باب بيان كثرة طرق الخير
قال الله تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215)، وقال تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) (البقرة: 197) ، وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، وقال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) (الجاثـية:15) ، والآيات في الباب كثيرة .
قال مؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : ( باب بيان كثرة طرق الخير )، الخير له طرق كثيرة وهذا من فضل الله ـ عز وجل ـ على عباده من أجل أن تتنوع لهم الفضائل والأجور ، والثواب الكثير ، وأصول هذه الطرق ثلاثة : إما جهد بدني ، وإما بذل مالي ، وإما مركب من هذا وهذا ، هذه أصول طرق الخير . أما الجهد البدني فهو أعمال البدن ؛ مثل الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، وما أشبه ذلك ، وأما البذل المالي فمثل الزكوات ، والصدقات ، والنفقات ، وما أشبه ذلك ، وأما المركب فمثل الجهاد فسبيل الله بالسلاح ؛ فإنه يكون بالمال ويكون بالنفس ، ولكن أنواع هذه الأصول كثيرة جداً ، من أجل أن تتنوع للعباد الطاعات ، حتى لا يملوا . لو كان الخير طريقاً واحد لمل الناس من ذلك وسئموا ، ولما حصل الابتلاء ، ولكن إذا تنوع كان ذلك أرفق بالناس ، وأشد في الابتلاء .
قال الله تعالى في هذا الباب : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) (البقرة:148) ، وقال تعالى : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) (الأنبياء:90) ، وهذا يدل على أن الخيرات ليست خيراً واحداً ، بل طرق كثيرة .
ثم ذكر المؤلف آيات تشير إلى الخير له طرق ، قال تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) (البقرة: 197)، ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215) ، ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، والآيات في هذا كثيرة ، تدل على أن الخيرات ليست صنفاً واحداً ، أو فرداً واحداً ، أو جنساً واحداً .
ويدل لما قلنا أن من الناس من تجده يألف الصلاة ، فتجده كثير الصلوات ، ومنهم من يألف قراءة القرآن ، فتجده كثيراً يقرأ القرآن ، ومنهم من يألف الذكر ، والتسبيح ، والتحميد ، وما أشبه ذلك ، فتجده يفعل ذلك كثيراً ، ومنهم الكريم الطليق اليد الذي يحب بذل المال فتجده دائماً يتصدق ، ودائماً ينفق على أهله ويوسع عليهم في غير إسراف .
ومنهم من يرغب العلم وطلب العلم ، الذي هو في وقتنا هذا قد يكون أفضل أعمال البدن ؛ لأن الناس في الوقت الحاضر ، في عصرنا ، هذا محتاجون إلى العلم الشرعي ، لغلبة الجهل، وكثرة المتعالمين الذين يدعون أنهم علماء ، وليس عندهم من العلم إلا بضاعة مزجاة ، فنحن في حاجة إلى طلبة علم ، يكون عندهم علم راسخ ثابت مبني على الكتاب والسنة ، من أجل أن يردوا هذه الفوضى التي أصبحت منتشرة في القرى والبلدان والمدن ؛ كل إنسان عنده حديث أو حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى للفتيا ، ويتهاون بها ، وكأنه شيخ الإسلام ابن تيمية ، أو الإمام أحمد أو الإمام الشافعي ، أو غيرهم من الأئمة ، وهذا بنذر بخطر عظيم ؛ إن لم يتدارك الله الأمة بعلماء راسخين ، عندهم علم قوي وحجة قوية .
ولهذا نرى أن طلب العلم اليوم أفضل الأعمال المتعدية للخلق ، أفضل من الصدقة ، وأفضل من الجهاد ، بل هو جهاد في الحقيقة ، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعله عديلاً للجهاد في سبيل الله ، وليس الجهاد الذي يشوبه ما يشوبه من الشبهات ، ويشك الناس في صدق نية المجاهدين ، لا ، الجهاد الحقيقي الذي تعلم علم اليقين أن المجاهدين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ، فتجدهم مثلاً يطبقون هذا المبدأ في أنفسهم قبل أن يجاهدوا غيرهم ، فالجهاد الحقيقي في سبيل الله : الذي يقاتل فيه المقاتلون لتكون كلمة الله هي العيا يعادله طلب العلم الشرعي ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ، يعني ما كانوا ليذهبوا إلى الجهاد جميعاً ، ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني وقعدت طائفة ، وإنما قعدوا ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122) ، فجعل الله طلب العلم معادلاً للجهاد في سبيل الله ، الجهاد الحق الذي يعلم بقرائن الأحوال وحال المجاهدين أنهم يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا .
