تخطى إلى المحتوى

الهموم والغموم 2024.

عازبات يرفضن تطليق الشارع وأمهات يفضلنه على”جحيم الأزواج”
ليلة مع المتشردين في شوارع العاصمة

ينتشرون مثل خفافيش الليل عبر أزقة وشوارع العاصمة، يتخذون من مداخل العمارات والحدائق العمومية مأوى لهم، يفترشون الأرض ويلتحفون القش البالي، علهم يجدون بعض الدفء الذي حرموا منه، كل منهم يخفي في جعبته مأساة حاكها الزمن ونسجتها الظروف الاجتماعية القاهرة التي رمت بهم إلى الشارع، ليحتضنهم ”الكرتون” بعد أن أوصدت أبواب بيوتهم في وجوههم. وحتى إن اختلفت حكاياتهم ومعاناتهم، إلا أنهم
يتشاركون في لقب واحد، المتشردون أو ”حراس العاصمة”.
في جولة ميدانية لـ”الخبر” مع فرقة المساعدة الاجتماعية الاستعجالية المتنقلة ”سامو” التابعة لوزارة التضامن الوطني والأسرة، وقفنا على ما تخبئه شوارعنا بعد أن يرخي الليل سدوله.. مراهقون، رجال، شابات، سيدات تجاوزن العقد الخامس، شيوخ وأمهات عازبات.. كل واحد منهم اتخذ ركنا من شارع ما مضجعا له، مشكلين ديكورا يوميا عبر شوارع ديدوش مراد وحسيبة بن بوعلي وخليفة بوخالفة (ميسونيي) إلى ساحة بور سعيد (السكوار سابقا) مرورا بشارع العقيد عميروش.
انطلقنا في حدود الحادية عشر ليلا من دار الرحمة ببئر خادم، لتكون أول محطة بشارع ديدوش مراد حيث التقينا سليمة، سيدة في عقدها الرابع اتخذت من مدخل عمارة مأوى لها. حاول أهل الحي إقناعها بالذهاب إلى دار الرحمة، إلا أنها رفضت وأجهشت بالبكاء، خاصة أنها تعاني من اختلالات عقلية، حسب الأخصائيين النفسانيين. اقتربنا منها وعرفنا أنها أرملة، زوجها سوري توفي هناك، ولديها ولد وبنت موجودان بدار الأيتام في سوريا.
تركنا سليمة بعد أن فشلت كل السبل معها في إقناعها بركوب حافلة ”سامو”، وقال بن عودة عزازان عن سليمة ”كثيرا ما نصادف مثل هذه الحالات، لذا، نترك للشخص حرية الاختيار. فإذا رفض المجيء معنا، لن نجبره، لكننا نكرّر معه في كل خرجة ميدانية إلى غاية أن نكسب ثقته ويأتي معنا إلى المركز”.
أبناءغير شرعيين لأمهات عازبات في الشارع
واصلنا جولتنا إلى أن وصلنا إلى شارع خليفة بوخالفة، حيث كانت مجموعة من النسوة مرفقات بأطفالهن الرضع، اتخذن من الرصيف المحاذي لمسجد الرحمة مأوى لهن. الاقتراب منهن كان صعبا، لكن مرافقتنا للأخصائية النفسانية وارتدائنا لسترة ”سامو” سهّل علينا المهمة.
بعد الاقتراب منهن وتبادل أطراف الحديث، اتضح أنهن أمهات عازبات. عرضنا عليهن الذهاب إلى المركز، إلا أنهن رفضن الأمر جملة وتفصيلا، كحال مريم، 35 سنة، من باتنة، هربت من منزلها العائلي بعد حملها من علاقة غير شرعية، وهي في العاصمة منذ 4 سنوات، تفترش ”الكرتون” بجانب رضيعها أحمد ياسين بعد أن طردها صاحب المسكن الذي أجرته لمدة. ترجيناها أن تذهب إلى المركز خشية على رضيعها الذي لا ذنب له في كل هذا، إلا أنها أصرّت على عدم الذهاب، ولكنها قبلت بالحفاظات والحليب.
وقالت إحدى الأخصائيات النفسانيات ”توجد الكثير من الحالات من أمثال مريم، فهناك شابات تابعنا مرحلة حملهن والآن هن بأطفالهن، نقدم لهن الحليب والحفاظات، هن يرفضن الذهاب إلى المركز لأنهن يحترفن التسوّل نهارا بأطفالهن”. ولدى استفسارنا عن مصير الأطفال في مثل هذه الحالات وإمكانية أخذهم من أمهاتهم، قال المكلف بالاتصال على مستوى الوزارة، الهاشمي نوري، إنه ليست هناك أي صيغة قانونية تمكنهم من ذلك، لأن مهمتهم تنحصر في تقديم المساعدة فقط.
