وفي كلّ الأحوال، حصل تداخل بين القبيلة والدّين عصر ذاك، طالما ساهمت القبيلة في نشر الدّين الجديد، واحتاج أبناؤها إلى العلم، المتمثّل خصوصاً في معرفة العلوم الدّينيّة، للانخراط في مسلك الرقيّ الاجتماعي. وفضلا عن اقتران نشأة الكيانات السّياسيّة بالدّعوة الدّينيّة لقيامها منذ تلك الحقبة، فإنّ ثنائيّة القبيلة والدّين أضحت ذات صلة بموضوعات عديدة منها النّسب والشّرف والمعتقد وغيرها.
أوّلاً: ثنائيّة العصبيّة والدّعوة لدى ابن خلدون، بين المعاينة والتنظير
1- ثلاثيّة ابن خلدون: العصبيّة والدّعوة والملك
اقترن نمط العيش البدوي اقتراناً كاملاً بالبنية القبليّة، القائمة بدورها على العصبيّة وعلى شرف النّسب. اقترنت بتطوّر مستمرّ للظّاهرة القبليّة سواء في تركيبتها الدّاخليّة أو في علاقتها بالسلطة والثقافة والدّين.
وإذ تقوم العصبيّة على النّسب سواء أكان حقيقيّاً أو وهميّاً، قريباً أو بعيداً، كي (تقع المناصرة والنّعرة)، فإنّها تمثّل اللّحمة المتكوّنة بين القبائل المتجاورة (للحماية والمدافعة والمطالبة). وتكون القبيلة الأقوى القطب الجاذب لبقيّة القبائل والعشائر التي تنضمُّ إليها في مرحلة أولى قبل أن تنطلق لغزو القبائل والعشائر المجاورة ثم الاستظهار على الدّولة والتغلّب عليها إذا ما بلغت مرحلة الهرم. قال ابن خلدون في هذا الصّدد: (والقبيل الواحد إذا كانت فيه بيوتات متفرّقة وعصبيات متعدّدة، فلا بدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها،وتتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنّها عصبيّة واحدة كبرى، وإلاّ وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتّنازع)
على أنّ الدّعوة الدّينيّة تعدّ شرطاً مكمّلاً للعصبيّة للوصول إلى السّلطة. وهي الوسيلة الوحيدة التي تمكّن البدو من (التسييس). وعند الوصول إلى الملك، تظلّ مساعدة على قوّة الدّولة بعد قيامها.
خصّص ابن خلدون في مقدّمته بعض الفصول لمسألة الدّعوة: (في أنّ الدّول العامّة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدّين إمّا من نبوّة أو دعوة حقّ) – (في أنّ الدّعوة الدينيّة تزيد الدّولة في أصلها قوّة على قوّة العصبيّة التي كانت لها من عددها) – (في أنّ الدّعوة الدّينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ). وعلّل ذلك بكون (الصّبغة الدّينيّة تذهب التّنافس والتّحاسد الذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ)، مستدلاّ على مكانة الدّعوة في قيام الدّولة بالانتصار الذي حقّقه العرب في القادسيّة على الفرس، بيد أنّ عددهم كان أقلّ منهم بكثير. وقدّم نماذج من المجال المغربي، قائلا: (واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين، فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ عليهم، إلاّ أنّ الاجتماع الدّيني ضاعف قوّة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء)
وهكذا ساعدت الدّعوة القائمة أساساً على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على (جمع القلوب وتأليفها)، وعلى تحقيق الوحدة، محوّلة طبيعة البدو العدوانيّة وحرابتهم وغزوهم إلى طاقة حربيّة إيجابيّة، تتحلّى بها العصبيّة الجامعة.
وعلى العكس من ذلك، يؤدّي فساد الدّعوة إلى تغلّب العصبيات ذات الملك على غيرها بحدّ القوّة، وهو ما يفتح الباب لردّ الفعل كلّما استطاعت ذلك، من ذلك مثال سيطرة مصمودة على العهد الموحّدي على القبائل الأشدّ منها بداوة مثل زناتة. و(لمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم
ورغم تأثير الدّعوة على القبيلة، فإنّها (من غير العصبيّة لا تتمّ)
تناول صاحب المقدّمة سيرورة القبيلة إلى الملك، عن طريق آليتين مكمّلتين: العصبيّة والدّعوة الدّينيّة. وتستمدّ العصبيّة قوّتها من (الالتحام) الذي توجد له مبرّرات في النّسب. وتصبح أكثر قوّة لا تصمد في وجهها العصبيات الأخرى كلّما اقترنت بالتحام روحي آخر
هذا الأنموذج القائم على الدّولة العصبويّة أو العضويّة يتفاعل خصوصاً مع المجالات البدويّة في البلاد العربيّة الإسلاميّة
2ـ امتدادات النصّ الخلدوني التّاريخيّة: من التلازم إلى فكّ الارتباط بين القبيلة والدّين
قامت الدّول في هذه الحقبة على أساس العصبيّة القبليّة والدّعوة الدّينيّة. فقد استندت الدّولة الأمويّة إلى عصبيّة قريش، وخصوصاً بني أميّة، وإلى مذهب أهل الجماعة، فيما ارتكزت الدّولة العبّاسيّة على عصبيّة الموالي وعلى مذهب الاعتزال. أمّا الإمارات المستقلّة النّاشئة في المغرب والمشرق فقد تباينت رؤيتها عن المركز الذي انشقت عنه، فدعت بعضها إلى مذهب الخوارج الصّفريّة، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة وأخرى إلى الإباضيّة مثل الدولة الرّستميّة بتاهرت، حيث ظلّ المذهب محدّدا لدور قبائل زناتة ولواتة ونفوسة وهوارة في الحكم الرّستمي، وثالثة إلى الشّيعة الزّيديّة وهي إمارة الأدارسة بفاس. وقد حصل تلازم بين القبيلة والدّين في كلّ هذه الكيانات.