فالمهم أن طرق الخير كثيرة ، وأفضلها فيما أرى ـ بعد الفرائض التي فرضها الله ـ هو طلب العلم الشرعي ، لأننا اليوم في ضرورة إليه ، لقد سمعنا وجاءنا استفتاء عن شخص يقول : من صلى في مساجد البلد الفلاني فإنها لا تصح صلاته ، لأن الذين تبرعوا لهذه المساجد فيهم كذا ، وكذا ومن صلى على حسب الأذان ، فإنه لا تصح صلاته . لماذا ؟! لأنه مبني على توقيت وليس على رؤية الشمس ، و الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس ، وكان ظل الرجل كطوله ، ما لم يحضر العصر )(103) ، أما الآن ؛ الأوقات مكتوبة في أوراق ، والناس يمشون عليها ، هؤلاء كلهم لا تصح صلاتهم ، يعني كل المسلمين ـ على زعمه ـ لا تصح صلاتهم ، وهذه بلبلة .
والمشكلة أن مثل هذا ، يقال : إنه رجل عنده شيء من العلم ، لكنه علم الأوراق الذي يعطى الإنسان فيه بطاقة تشهد بأنه متخرج من كذا وكذا ، ثم يقول : أنا من ، أنا ,, !! فالحاصل أنه لابد للأمة الإسلامية من علماء راسخين في العلم ، أما أن تبقى الأمور هكذا فوضى ، فإنهم على خطر عظيم ، ولا يستقيم للناس دين ، ولا تطمئن قلوبهم ، ويصير كل واحدٍ تحت شجرة يفتي ، وكل واحد تحت سقف يفتي ، وكل واحد على قمة جبل يفتي ، وهذا ليس صحيح ، لابد من علماء عندهم علم راسخ ثابت ، مبني على الكتاب والسنة ، وعلى العقل والحكمة . والله الموفق .
وأما الأحاديث فكثيرة جداً وهي غير منحصرة فنذكر ، ومنها طرفاً منها :
117 ـ الأول : عن أبى ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ) قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : ( أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً ) ، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق ). قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة على نفسك ) متفق عليه(104) .
( الصانع ) بالصاد المهملة ، هذا هو المشهور ، وروي : (ضائعاً ) بالمعجمة أي ذا ضياع من فقر أو عيال ، ونحو ذلك ، و( الأخرق ) : الذي لا يتقن ما يحاول فعله .
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب كثرة الخير ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه سال النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ) والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال من أجل أن يقوموا بها ، وليسوا كمن بعدهم ، فإن من بعدهم ربما يسألون عن أفضل الأعمال ، ولكن لا يعملون . أما الصحابة فإنهم يعملون ، فهذا ابن مسعود ـ رضي اله عنه ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت ثم أي ؟ قال ( بر الوالدين ) . قلت ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله )(105) .
وهذا أيضاً أبو ذر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال ؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الأعمال إيمان بالله ، وجهاد في سبيله ، ثم سأله عن الرقاب : أي الرقاب أفضل ؟ والمراد بالرقاب : المماليك ، يعني : ما هو الأفضل في إعتاق الرقاب ؟ فقال : ( أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً ) وأنفسها عند أهلها يعني : أحبها عن أهلها ، وأكثرها ثمناً : أي أغلاها ثمناً ، فيجتمع في هذه الرقبة النفاسة ، وكثرة الثمن ، ومثل هذا لا يبذله إلا الإنسان عنده قوة وإيمان .
ومثال ذلك : إذا كان عند رجل عبيد ومنهم واحد يحبه ؛ لأنه قائم بأعماله ، ولأنه خفيف النفس ، ونافع لسيده ، وهو كذلك أيضاً أغلى العبيد عنده ثمناً ، فإذا سألا أيما أفضل ؟ أعتق هذا ، أو ما بعده ، أو ما دونه ؟ قلنا أن تعتق هذا ، لأن هذا أنفس الرقاب عندك ، وأغلاها ثمناً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرقاب : أغلاها ثمناً ، أنفسها عند أهلها . وهذا كقوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران:92).