واصلنا السير ونحن ننتقل من حالة إلى أخرى، كل تختلف حكايته وولايته التي قدم منها، ولكنهم يتشاركون في لقب ”المتشرد”، ولديهم علاقات فيما بينهم، لأنهم يعرفون بعضهم البعض جيدا، ويعرفون حتى أعضاء ”سامو” بأسمائهم، مثلما قالت الأخصائية النفسانية ”سهيلة. ا”: ”هناك متشردين نعرفهم جيدا، وهم كذلك يعرفوننا، تربطنا علاقات معهم. وفي العديد من المرات، ينتظروننا يوميا كي نقدم لهم المشروبات الساخنة والأغطية، وحتى هناك من ينتظر للذهاب إلى المركز لينعم ببعض الدفء”.
وبالبريد المركزي، كان محمد، 53 سنة، من وهران، ملفوفا في غطائه البالي، فهو متواجد بالعاصمة منذ سنة و4 أشهر، أتى باحثا عن عمل يعيل به أسرته، لكنه وجد نفسه متشردا في الشارع ودون مأوى. وبمجرد أن كشفنا عن هويتنا، بادرنا: ”منذ عام و4 أشهر لم أر أو أكلم بناتي الأربع، خاصة الصغرى ذات 3 سنوات.. جئت إلى العاصمة باحثا عن عمل، والآن أنا متشرد في الشارع، لا أستطيع العودة إلى مسقط رأسي، لأنني لا أملك الشجاعة لمقابلة بناتي وأنا على هذه الحالة”.
وعلى الرغم من محاولة الدكتور عزازان إقناع محمد بالذهاب إلى المركز وتوظيفه في إطار الإدماج المهني، حيث سيحصل على أجر شهري يقدر بـ6 آلاف دينار وضمان اجتماعي، إلا أنه رفض قائلا: ”هل يمكن لـ6 آلاف دينار أن تعيل أسرة بأكملها؟”.
أبناء العاصمة.. مشردون في ولايتهم أيضا
كنا نظن في البداية أن جل المتشردين من مناطق وولايات أخرى، لكن اتضح أن هناك العديد من أبناء العاصمة غدر بهم الزمن وألقي بهم إلى الشارع، مثل حالة سيد علي، 62 سنة، من حي ”سالومبي” (المدنية)، يوجد في الشارع منذ 8 سنوات. بمجرد اقترابنا منه، رفض الحديث. ولكن بعد إصرارنا، فتح قلبه المهموم قائلا: ”كنت متزوج ولدي أبناء. لكن بعد وقوع مشاكل مع زوجتي، قمت بتطليقها. عندها، طردني أولادي إلى الشارع، مكثت في ديار الرحمة بدالي ابراهيم لمدة 5 أشهر، إلا أنهم طردوني مرة أخرى إلى الشارع، لعدم وجود أماكن شاغرة”. تركنا سيد علي يسترجع ذكرياته وكله أمل في أن يحظى بحضن دافئ في يوم من الأيام.
أما فيصل الشاب، 23 سنة، فحكايته مع الشارع ابتدأت منذ وفاة والدته ووالده الذي أعاد الزواج، إلا أن قسوة زوجة الأب جعلت من حياة فيصل جحيما، خاصة بعد وفاة والده. يقول فيصل: ”كثيرا ما أتعرّض للضرب بسبب أو دونه، كما أن ابنة زوجة أبي هي الأخرى تظلمني كثيرا، لذا قررت الخروج إلى الشارع الذي أصبح منزلي. فرغم البرد والمخاطر، إلا أنني لا أعاني من الظلم الذي عانيته مع زوجة أبي”. ولدى استفسارنا عن عائلته الكبيرة، قال: ”لدي الأخوال والأعمام، ولكن لا أحد يكترث لأمري، فكما يقول المثل: من غير ماما وبابا الناس كامل كذابة”.
ويحتضن الشارع أيضا عائلات بأكملها، حسبما أكد أخصائي نفساني، حيث التقى في إحدى خرجاته إلى جانب ”سامو” بعائلة كاملة مكونة من الوالدين وطفلين، أحدهما رضيع، كانوا ينامون في الشارع، حيث قامت الأم بطرد ابنها المتزوج إلى الشارع رفقة عائلته بعد نشوب خلاف بينها وبين زوجته. وفي حدود الساعة الواحدة والنصف صباحا، اقتربنا من ساحة السكوار، كان بعض المتشردين ينامون مفترشين أرضية الرصيف، فيما اهتدى بعضهم إلى بناء جدران بيوت صغيرة من الكرتون، سقفها لفائف بلاستيكية يقيهم من المطر والرطوبة، وقد رفض العديد من الأخصائيين الاقتراب من بعضهم لعدوانيتهم، لأنه سبق لهم أن تعاملوا معهم.
أردنا أن نجرّب الأمر مع إحدى المتشردات، إلا أننا سمعنا ما لا يرضينا من السب والشتم، وقال أحد النفسانيين كان برفقتنا: ”نحن متعوّدون على مثل هذه الأمور. صحيح أننا لم نتعرّض ولا مرة للعنف الجسدي، باستثناء بعض الحالات، خاصة مع متعاطي المخدرات والخمر الذين يهدّدوننا، لكننا دائما ما نتعرّض للعنف اللفظي، لأن هناك متشردين يكونون تحت تأثير المهلوسات والكحول”.
