والصلاة والسلام على سيد المرسلين النبي الأمي المرسل رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،،
أما بعد أعضاء وعضوات عالمنا الحبيب ،،
فكل عام وأنتم بخير بمناسبة قدوم أفضل الشهور وأكثرها بركة ،، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ،،
شهر نزول الرحمات من عند الحنان المنان ،، شهر العتق من النيران والفوز بالجنان ،، فلنكن سباقون فيه إلى كل خير وفضيلة مبتعدون عن كل شر ورذيلة ..
أعزاءنا .. أحببنا أن نقدم أنا وأختي الحبيبة ومشرفتنا القديرة
في رمضان من هذا العام موضوع خاص بالصحابيات رضوان الله عليهن ،،
كل يوم حلقة نتناول فيها صحابية وأم من أمهاتنا الطاهرات ..
صحابيات عشن مع الحبيب لحظة بلحظة ،، وكن قدوة لنا تحتذي بهن جميع نساء العالمين ،،
أحببنا أن نعيش معكم أعضاءنا وعضواتنا الحبيبات من خلال هذه الرحلة المباركة ومع كوكبة أولئك الصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن رحلة تحمل بين طياتها نفحات هؤلاء الكريمات اللواتي عطرن كتب السير بسيرتهن الذهبية المباركة ..
لقد كانت كل صحابية بمثابة زهرة تنبت في حقل الإسلام ،، فلما جاءت سحابة الإيمان وسكبت ماءها في هذا الحقل ؛ وإذا بتلكم الزهرة النقية التقية تتغذى من خلال النبعين الصافيين :: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :: وإذا بها تنشر عطرها وعبيرها ليملأ الكون كله بعطر الإيمان والتوحيد ..
إن المرأة المسلمة في صدر الإسلام لم تكن أقل ثباتا في دينها من الرجال ،، ولا أقل تضحية وبذلا في سبيل عقيدتها ،، فقد ضربت أروع الأمثلة في هذا المجال ،، فضحت من أجل إسلامها بكل ما تملك ،، مستهينة بكل ما يصيبها من ظلم وتعذيب وموت في سبيل عقيدتها ..
والمرأة سلاح ذو حدين ،، فإذا صلحت وأدت وظيفتها الأصلية وهدفها المرسوم ،، كانت لبنة صالحة في مجتمع إسلامي متماسك قوي الأخلاق ،، متين الدعائم ..
ولهذا نجد أن الإسلام قد اهتم بالمرأة اهتماما بالغا ،، وأحاطها بالتربية والرعاية ،، وشرع لها من الحقوق ما يلائم تكوينها وفطرتها ما لم تعهده أمة من الأمم على مر العصور ..
وبهذا الاهتمام العظيم صاغ الإسلام تلك المرأة المسلمة التي كانت وراء هؤلاء العظام الأفذاذ الذين ملأوا الأرض بالحكمة والعدل ..
فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام ،، وسمت بهن عظمته ،، وصدعت بقوتهن قوته ،، وعنهن ذاعت مكارمه ،، ورسخت قوائمه ،، وهكذا كانت الأم في عصور الإسلام الزاهية ،، وأيامه الخالية مهبط الشرف الحر ،، والعز المؤثل ،، والمجد المكين ..
وصدق الشاعر حين قال ::
الأم مــدرســة إذا أعـــددتــــها ,,,,,,,,,, أعــددت شعبــا طيــب الأعــراقِ
الأم روض إن تعــهــده الحـيــا ,,,,,,,,,, بــالـــري أورق أيـــمـا إيــــراقِ
الأم أستــاذ الأســاتـــذة الأُلــى ,,,,,,,,,, شغــلت مــآثرهــم مــدى الآفــاقِ
فإلى كل أخواتنا في الله ،، نقدم هذه الباقة العطرة من حياة هذا الجيل الفريد لنتعايش بقلوبنا مع هذه السيرة العطرة ونتعرف على القدوات اللواتي فاح عبيرهن وانتشر أريجهن ..
فهن مثال يحتذى ونبراس يقتدى ،، بالوقوف على أخبارهن تحيا القلوب ،، وباقتفاء آثارهن تحصل السعادة ،، وبمعرفة سيرتهن ومناقبهن تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال ..
فهيا إلى هذه الواحة اليانعة لنعيش في رحاب الصادقات ،، ولنستنشق عبير الصدق ،، عسى الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص في الدنيا ،، والنعيم والرضوان في الآخرة ..
ونسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم ،، وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم نلقاه وأن ينفعنا وإياكم به ..
نبدا باذن الله الحلقة الاولى
: كوكبة الطهر والعفاف :: خديجة بنت خويلد :: رضي الله عنها
مع أول من آمن بالله :: من النساء :: وأول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأول من رُزق منها الأولاد .. وأول من بشرها بالجنة من أزواجه .. وأول من أقرأها ربها السلام .. وأول صدّيقة من المؤمنات .. وأول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفاة .. وأول قبر نزل فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمكة .. آمنت به حين كفر به الناس وصدقته حين كذبه الناس وواسته بمالها حين بخل الناس ورزقه الله منها الولد ..
إنها العاقلة اللبيبة المصونة الكريمة التي كانت تُدعى في الجاهلية :: الطاهرة :: فكيف بها في ظل الإسلام ؟!