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به ، اتباعاً لهذا الآية .
وجاء أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ حين نزلت هذه الآية : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله أنزل قوله : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وأن أحب مالي إلى بيرحاء ، وبيرحاء بستان نظيف قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتني إليه ، ويشرب من ماء فيه طيب عذب ، وهذا يكون غالباًً عند صاحبه ، فقال أبو طلحة : وإن أحب مالي إلي بيرحاء ، وإني أجعلها صدقة لله ورسوله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بخ . بخ ) . يعني يتعجب ويقول : ( مال رابح ، مال رابح ) ثم قال : ( أرى أن تجعلها في الأقربين )(106) ، فقسمها أبو طلحة في قرابته ، والشاهد أن الصحابة يتبادرون الخيرات .
ثم سأله أبو ذر : إن لم يجد ، يعني رقبة بهذا المعني ، أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً ؟ قال : ( تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) ، يعني : تصنع لإنسان معروفاً ، أو تعين أخرق ، ما يعرف ، فتساعده وتعينه ، فهذا أيضاً صدقة ومن الأعمال الصالحة .
قال : فإن لم أفعل ؟ قال : ( تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة منك على نفسك ) وهذا أدنى ما يكون ؛ أن يكف الإنسان شره عن غيره ، فيسلم الناس منه ، والله الموفق .
118 ـ الثاني : عن أبي ذر أيضاً ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقه ، وكل تهليله صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) رواه مسلم (107). ( السلامى ) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم : المفصل .
قال المؤلف ـ رحمه الله في باب كثرة طرق الخيرات ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ) السلامى هي العظام ، أو مفاصل العظام ، يعني أنه يصبح كل يوم على كل واحد من الناس صدقة في كل عضو من أعضائه ، في كل مفصل من مفاصله ، قالوا : والبدن فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً ، ما بين صغير وكبير ، فيصبح على كل إنسان كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة .
ولكن هذا الصدقات ليست صدقات مالية ، بل هي عامة ، كل أبواب الخير صدقة ، كل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنك إذا أعنت الرجل في دابته وحملته عليها أو رفعت له عليها متعة فهو صدقة )(108) كل شيء صدقة ، قراءة القرآن صدقة ، طلب العلم صدقة ، وحينئذ تكثر الصدقات ، ويمكن أن يأتي الإنسان بما عليه من الصدقات ، وهي ثلاثمائة وستون صدقة .
ثم قال : ( ويجزى من ذلك ) ، يعني : عن ذلك ( ركعتان يركعهما من الضحى ) يعني أنك صليت من الضحى ركعتين ؛ أجزأت عن كل الصدقات التي عليك ، وهذا من تيسير الله ـ عز وجل ـ على العباد .
وفي الحديث دليل على أن الصدقة تطلق على ما ليس بمال .
وفيه أيضاً دليل على أن ركعتي الضحى سنة ، سنة كل يوم ، لأنه إذا كان كل يوم عليك صدقة على كل عضو من أعضائك ، وكانت الركعتان تجزي ، فهذا يقضي أن صلاة الضحى سنة كل يوم ، من أجل أن تقضي الصدقات التي عليك .
قال أهل العلم : وسنة الضحى يبتدئ وقتها مع ارتفاع الشمس قدر رمح ، يعني حوالي ربع إلى ثلث ساعة بعد الطلوع ، إلى قبيل الزوال ، أي إلى قبل الزوال بعشر دقائق ، كل هذا وقت لصلاة الضحى ، في أي وقت فيه تصلى ركعتي الضحى ، ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال ، فإنه يجزي لكن الأفضل أن تكون في آخر الوقت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )(109) ، يعني حين تقوم الفصال من الرمضاء لشدة حرارتها ؛ ولهذا قال العلماء : إن تأخير ركعتي الضحى إلى آخر الوقت أفضل من تقديمها ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن تؤخر صلاة العشاء إلى آخر الوقت ، إلا مع المشقة .
فالحاصل أن الإنسان قد فتح الله له أبواب طرق الخير كثيرة ، وكل شيء يفعله الإنسان من هذه الطرق ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . والله الموفق .