المجلس المخصوص"، وانتدب للعمل في لجنته القضائية، واعترض بعض ذوي الكلمة يومئذ على اختياره لمنصب لم يتشرف بتقلده سوى الإنجليز، ولكن الحكومة البريطانية رأت أن يشترك أعلام من الهنود في تلك الهيئة القضائية التي تنظر في مصالح الملايين من الهنود؛ فكان أول هندي ظفر بهذا المنصب الكبير.
"أمير علي".. كاتبا
لم يكتب "أمير علي" إلا في الإسلام وأحكامه، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومناقبه، وفي تاريخ الأمم الإسلامية؛ ففي أواخر سني دراسته في إنجلترا أصدر كتابا عن "محمد وتعاليمه" سنة (1872م)، ولم يكن حينها قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره، ومع ذلك حمل هذا الكتاب صدى بعيدا في الأوساط الأوروبية والهندية، فقال عنه المستشرق "أسبرون" Osborn: "إنه كتاب يستحق الإعجاب حقا، كتب بأسلوب يدل على امتلاك كاتبه لناصية اللغة الإنجليزية؛ فأسلوبه قل من يستطيع أن يجاريه من الإنجليز المثقفين… ويجب أن يهنأ مسلمو الهند بأن يكون منهم من بلغ هذه الدرجة…".
وفي سنة (1889م) أخرج كتابه "مختصر تاريخ العرب"، وفيه يبدو "أمير علي" مؤرخا مستنيرا وناقدا متمكنا؛ حيث يسرد تاريخ الإسلام ودوله في ضوء النظريات الحديثة سواء من حيث الدولة أو السياسة، مع الاعتناء بالناحية الاجتماعية والفكرية، مبرزا أهمية الأمة العربية في بناء الحضارة الإسلامية الحديثة.
وفي مجال تخصصه القانوني، أصدر كتابه "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية"، وأتبعه بكتاب "مختصر الشريعة للطلبة"، فجاء مجهوده في هذا السبيل خدمة جليلة للقضاء الشرعي في الهند، واستطاع أن يكشف كثيرا من الغموض الذي كان يقترن بتدريس الشريعة الإسلامية وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز، قلما يدركون روح التشريع الإسلامي.
وفي سنة (1893م) أخرج أقوى كتبه وأعظمها، وهو كتاب "روح الإسلام"، وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالنقد والتحليل لترجمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصول الإسلام وفرائضه، وفكرته في الألوهية، وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية، وفكرته في البعث، وروحه في القومية والسياسة والعلم والأدب، والفرق الإسلامية، وفلاسفة الإسلام. وقد بلغ في هذا الكتاب ذروة الإتقان والإجادة في دقة التصوير، وسلامة التدليل، وروعة البيان، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى وأبدع فصول الكلام، أما الناحية الأخلاقية في الإسلام فقد تناولها في كتاب "آداب الإسلام".
الإصلاح.. وفهم الواقع
ثمة من يعتقد أن "أمير علي" مصلح عملي يتفهم الحياة الواقعية ويواجهها بخلاف "أحمد خان" الذي قابله في إنجلترا ثم في الهند، والذي طالما تجادل معه حول إصلاح مسلمي الهند؛ فـ"أحمد خان" يرى أن الإصلاح وسيلته التربية والتعليم فقط دون انغماس في السياسة، أما "أمير علي" فكان يرى ضرورة إيجاد هدف سياسي للمسلمين في الهند، ووضع البرامج والخطط لتنفيذه؛ ولذا أسس سنة (1871م) "الجمعية الوطنية الإسلامية" للدفاع عن حقوق المسلمين السياسية أمام الحكومة البريطانية المستعمرة، وللمطالبة بالمساواة مع الهندوكيين.
وقد عمل "أمير علي" في أثناء الأعوام الطويلة التي أمضاها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له، هي تقدم مواطنيه، مسلمي الهند.
كما كان اعتداله وحزمه وكفايته أدوات مهدت له سبيلا للترحيب بآرائه، وكان لمساعيه ودعوته في هذا السبيل نصيبها من الفوز أيام "اللورد مورلي"؛ حيث رأت الحكومة البريطانية أن تدخل طائفة كبيرة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة الهند؛ تحقيقا لأماني المعتدلين، وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت في تلك الفترة.