إنها سكن النبي صلى الله عليه وسلم التي آزرته ووقفت بجواره لبيلغ دعوة ربه :: جل وعلا :: ،، وهيأت للحبيب صلى الله عليه وسلم كل أسباب السعادة والنعيم ،، وساندته في أحلك أوقات المحنة حتى استحقت بكل جدارة أن يأتيها السلام من عند السلام :: جل وعلا :: من فوق سبع سموات بل وتأتيها البشرى ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ..
إنها سيدة نساء العالمين وزوجة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ،، إنها خديجة :: رضي الله عنها :: التي سطع نجمها في عالم الإيمان والطهر والعفاف والنبل والعطاء والوفاء ..
إنها صدّيقة المؤمنات الأولى خديجة :: رضي الله عنها :: لم تكن أم المؤمنين فحسب ،، وإنما كانت أم كل فضيلة ،، ولها في عنق كل موحد فضل وحق إلى يوم يُبعثون ،، فهل نستطيع أن نفي أمنا جزءا من حقها ؟!
تالله إن أخبارها دواء للقلوب وجلاء للألباب من الدنس والعيوب وقدوة في زمن كادت القدوات فيه أن تغيب ،،، بالوقوف على سيرتها تحيا القلوب ،، وباقتفاء آثارها تحصل السعادة ،، وبمعرفة مناقبها تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال ..
فتعالوا بنا لنتعايش بقلوبنا مع أعظم أم في الكون كله لنعلم قدرها ومكانتها ومنزلتها عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،، ولنسعد بسيرتها العطرة التي نقدم من خلالها أعظم قدوة لنسائنا وبنتانا وأخواتنا بل وأمهاتنا ..
فهيا لنعطر قلوبنا بسيرتها المباركة ..
:: من هي خديجة رضي الله عنها ::
هي أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين في زمانها .. أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ،، القرشية الأسدية ،، وأمها فاطمة بنت زائدة العامرية .. أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد ..
هي العاقلة الجليلة الدينة المصونة الكريمة ،، من أهل الجنة ،، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها ،، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ،، ويبالغ في تعظيمها ،، بحيث إن عائشة كانت تقول :: " ما غرت من امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها " …
ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج عليها قط ..
كانت خديجة أولا تحت أبي هالة بن زرارة التميمي ، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، ثم بعده النبي صلى الله عليه وسلم ،، فتزوجها وله خمس وعشرون سنة ،، وكانت أكبر منه بخمس عشرة سنة ..
فقد ولدت في أم القرى وكان ذلك قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة تقريبا ..
:: وقفة مع النفس ::
ها هي خديجة :: رضي الله عنها :: صاحبة القلب الطاهر والنفس الراضية تقف في لحظة مع نفسها تستعرض شريط الذكريات ،،، فهي على الرغم من النجاح الباهر الذي حققته :: بفضل الله :: في عالم التجارة حتى باتت قافلتها إلى الشام تعدل قوافل قريش ،، إلا أنها كانت لا تشعر بالسعادة لأنه قلبها كان يحتاج إلى الزاد الذي لا يستطيع قلب أن يحيا بدون :: إنه زاد الإيمان الذي جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ::
وكذلك فهي التي تعثرت حياتها الزوجية أكثر من مرة في الوقت الذي كان قلبها يتطلع إلى حياة زوجية سامية كلها تضحية ومحبة وبذل وعطاء ..
:: رؤيـــــا تعانق السماء ::
كانت خديجة :: رضي الله عنها :: امرأة عالية الهمة ،، جياشة العواطف ،، واسعة الأفق ،، مفطورة على التدين والنقاء والطهر ،، حتى لقد عرفت بين أترابها وبين نساء قريش بالطاهرة ..
كانت خديجة :: رضي الله عنها :: تصغي كثيرا إلى ابن عمها ورقة بن نوفل عن الأنبياء ..
في ليلة غارت نجومها ،، واحلولك ظلامها ،، جلست خديجة في بيتها بعد أن طافت مرارا بالكعبة ،، عندئذ ذهبت إلى فراشها وقد ارتسمت على شفتيها علائم الرضا والابتسام ،، ولم يدر في ذهنها أي خاطر في ذلك الوقت ،، وما أسلمت جنبها للرقاد حتى استسلمت للنوم وراحت في سبات ..
ورأت فيما يرى النائم شمسا عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها ،، وتملأ جوانب الدار نورا وبهاءً ،، ويفيض ذلك النور من دارها ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس ،، قبل أن يبهر الأبصار بشدة ضيائه ..
هبت خديجة من نومها ،، وراحت تدير عينيها فيما حولها بدهشة ،، فإذا بالليل ما يزال يسربل الدنيا بالسواد ،، بيد أن ذلك النور الذي بهرها في المنام لا يزال مشرقا في وجدانها ،، ساطعا في أعماقها ..
عندما غادر الليل الدنيا ،، غادرت خديجة فراشها ،، ومع إشراقة الشمس ،، كانت الطاهرة خديجة في طريقها إلى دار ابن عمها ورقة بن نوفل ،، لعلها تجد عنده تفسيرا لحلمها البهي في ليلتها الماضية ..
دخلت خديجة على ورقة بن نوفل ،، فألفته قد عكف على قراءة صحيفة من الصحف السماوية التي شغف بها ،، فراح يقرأ سطورها كل صباح ومساء ،، وما أن سمع صوت خديجة حتى رحب بها وقال متعجبا :
خديجة ؟؟ الطاهرة ؟؟
قالت : هي ، هي ..
قال في دهشة : ما جاء بك الساعة ؟؟
جلست خديجة ، وراحت تقص عليه ما رأت في منامها حرفا حرفا ومشهدا مشهدا ..