واستمرّ اقتران السّياسة بالدّعوة الدّينيّة في القرن 4هـ/10م، وهو ما يبرهن عنه انتشار المذهب الإسماعيلي لدى قبائل كتامة الجبليّة الواقعة في الأطراف الشّماليّة الغربيّة لإفريقيّة (بين قسنطينة وسطيف وعنابة الحالية)، وبداية تحلّل الهياكل القبليّة الكتاميّة لصالح العصبيّة الدينيّة الجديدة، التي أدّت إلى قيام الدّولة الفاطميّة. فقد تمكّن الدّاعي أبو عبد الله الصّنعاني من بناء مجتمع جديد داخل قبيلة كتامة، عوّضت فيه العصبيّة المذهبيّة العصبية القبليّة، إذ أضحى المذهب مسيطراً على القبيلة. لقد حصل للقبيلة في هذه الحالة تطوّرات كبيرة من جرّاء انتشار الدّعوة داخلها ولم تفلح محاولات التصدّي والمقاومة لهذه الحركة سواء في مرحلة الدّعوة (280-296 هـ/ 894-909م) أو في مرحلة قيام الدّولة.
وعند قيام الدّولة المرابطيّة انطلاقاً من الاتحادية القبليّة لصنهاجة اللّثام القائمة في الصّحراء الكبرى (موريتانيا حالياّ)، تبنّت المذهب المالكي منطلقا لحركتها في اتّجاه واحات الشّمال ومدنه بالمغرب الأقصى وكذلك في اتّجاه بلاد السّودان الغربي جنوباً. وقد نجحت الاتّحاديّة القبليّة في تكوين دولة شملت كل المجال الممتدّ بين الأندلس شمالاً ونهر النيجر جنوباً، وكان فيها لفقهاء المالكيّة دور المسيطر على دواليب الحكم والسّلطة. ولذا ساعد نبذ كلّ رأي مخالف على تعطيل التطوّر الفكري العادي، وتجسّد ذلك في مصادرة الفكر وفي حرق كتاب إحياء علوم الدّين للغزالي،تلتها في العصر الموحّدي ردود فعل في المصادرة الفكريّة.
ولئن قامت قبائل مصمودة بجبال الأطلس الكبير بالمغرب الأقصى المطلّة على مرّاكش بنقض الدّعوة المرابطيّة ومحاربتها، وبالتخلّص من كتب الفروع والاعتماد على الأصول، فإنّ الدّولة التي أنشأتها ظلّت (تيوقراطيّة) إلى حدّ ما، لا فصل فيها بين السّياسة والدّين، وذلك لاستنادها إلى تعاليم محمّد بن تومرت المدّعي للمهدويّة، والذي نجح في بلورة فكر أشعري متأثّر في بعض مظاهره بالسنّة والشّيعة والمعتزلة
إنّ هذه الأمثلة تؤرّخ في مستوى بلاد المغرب والمشرق إلى تلازم بين عصب القبيلة والدّعوة للوصول إلى تكوين دولة. غير أنّ الدّعوة فقدت مكانتها في التعبئة ابتداء من قيام إمارة بني زيّان بتلمسان وبني مرين بفاس وبني الأحمر بغرناطة، على إثر سقوط دولة الموحدين. وباستثناء الإمارة الحفصيّة بتونس التي مثّلت تواصلاً للهياكل الموحّدية على المستوى الشّكلي على الأقلّ، فإنّ بقيّة الكيانات المغربيّة قامت على أساس حدّ السّيف ولا دور للدّين في تعبئة الأنصار. فكان يغمراسن بن زيّان فارسا، لا مذهب معيّن يستند إليه، بخلاف مذهب المالكيّة الذي ترسّخت أقدامه في كامل بلاد المغرب والأندلس. وهو ما نلحظه بذات الكيفيّة في مشرق البلاد العربيّة، إذ قامت دولة المماليك البحريّة على حدّ السّيف وعلى الأقليّات المملوكيّة بمصر، ولم تكن لها دعوة تميّزها عن غيرها. فهل معنى ذلك أنّ نموذجاً جديداً بدأ يطلّ في الأفق، لا يعتمد على الدّعوة بقدر ما يستند إلى السّيف، اقترن فيه دور الفقهاء بالكيانات السّياسيّة القائمة إلى حدّ التّبعيّة المطلقة؟
لقد انطلق ابن خلدون من تجريبيّة هذه الأمثلة ومن غيرها كي يستنبط العلاقة الثلاثيّة بين الملك
العصبيّة والدّعوة.