مسلم قبل كل شيء
كان "أمير" في جهوده السياسية بالنسبة للإسلام مسلما قبل كل شيء؛ ففي جميع الخطوب التي كانت تدهم الإسلام أو الأمم الإسلامية، كان صوته يرتفع في بريطانيا وأوربا، وكان لهذا الصوت أثره، خصوصا بعد أن تبوأ مكانته في "المجلس المخصوص"، وما ناله من الاحترام والنفوذ في دوائر لندن السياسية.
ونشط "أمير علي" في مناصرة الدولة العثمانية؛ حيث رأى فيها دولة الخلافة الإسلامية التي لها حق الزعامة على المسلمين كافة؛ كونها سندهم الوحيد في مواجهة أي غزو أجنبي، ولذا حرك الرأي العام المسلم في الهند للتعاطف مع الدولة العثمانية، ورفض بقوة مقترحا بأن تكون الآستانة مدينة حرة، أو مركزا لعصبة الأمم.
وفي مختلف مواقف الكفاح العربي والإسلامي في وجه الاستعمار كان لا يكف عن مؤازرة جهود المجاهدين، وكان شديد الوطأة في حملاته على السياسة البريطانية وسياسة الحلفاء في الشرق الأدنى؛ حتى إن السير "فالانتين تشيرول" الصحفي الإنجليزي الشهير كثيرا ما احتج على هذه الدعوات في جريدة "التايمز"، وأنكر على قاضي الملك المخصوص أن يعمل على هذا النحو لإثارة الهياج بين المسلمين في أنحاء الإمبراطورية.
الإصلاح الاجتماعي
وإلى جانب حياته العلمية والسياسية النشطة، كان "أمير علي" نشيطا في إصلاح الحياة الاجتماعية لمسلمي الهند، وأهم أعماله في ذلك الحقل دعوته لإصلاح الأوقاف الإسلامية، ومطالبته بالاستيلاء عليها من الحكومة، ودعوته إلى إصلاح وضع المرأة وتعليمها.
وقد رأس "أمير علي" "المؤتمر الإسلامي" بعد وفاة "أحمد خان" مؤسسه، ودعا في أحد المؤتمرات سنة (1900م) إلى إصلاح الأوقاف، فقال: "إن بالأوقاف وخيراتها انتشرت العلوم، وتقدمت المعارف، وأدت وظيفة نافعة في الأقطار الإسلامية جميعها… ولكن تغيرت الأحوال وخرجت أوقاف كثيرة من يد المسلمين إلى أيدي الغير، وتلاعبت بها الأيدي".
ومن أنبل أعماله الأخيرة ما كان منه أيام الحرب بين إيطاليا وتركيا والعرب في طرابلس؛ فقد علم أن جمعية الصليب الأحمر تعنى بالجرحى من المسيحيين، وليس هناك من يقوم بعلاج جرحى المسلمين؛ فسعى لتأليف جمعية تجمع المال، وتنظم وحدات علاجية لجرحى العرب والترك، واستمر يكافح في هذا العمل سنين طويلة، عملت خلالها جمعيته على مساعدة الجرحى والبائسين في حرب البلقان، وفي الحرب العالمية الأولى.
وفي (الأول من أغسطس 1928م) توفي "أمير علي" في لندن، ودفن بمقابر "بركوود الإسلامية" بعد حياة باهرة في التشريع والكتابة.
ولقد تقدم إلى قبره كثير من أصدقائه الأوربيين والمواطنين يحملون أكاليل الزهور، من بينها إكليل من جمعية كان يرعاها علقت عليه بطاقة كتب فيها: "بمجهود هذا الراقد كم أُطعم جائع، وكُسي عار، وشُفي مريض، وبفعاله كم اطمأن شارد، وضمت أم طفلها إلى صدرها لولاه لهلك، ووجد الفلاح اليائس الذي خربت الحرب أرضه ما أعاد إليه أمله وأسعفه بالمال يمهد أرضه، ويبذر بذره، ويستعيد رزقه".