كان ورقة يصغي إلى خديجة في اهتمام وكأن شيئا نبه إحساسه وجعله يتابع الحلم إلى النهاية ..
وما إن انتهت خديجة من كلامها حتى تهلل وجهه بالبشر ،، وارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضى ،، ثم قال لخديجة في هدوء ووقار : أبشري يا ابنة العم … لو صدق الله الرؤيا ليدخلن نور النبوة دارك ،، وليفيضن منها نور خاتم النبيين …
الله أكبـــــــــــــــر ،، ماذا تسمع خديجة ؟ ما الذي يقوله ابن عمها ؟ وجمت خديجة لحظات ،، سرت في بدنها قشعريرة ،، جاشت في صدرها عواطف مشبوبة زاخرة بالأمل والرحمة والرجاء ..
ظلت خديجة :: رضي الله عنها :: تعيش على رفرف الأمل ،، وعبير الحلم الذي رأته ،، فعسى أن تتحقق رؤياها وتكون مصدر خير للبشرية ومصدر نور للدنيا ،، فقد كان قلبها الكبير منبعا للخيرات ،، أما عقلها فكان يستوعب كل ما حولها من أحداث بشكل يتفق مع حياتها ..
وكانت رضي الله عنها إذا تقدم لها سيد من سادات قريش لخطبتها ،، تقيسه بمقياس الحلم الذي رأته ،، لكن إلى الآن لم تنطبق صفات خاتم النبيين على أحد منهم ،، فكانت تردهم ردا جميلا ،، فقد كانت تحس إحساسا غامضا أن القدر الإلهي يخبيء لها شيئا رائعا لا تدري ما هو ،، لكنها تستشعر أن منه ما يدخل الطمأنينة إلى قلبها ..
:: الزواج المبــــــاركــــ ::
كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ،، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم ( تقارضهم ) إياه بشيء تجعله لهم ،، وكانت قريش قوما تجّارا ،، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها :: من صدق حديثه ،، وعظم أمانته ،، وكرم أخلاقه ،، بعثت إليه ، فعرضت عليه الخروج في مالٍ لها إلى الشام تاجرا ،، وتعطيه أفضل ماكانت تعطي غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له (( ميسرة )) ،، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وخرج في مالها ذلك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام ..
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب الرهبان ،، فاطّلع الراهب إلى ميسرة فقال له : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ قال له ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي ..
باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها ،، واشترى ما أراد أن يشتري ،، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة ،، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو يسير على بعيره ،، فلما قدم مكة على خديجة بمالها ،، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه :: وكانت خديجة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامته :: شُغلت بحديث ميسرة عن محمد صلى الله عليه وسلم ،، وبقول ابن عمها ورقة " إن محمدا نبي هذه الأمة " ،، واحتل الحلم :: الذي رأت فيه الشمس تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها :: أقطار رأسها ..
انتقلت خديجة من سيل ذكرياتها إلى الواقع الذي تحياه ،، نظرت وفكرت في محمد ،، فإذا هو يملأ صفحة خيالها ..
اجتمعت الدلائل والقرائن عند خديجة بأن محمدا هو الرحيق الذي يختم به الأنبياء ،، فباتت ترجو أن تكون زوجا له ،، ولكن أنّـــــــــــــى الطريق إلى ذلك ؟!
إنها امرأة عريقة النسب ممدودة الثروة ،، وقد عرفت بالحزم والعقل ،، ومثلها مطمح لسادة قريش الذين كانت أبصارهم ترنو إليها بغية الرفادة من ثرائها وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع !!
لكنها عندما عرفت محمدا عليه الصلاة والسلام وجدت ضربا آخر من الرجال .. وجدت رجلا لا تستهويه ولا تدنيه حاجة .. رأت فيه رجلا تقفه كرامته الفارعة موقف النبل والتجاوز ،، فما تطلع إلى مالها ولا إلى جمالها ،، لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيا مرضيا ..
وفي غمرة الحيرة والاضطراب تدخل عليها صديقتها نفيسة بنت منبه ،، وتجلس معها وتبادلها أطراف الحديث حتى استطاعت أن تكشف السر الكامن المرتسم على محياها وفي نبرات حديثها ..
وهدّأت نفيسة من روع خديجة وطمأنت خواطرها ،،
وما إن خرجت نفيسة من عند خديجة حتى انطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته أن يتزوج الطاهرة خديجة ،، وقالت : يا محمد ما يمنعك أن تتزوج ؟ فقال عليه الصلاة السلام : ما بيدي ما أتزوج به ..
قالت : فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة فهل تجيب ؟؟ فرد متسائلا : ومَن ؟
قالت على الفور : خديجة بنت خويلد ..
فقال : إن وافقت فقد قبلت ..
" صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم "
وانطلقت نفيسة لتزف البشرى لخديجة ،، وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته في الزواج من خديجة ،، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد ،، وخطبوا إليه ابنة أخيه وساقوا إليه الصداق ..
في ذلك المجلس اللطيف ،، قام أبو طالب يخطب خطبة الإملاك ،، فقال :
" الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضئ :: أصل :: معد ، وعنصر مُضر ، وجعلنا حضنة بيته ، وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوبا ، وحرما آمنا ، وجلعنا من الحكام على الناس ؛ ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزن برجل إلا رجح عليه برا وفضلا ، وشرفا وعقلا ، ومجدا ونبلا ..