عميدة المتشردات
وبشارع عميروش بالقرب من مقر أمن ولاية الجزائر، كانت مجموعة من النسوة نائمات. وبمجرد أن اقتربنا منهن، نهضت إحداهن تستفسر عن سبب مجيئنا، ولما عرفناها بأنفسنا على أساس أننا من فرقة ”سامو”، شرعت في الاستفسار إذا كنا من دار الرحمة بئر خادم أو دالي ابراهيم كي تقرر الذهاب أم لا، وعندما أخبرناها أننا من بئر خادم، قبلت بالذهاب إلى المركز.
وفي الطريق، اقتربنا من فتيحة، وهي في عقدها السادس، لتروي لنا قصة قدومها من برج بوعريريج منذ 40 سنة بعد وفاة أبويها. تقول فتيحة: ”أنا عميدة المتشردات، 43 سنة، وأنا أفترش الكرتون في الشارع، أعرف كل المتشردين القدماء أو الجدد، حتى أني أعرف قصصهم.. أعرف العاصمة زنقة.. زنقة. شهدت وفاة العديد من المتشردين من شدة البرد، وأتذكر جيدا يوم انفجرت قنبلة بشارع عميروش، كنت هناك حينها”. توقفت فتيحة فجأة عن الكلام بعد أن اكتشفت تضييعها لكيس”الشمة” ثم واصلت: ”لقد نسيته حيث كنت نائمة، انهض من أمامي”. حاولنا إعادتها للموضوع بعد أن طمأناها بأننا سنشتري لها ”الشمة”، إلا أنها رفضت ذلك.
بعدها، اقترب منا أخصائي نفساني اعتاد التعامل معها، وأخبرنا أنها صعبة المزاج، وكثيرا ما تصادفهم مشاكل معها في المركز، حيث أنها تتشاجر وتضرب الأطفال. كانت الساعة تشير إلى الثانية ونصف صباحا عندما طلب منا الصعود إلى الحافلات، لأن الجولة انتهت.عدنا إلى مركز الأحداث الجانحين ببئر خادم، حيث تم التكفل بالمتشردين من طرف فرقة الاستقبال والتوجيه، وبصحبتنا 23 مشردا، منهم 19 رجلا و3 نسوة، حيث يتم التكفل بهم من جانب النظافة والإطعام والإيواء لمدة 48 ساعة، فبمجرد وصولنا، تم تقديم وجبة ساخنة.
فريد.. من التشرد إلى العمل في ”السامو”
وهناك في المطبخ، التقينا بفريد الذي كان عضوا في عائلة المتشردين في يوم من الأيام، وأصبح الآن يعتني بالمتشردين، يقول فريد: ”قبل 4 سنوات، كنت أعاني من مشاكل عائلية مع زوجتي، حتى أنني أصبت بمرض عصبي، قضيت سنة في مصحة فرانز فانون بالبليدة. بعدها، أصبحت متشردا في الشارع لمدة 3 سنوات. وبعد أن أتى بي أعوان ”سامو” إلى المركز وتكفلوا بي، عرض عليّ المدير منصب طباخ. اشتغلت في إطار الإدماج المهني بـ6 آلاف دينار، والآن أنا موظف عادي، حتى أنني أزور ابنتي المتزوجة”.
وحول ظروف العمل مع فئة المتشردين، قال الأخصائيون النفسانيون والمربون ممن تحدثت إليهم ”الخبر” إنه مع مرور الوقت تعوّدوا على ذلك: ”المتشردين أصبحوا جزءا من حياتنا، حتى أننا لما نلتقي بهم خارج فترات العمل، يسارعون إلينا. لكن في مقابل ذلك، هم مهدّدون بالأمراض كالسل والتهاب الكبد الفيروسي 3 بسبب عدم وجود أدوات الحماية، كما أن مصالح الأمن لا ترافقهم في خرجاتهم”.وعن مصير المتشردين، قال السيد بن عودة عزازان إنه سيتم إجراء تحقيق اجتماعي خلال 48 ساعة، يتم بعد ذلك تحويل المرضى إلى المستشفيات، والمصابين باختلالات عقلية إلى المصحات العقلية، بينما هناك من يتم دمجهم عائليا، في وقت يتم توجيه النساء والأمهات العازبات إلى مركز حجوط ومركز ”دارنا” بالمحمدية، ولا يمكن للمتشرد المكوث في المركز أكثـر من 48 ساعة لعدم وجود أماكن، فالعدد المحدد هو 25 شخصا يوميا.
تركنا المتشردين ينعمون ببعض الدفء الذي حرموا منه لأسباب مختلفة، ولو لسويعات قليلة، ليعودوا مرة أخرى إلى الشارع الذي احتضنهم بعدما لفظتهم كل البيوت.

الله يحفظ و يستر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.