فإن كان في المال قُل (( قِلة )) فإن المال ظل زائل ، وأمر حائل ، وعارية مسترجعة ، ومحمد من قد عرفتم قرابته ، وقد خطب خديجة بنت خويلد ، وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي اثنتي عشرة أوقية ذهبا ونصف وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل فزوجها " ..
ولما تم العقد نُحرت الذبائح ووزعت على الفقراء وفتحت دار خديجة للأهل والأقارب ..
كانت الطاهرة خديجة رضي الله عنها بنت أربعين في سن اكتمال الأمومة ،، أما محمد صلى الله عليه وسلم ففي سن اكتمال الشباب ابن خمس وعشرين سنة ..
وفي هذا الزواج المبارك كانت الطاهرة خديجة هي الزوجة الوفية في حبها ،، وهي الأم الرؤوم في حنانها وعطفها وبرها رضي الله عنهـــــــــــــــــا ..
:: حكمتها ورجاحة عقلها ::
ليس شيء أدل على حكمتها وكياستها ورجاحة عقلها من أنها قد اختارت النبي صلى الله عليه وسلم زوجا لها رغم كونه إذ ذاك فقيرا وهي غنية ثرية يتطلع إليها أثرياء قومها وأشرافهم فتأبى ،، عَرَفَت بحكمتها وحصانة عقلها أن كمال الرجولة وشرف المروءة وسلامة الطبع أمر وراء الغنى المادي والعرض الزائل ..
إنها تبحث عن نوع آخر من الغنى والثراء !!
إنه غنى النفس وثراء الضمير ودماثة الخلق ،، وأين تجد ذلك كله على الوجه الأكمل في غير محمد صلى الله عليه وسلم ..
وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليقبل زواج خديجة ولو كانت تملك مال الأرض كله ، ولو كانت أبهى نساء الدنيا جمالا ، لولا ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم فيها من رجاحة العقل وكياسته وما شهد به قومها لها من شريف الخصال ،، وحميد الفعال ،، وسلامة الجوهر ،، وعراقة المنبت ..
فلهذا كله وافقت رغبة خديجة رغبة محمد صلى الله عليه وسلم في الاقتران بها ..
:: السعادة ترفرف بأجنحتها على أعظم بيت ::
رفرفت السعادة بأجنحتها على بيت خديجة رضي الله عنها ،، فقد وجدت الطاهرة خديجة في الأمين محمد خير الأزواج ؛؛ فهو لطيف المعشر ، سابغ العطف ، يحيط به كل إنسان وكل حي وكل شيء ؛؛ فأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنبع من فطرته بنسب متفقة متكاملة ، فصبره مثل شجاعته ، وشجاعته مثل كرمه ، وكرمه مثل حلمه ، وحلمه مثل رحمته ، ورحمته مثل مروءته ، وخصائصه صلى الله عليه وسلم كثيرة في الفضل ..
أحبت خديجة رضي الله عنها زوجها محمد صلى الله عليه وسلم حبا ملك عليها كل مشاعرها ،، حب الزوجة لزوجها الكريم الذي تمثلت فيه مكارم الأخلاق ومعالي المكارم ،، فقد كانت على مر الأيام وطول العشرة ،، تزداد يقينا بأن الرجل الذي اختراته لنفسها هو أصلح أهل الأرض لأداء رسالته والنهوض بأمته ..
كانت خديجة رضي الله عنها تهيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل أسباب الراحة وكل أطراف النعيم ،، إذا أشار لبت متهللة النفس ، رضية القلب كريمة اليد ،، فما كانت تبخل بأموالها أيضا ،، وكانت سخية بعواطفها ومشاعرها وأموالها ،، بل لم تكن تبخل بحبها على من يحب زوجها ،، وكانت تكرم من يحبه إكراما يملأ النفس رضى وسرورا ..
:: صاحبة القلب الرحيم ::
في جلسة غمرتها أنوار ربانية كان محمد صلى الله عليه وسلم يتحدث مع خديجة ،، فكان صوته الصحل (( الذي فيه بحة جميلة )) يمس أوتار فؤادها وتلك الحكمة المتدفقة من بين شفتيه تغمر روحها بسعادة عارمة ..
في تلك اللحظات جاءت مولاة خديجة وقالت : مولاتي : إن حليمة بنت عبد الله بن الحارث السعدية تود الدخول .. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليمة السعدية ،، خفق قلبه حنانا ،، وراحت الذكريات الحبيبة والحانية الدافئة تطفو على سطح ذهنه ،، تذكّر بيداء بني سعد ورضاعته هنالك ،، كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الناعمة ،، أحيت فيه أيام طفولته وأيام نشأته بين ذراعي حليمة وأحضانها ..
قامت خديجة رضي الله عنها لتدخل حليمة ،، فطالما حدثها عنها حديثا يقطر حبا ورحمة ودفئا وكرامة ،، وعندما وقع بصره الشريف عليها ،، مس سمع خديجة صوته اللطيف وهو ينادي في لهفة وحنان (( أمي ،، أمي )) ..
نظرت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فألفته قد فرش لها رداءه ومرر يده عليها في حنان دافق ،، وقد ترقرقت في وجهه سعادة عارمة ،، وتألق في عينيه فرح فياض ،، لكأنما كان يحتوي في أحضانه أمه آمنة بنت وهب وقد بُعثت من مرقدها ..
وفي غمرة اللقاء الحار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليمة ،، سألها عن حالها ،، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد ،، ثم شكت ضيق العيش ومرارة الفقر فأفاض عليها من كرمه ..
وبعد ذلك حدث النبي صلى الله عليه وسلم زوجته خديجة :: في تأثر واضح :: بما ألم في مرضعته حليمة من ضيق ،، فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة ،، وأعطتها عن طيب خاطر أربعين رأسا من الغنم كما وهبتها بعيرا يحمل الماء وزودتها بما تحتاجه في رجوعها إلى باديتها ،، وكانت خديجة رضي الله عنها متأهبة على الدوام لتجود بكل أموالها إرضاءً لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فشكر لها أريحيتها ،، ثم انطلق ليضع بين يدي مرضعته ما جادت به خديجة ..
:: في رحاب الذرية المباركة ::
في يوم من الأيام عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت ،، وكانت زوجته الحنون تحمل له بشرى عظيمة ، فلقد أخبرته بأنها حامل فاهتز قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم فرحا بتلك البشرى الغالية ..
وكانت خديجة في غاية البهجة والسرور لأنها تشعر بل وتوقن بأن زوجها صلى الله عليه وسلم له شأن عظيم ،، فكانت تتمنى أن يرزقها الله منه بالولد ..
وجاءت اللحظة السعيدة التي ولدت فيها خديجة أول مولود للحبيب صلى الله عليه وسلم وهو القــاسم :: الذي يُكنّى به الحبيب صلى الله عليه وسلم :: ،، ثم تتابعت بعد ذلك الذرية المباركة فولدت له بعد ذلك زينب وأم كلثوم وفاطمة وكان ذلك قبل النبوة ،، ثم ولدت له بعد النبوة عبدالله :: الذي كان يسمى بالطيب الطاهر :: ..
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أسرته المباركة بصدر منشرح ،، فقد كانوا جميعا يعيشون حياة هادئة جميلة في غاية الصفاء والسعادة ..
فخديجة رضي الله عنها زوجة مثالية علمت كيف تُدخل السعادة على قلب زوجها صلى الله عليه وسلم وأولادها وكانت كلما طالت عشرتها مع الحبيب صلى الله عليه وسلم ازدادت حبا له وإعجابا به ،، فهو العابد الزاهد الذي تعلق قلبه وتعلقت جوارحه بالله جل وعلا ،، ومن هذا البيت المبارك خرجت فاطمة التي أضحت فيما بعد سيدة نساء أهل الجنة وأم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وزوجة واحد من العشرة المبشرين بالجنة ،،
فيـــــــــــــا له من بيت مبارك نشر البركة وعبير الإيمان على الكون كله ..
:: كـــــــرم وإيــثــــــــــــار ::
لما كفل الحبيب صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب ،، وجد في بيت الطاهرة الرحيمة خديجة قلبا حانيا وأما عطوفا جعلته يشعر أنه مع أمه التي ولدته ،، فكانت تُحسن إليه غاية الإحسان ..
وكذلك لما أحست خديجة رضي الله عنها بأن الحبيب صلى الله عليه وسلم يحب مولاه زيد بن حارثة وهبته له فازدادت بذلك منزلتها في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ..
:: ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا ::
لقد رأت خديجة من حب زيد للحبيب صلى الله عليه وسلم موقفا لا توازيه الدنيا بكل ما فيها من متاع زائل ..
فلقد خرج زيد مع أمه وهو صغير في زيارة لقومها فأغارت عليهم الخيل فاحتملوا زيدا وباعوه في سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فظل أبوه يبحث عنه في مشارق الأرض ومغاربها حتى تفطر قلبه حزنا عليه ..
وفي موسم من مواسم الحج قصد البيت الحرام نفر من قوم زيد ،، وكانوا يطوفون بالبيت العتيق ،، إذا هم بزيد وجها لوجه ،، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم ،، ولما قضوا مناسكهم وعادوا إلى ديارهم أخبروا حارثة بما رأوا وحدثوه بما سمعوا ..
فأسرع وأعد راحلته وحمل مالا يفدي به فلذة كبده وقرة عينه ،، وصحب معه أخاه كعبا وانطلقا مسرِعَيْن نحو مكة ..
فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : هو في المسجد ،، فدخلا عليه فقالا : يا ابن هاشم ،، يا ابن سيد قومه ،، أنتم أهل حرم الله وجيرانه ، تكفون العاني ، وتطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه ،، فإنا سنرفع لك في الفداء ،، قال : ما هو ؟ قالوا : زيد بن حارثة .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا غير ذلك ؟ قالوا : ما هو ؟ قال : ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء ،، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا .. قالوا : قد زدتنا على النصف وأحسنت ..
فدعاه فقال : هل تعرف هؤلاء ؟ قال نعم ، هذا أبي وهذا عمي .. فقال : فأنا من قد علمت ورأيت من محبتي لك فاخترني أو اخترهما .. فقال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا .. أنت بمنزلة الأب والعم .. فقالا : ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك ؟ قال : نعم ،، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا .. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجر فقال : يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه .. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا ..
فدُعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام ،، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ،، فلما طلقها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ..
فتكلم المنافقون في ذلك وقالوا : تزوج امرأة ابنه فنزل قوله تعالى : " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ " وقال : " ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " ،، فدُعي يومئذ زيد بن حارثة ..
:: سيد الأولين والآخرين ::
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات ،، وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب والنظر السديد ،، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف ،، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة ،، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات ،، فعاف ما سواها من خرافة ونأى عنها ،، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم ،، فما وجد حسنا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة ،، فكان لا يشرب الخمر ولا يأكل مما ذُبح على النصب ولا يحضر للأوثان عيدا ولا احتفالا ،، بل كان من أول نشأته نافرا من المعبودات الباطلة ،، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها ،، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى ..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة وشمائل كريمة ،، فكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خُلقا وأعزهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وألينهم عريكة ( سلس الخلق ) وأعفهم نفسا وأكرمهم خيرا وأبرهم عملا وأوفاهم عهدا وآمنهم أمانة ،، حتى سماه قومه :: الأمين :: لما جُمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية ،، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكَل ويكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ..
صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم
:: ومن هنا كانت البداية ::
كان محمد صلى الله عليه وسلم يهجر مكة كل عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء وهو غار على مسافة بضعة أميال من القرية الصاخبة ،، في رأس جبل من هذه الجبال المشرفة على مكة والتي ينقطع عندها لغو الناس وحديثهم الباطل ..
كان محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ زاد الليالي الطوال ثم ينقطع عن العالمين متجها بفؤاده المشوّق إلى رب العالمين ..
في غار حراء كان محمد عليه الصلاة والسلام يتعبد ويصقل قلبه وينقي روحه ويقترب من الحق ويبتعد عن الباطل حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية ،، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ..
(( في هذا الغار اتصل محمد بالملأ الأعلى ))
ومن قلبه شهد بطن الصحراء أخا لمحمد عليه الصلاة والسلام يخرج فارّاً من مصر متوحشا ويجتاز القفار متلمسا الأمن والسكينة والهدى لنفسه وقومه فبرقت له من شاطيء الوادي الأيمن نار مؤنسة ،، فلما تيممها إذا النداء الأقدس يغمر مسمعه ويتخلل مشاعره :: " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي " ..
إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون لتتقد مرة أخرى في جوانب الغار الذي حوى رجلا يتحنث ويتطهر نائيا بجسمه وروحه عن أرجاس الجاهلية ومساوئها ،، لكن الشعلة لم تكن نارا تستدرج الناظر بل كانت نورا ينبسط بين يدي وحي مبارك يسطع على القلب العاني بالإلهام والهداية والتثبيت والعناية ،، فإذا محمد صلى الله عليه وسلم يصغي في دهشة وانبهار إلى صوت الملك يقول له : " اقرأ " فيجيب مستفسرا : " ما أنا بقاريء " ،، ويتكرر الطلب والرد لتنساب بعده الآيات الأولى من القرآن العزيز ..
:: وقوف في وجه العاصفة ::
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ،، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ،، ثم حُبّب إليه الخلاء ،، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ( يتعبد ) الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله يتزود لذلك ،، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ،، حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء ، فجاء الملك فقال : اقرأ ،، قال : ما أنا بقاريء ،، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ،، قلت : ما أنا بقاريء ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ،، قلت : ما أنا بقاري ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ،، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ،، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ،، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتجف بوادره ،، حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال : " زملوني ، زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ،، ثم قال لخديجة : أي خديجة ، مالي ؟ وأخبرها الخبر : ثم قال : لقد خشيت على نفسي ،، قالت له خديجة : كلا ، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ..
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ، فقالت له خديجة : أي ابن عم : اسمع من ابن أخيك ،، فقال له ورقة : يا ابن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ،، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ مخرجيّ هم ؟ قال : نعم ،، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي .. وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ،، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي ..
لكأن الأربعين عاما السابقة يوم واحد ،، وبــــــدأ الوحي صبيحة يــــــوم جديــــــد …..
كان موقف زوجه خديجة منه أشرف المواقف التي تحمد لامرأة في الأولين والآخرين ،، طمأنته حين قلق وأراحته حين جهد وذكرته بما فيه من فضائل ،، مؤكّدة له أن الأبرار أمثاله لا يُخذلون أبدا ..
ومع ما سمعته أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها من أن قوم الرسول صلى الله عليه وسلم سيحاربونه ويخرجونه وهي تعرف صلابة قريش وقوتها ،، قررت مع كل ذلك الوقوف في وجه العاصفة المتوقعة وقبلت في سبيل الله أن تتحمل الأذى والمشقة وأن تقبل هذه المهمة الصعبة وهي الوقوف في وجه قريش ،، فهذا من أعظم الأمثلة للمؤمنات الصادقات ليقتدين بأم المؤمنين رضي الله عنها في تحملها المشقة والأذى لتؤازر زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقف خلفه ليتمكن بفضل الله من نشر دعوة الإسلام بين قومه ثم في جميع أنحاء المعمورة وليقيم دولة الإسلام ..
:: أول قلب خفق بالإسلام ::
إن أول قلب خفق بالإسلام ،، وتألق بنوره قلب امرأة ،، هي سيدة نساء العالمين في زمانها :: أم القاسم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها :: ،، فلم تأخذ الدين مشايعة ولم تتلقه مجاملة ،، بل أخذته عن تأثر به وظمأ إليه ..
:: بيــــت مبـــاركـــــ ::
هكذا كانت خديجة رضي الله عنها أول الناس إسلاما وكذلك بناتها ،، بل كل من كان في هذا البيت المبارك كانوا من المسارعين للدخول في الإسلام ،، مثل علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي الله عنهما ..
فهذا البيت هو خير البيوت في هذا الكون كله ،، فمنه خرجت خديجة سيدة نساء العالمين ومنه خرجت ابنتها فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وقبل كل هذا فلقد نزل فيه الوحي على الحبيب صلى الله عليه وسلم وعاش فيه سيد الأولين والأخرين صلى الله عليه وسلم ..
ومنه خرج علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ومنه خرج زيد بن حارثة الذي لم يذكر الله تعالى في كتابه اسم صحابي غيره فقال تعالى : " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا " ..
:: في رحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم ::
وظلت خديجة رضي الله عنها ملازمة للحبيب صلى الله عليه وسلم مرحلة تقارب ربع قرن من الزمن ،، فكانت تنهل من النبع الصافي مباشرة تأخذ من هديه ودلّه وأخلاقه وعلمه ورحمته ،، فكانت في سعادة غامرة تنعم بها ..
وكانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة التي كانت في هذا الوقت وهي :: ركعتان في الغداة وركعتان في العشي :: وذلك قبل أن تُفرض الصلوات الخمس في ليلة الإسراء ،، وذلك لأن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الفرائض ..
:: وانفجرت مكة بمشاعر الغضب ::
وبدأ النبي يدعو قومه وعشيرته إلى الإسلام وإلى التوحيد ..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما أُنزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " ،، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعمَّ وخَصَّ فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار … يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار … يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار … يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار … يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار … يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار … يا فاطمة أنقذي نفسك من النار … فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ( أي سأصلها بصلتها ) ..
ومنذ جهر الرسول بالدعوة إلى الله ،، وعالن قومه بضلال ما ورثوه عن آبائهم .. انفجرت مكة بمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعد المسلمين عصاة ثائرين ،، فزلزلت الأرض تحت أقدامهم واستباحت في الحرم الآمن من دمائهم وأموالهم وأعراضهم ..
وصاحبت هذه السخائم المشتعلة حرب من السخرية والتحقير قُصد بها تخذيل المسلمين وتهوين قواهم المعنوية ..
:: صبــــرٌ واحتساب ::
كانت خديجة رضي الله عنها ترى ما كان يتعرض له الحبيب صلى الله عليه وسلم من الإيذاء والسخرية وتثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس ،، فكانت بذلك مثلا عظيما بل وقدوة لكل أخت مسلمة :: زوجها داعية إلى الله تعالى :: لتخفف عنه ما يراه من الابتلاءات التي تجعل الحليم حيرانا ..
فعن عروة بن الزبير قال سألت عمرو بن العاص أخبرني بأن أشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فنخنقه خنقا شديدا ،، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ " ..
وغيرها الكثير من الابتلاءات والأذى الذي لقاه الحبيب صلى الله عليه وسلم من قريش في سبيل دعوته ..
وكذلك تعرض أصحابه صلى الله عليه وسلم لأشد أنواع الأذى والابتلاءات ..
لكن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ،، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح ،، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان ،، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها من الجهل والظلم والخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية ،، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم والعياذ بالله منها ،، فإذا هُذّب العبد ونُقّي أُذن له في دخول الجنة ..
:: سحائب الحزن ،،،، والهجرة إلى الحبشة ::
لما كان إيذاء المشركين للموحدين يزداد يوما بعد يوم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ..
فلقد كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة بدأت ضعيفة ،، ثم لم تزل بوما بعد يوم وشهرا بعد شهر حتى اشتدت في أواسط السنة الخامسة ،، حتى نبا بهم المقام في مكة وأوعزهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم ،، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة نزلت سورة الكهف ردودا على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اشتملت على ثلاث قصص فيها إشارات بليغة من الله تعالى إلى عباده المؤمنين ،، وجاءت قصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مركز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين متوكلا على الله : " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا " ..
ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة ،، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " ،، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن النجاشي ملك الحبشة ملك عادل لا يُظلم عنده أحد ،، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من الفتن ..
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة كان مكونا من اثنى عشر رجلا وأربع نسوة رئيسهم عثمان بن عفان ومعه السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ،، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما : إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام ..
ووقفت أمنا خديجة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تودع ابنتها رقية وزوجها عثمان رضي الله عنهما ودموعها تقطر على وجنتيها ،،
ولكنها مع كل هذا تصبر وتحتسب لأنها كانت تتمنى من أعماق قلبها أن تضحي بكل شيء في سبيل نصرة هذا الدين العظيم مهما كان الثمن ،، فكل شيء يهون ما دام في طلب مرضاة الله ..
:: الصحيفة الظالمة ::
إن قريشا لما رأت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا فيه أمنا وقرارا ،، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ،، وأن عمر قد أسلم وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عادوا قريشا وهو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،، وجعل الإسلام يفشو في القبائل فأجمعوا رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا ، فقالوا لقومه : خذوا منا دية مضاعفة وليقتله رجل من غير قريش وتريحون أنفسكم ، فأبى قومه بنو هاشم من ذلك وظاهرهم بنو عبد المطلب بن عبد مناف ..
فلما منعه قومه صلى الله عليه وسلم من قريش أجمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشِعب وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ..
فكتبوا الصحيفة وعلقوها في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم ،، وقطعوا عنهم الأسواق ،، ولم يتركوا طعاما ولا إداما ولا بيعا إلا بادروا إليه واشتروه دونهم ..
فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب ،، فدخلوا معه في شِعبه مؤمنهم وكافرهم ،، فالمؤمن دينا والكافر حمية .. وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ..
واشتد الحصار عليهم حتى لجؤوا إلى أكل الأوراق والجلود ،، حتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضورون من الجوع ،، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم ..
وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله ،، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يأتي بعض فرشهم ( أي ينام مكانهم ) ..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم فيلقون الناس ويدعونهم إلى الإسلام ..
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة ( الأَرَضة ) فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر الله عز وجل ،، فكان كذلك ،، ثم رجع بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى مكة ،، وحصل الصلح برغم من أبي جهل عمرو بن هشام ..
وظلت الطاهرة أمنا خديجة رضي الله عنها من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشد أزره وتشاركه في حمل الأذى من قومه بنفس راضية صابرة محتسبة ،، حتى قضى الله تعالى قضاءه في هذه المقاطعة الظالمة المريرة ..
انتهى الحصار ،، وخرجت الطاهرة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها من الحصار ظافرة بثمرة صبرها لتتابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرها في الحياة زوجة أمينة مستظلة بظل الوفاء وصدق الإيمان وحسن الصبر ،، وفي ثبات المسلمين على هذه الشدة الرهيبة جعلهم الله من أصحاب المقام الرفيع في الآخرة وجعلهم سادة الأرض في الدنيا وذلك جزاء الصابرين وأجر الشاكرين ..
وجزاهم في جنة الخلد فيما ,,,,,,,,,, صبروا وهي منه خير جزاء
:: الله سبحانه يُقريء خديجة السلام ::
جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده خديجة فقال : إن الله يُقريء خديجة السلام ،، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ،، فقالت : إن الله هو السلام ،، وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ..
فيا لها من أم فقيهة ذكية تعلمت الأدب كله وتعايشت معه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع الله له كل الفضائل والمناقب والمكارم جلا وعلا ،، " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " ..
:: والجزاء من جنس العمل ::
تعالوا بنا لنعرف لماذا جاءت البشرى ببيت من قصب ،، ولماذا القصب بالذات ؟؟
عن فاطمة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ،، أين أمي خديجة ؟ قال : في بيت من قصب ،، فقلت : أمن هذا القصب ؟ قال : لا ،، من القصب المنظوم بالدُّر واللؤلؤ والياقوت ..
وقوله من قصب ولم يقل من لؤلؤ ،، أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب الدنيا بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ..
وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه ، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها ،، إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها ..
وأما قوله : ببيت ،، فالمراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها ،، ولهذا قال :: لا نصب فيه :: أي لم تتعب بسببه ..
ولذكر البيت معنىً لطيف ؛ لأنها كانت ربة بيت في الإسلام منفردة به ،، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها ،، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها ..
البيت عبارة عن القصر ،، والجزاء من جنس العمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا صخب فيه ولا نصب ،، فالصخب : الصياح والمنازعة برفع الصوت ،، والنصب : التعب ..
أي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابته خديجة طوعا ،، فلم تحوجه إلى رفع الصوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك ،، بل أزالت كل نصب ،، وآنسته من كل وحشة ،، وهونت عليه كل عسير ،، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها ..
:: عــــــام الحـــــزن ::
انطلق المسلمون من الشعب يستأنفون نشاطهم القديم بعد ما قطع الإسلام في مكة قرابة عشرة أعوام مليئة بالأحداث الضخمة ، وما إن تنفس المسلمون من الشدة التي لاقوها حتى أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بوفاة زوجه خديجة ثم بوفاة عمه أبي طالب ..
إن خديجة من نعم الله الجليلة على محمد عليه الصلاة والسلام ،، فهي صدّيقة النساء ،، حَنَت على رجلها ساعة قلق ، وكانت نسمة سلام وبر ، رطبت جبينه المتصبب من آثار الوحي ، وبقيت ربع قرن معه ،، تحترم قبل الرسالة تأمله وعزلته وشمائله ، وتحمل بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة ،، وماتت والرسول صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره وهي تجاوزت الخامسة والستين ، وقد أخلص لذكراها طول حياته ..
:: وهكذا يكون الوفــــاء ::
حزن النبي صلى الله عليه وسلم لموتها حزنا شديدا ،،
فها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويقول : (( كَمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران :: وخديجة بنت خويلد :: وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )) ..
ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة قبلها أبدا .. بل ولم يتزوج عليها حتى ماتت ..
ولم تزده الأيام بعد وفاتها إلا حبا ووفاءً لها ،، فكان يثني عليها دائما ويحب من يحبها بل وكان يحب أن يرى أو يسمع من يذكّره بها وبأيامها العطرة المباركة ..
:: زاد المسير إلى طريق الطهر والعفاف ::
وهكذا صعدت تلك النفس المطمئنة إلى ربها حين جاء أجلها المحتوم بعد أن ضربت مثالا رائعا في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ،، وقد عاشت مع الرسول الكريم خمسا وعشرين سنة كانت فيها الزوجة الحكيمة العاقلة التي لم تبخل بشيء فيه مرضاة الله ورسوله ،، وقد استحقت أن تُبَشَّر بالجنة ..
هكذا رحلت أمنا الغالية خديجة رضي الله عنها وأرضاها ،، التي لا ينتهي أبدا عبير سيرتها ..
وها نحن نقدم سيرتها لكل أخت مسلمة لتتعلم كيف تكون القدوة الحقيقية في زمن غابت فيه القدوات ..
أختاه :: ها هي أمنا خديجة رضي الله عنها قدوة لا تتكرر عبر الزمان ،، إن سيرتها هي زاد المسير إلى طريق الطهر والعفاف والبذل والتضحية والعطاء ..
وأخيرا فلا نملك ونحن نودع أمنا الغالية إلا أن نقرأ قوله تعالى :: " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ،، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ " ..
رضي الله عنها وأرضاها وجعل جنة الفردوس مثواها
وإلى لقاء مع الصحابية الجليلة سودة بنت زمعة
فانتظرونا ..
جزاك الله خيراااا
بارك الله فيك