ثانيا: القبيلة والدّين في الدّراسات الإثنولوجيّة والأنثروبولوجيّة
1- المقاربة الإثنولوجيّة والسّوسيولوجيّة في الحقبة الاستعماريّة: وحدة الموضوع واختلاف التأويلات من مونتاني إلى بارك
عملت هذه الدّراسات التاريخيّة والإتنولوجيّة على تكريس الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، والإبانة عن غياب التطوّر طيلة الحقبة الفاصلة بين الاحتلالين الرّوماني القديم والغربي الحديث، وهي الحقبة التي نعتها (قوتيي) في كتابه بالعصور المظلمة لشمال إفريقيا. وبهذا يكون الاستعمار هو المنقذ لهذه الشّعوب.
وليس أدلّ على ذلك أن يتولّى القيام بهذه الدّراسات جنرالات الاحتلال والمسؤولون في إدارتها. فقد كان روبار مونتاني (1893-1954م) الذي كتب عن البربر والمخزن بجبال الأطلس أنموذجا للضّابط المعتني بالبحث الإتنولوجي. سعى في كتابه إلى إبراز خصوصيات القبيلة البربريّة المستقرّة بالأطلس الكبير، على خلاف القبائل العربيّة البدويّة، متخلّصا إلى توصيفها بتسمية (الجمهوريات البربريّة) التي يتحكّم في تسييرها قانون الصفّ أو اللفّ، بمعنى الثّنائيات المتنافسة والمتنازعة داخل نفس القبيل. وقد اعتمد في ذلك على ما ذكره ماسكري من قبل حول نظرية اللفّ في المغرب الأقصى أو الصفّ في الجزائر. وتنتمي هذه القبائل في رأيه إلى بلاد السّيبة (= السّائبة) التي لا تخضع للمخزن (أو الدّولة)، مع تميّزها بثقافة يسيطر عليها الشّفوي والعرف الجاري، فيما تختصّ المدينة بالحضارة الكتابيّة وبالتّشريعات الفقهيّة. وعموما تميّزت المعلومات التي قدّمها بوجود عنصرين أساسيين: السّلطة المركزيّة (المخزن) والقبائل البربريّة
كان لمقال جاك بيرك حول (مفهوم القبيلة في شمال إفريقيا) الصدى الكبير في الدّراسات حول هذا الموضوع. فقد ابتعد تدريجيّا عن الرؤية المنحازة في دراسة القبيلة والسلطة والثقافة ببلاد المغرب، داعياً إلى إعادة النّظر في هذا المفهوم وتناوله في سياقه التّاريخي وفي علاقته مع السّلطة السّياسيّة.
2ـ المقاربة الانقساميّة
لقد وجد أتباع هذا المنهج في المثل العربي: (أنا ضدّ أخي، أنا وأخي ضدّ ابن عمّي، أنا وأخي وابن عمّي على الغريب) نموذجا لانتظام الأقسام القبليّة من الأعلى إلى الأسفل وللتوازنات القائمة بينها في ظلّ غياب سلطة مركزيّة رادعة، وفق قانوني الانصهار عند وجود خطر خارجي والانشطار عندما يدبّ الوهن إلى جسم القبيل، فتتفكّك إلى وحدات عديدة.
وفي مقاربته لمسألة النّسب داخل هذا النّسيج القبلي هرمي التّركيب وللمقدّس، توقّف عند فاعليّة دور الصّلحاء والشّرفاء في ربط عالم القبائل بعالم الإسلام الواسع ذي الميول الحضريّة وفي المحافظة على التّوازن، معتقداً أنّ العلماء يمثّلون الظاهرة الرّسميّة للإسلام بالمدينة، فيما يكون التصوّف الريفي والقبلي إسلاماً بديلاً لفقه العلماء المتميّز بالجفاء والمحافظة.
ثالثاً: في سبيل مقاربة تاريخيّة ـ أنثروبولوجيّة
1ـ القبيلة والوليّ والفقيه
ركّزت الدّراسات الإتنولوجيّة والتّاريخيّة التقليديّة على الثّنائيات المبسّطة للتاريخ العربي عموماً والمغربي خصوصاً، فتحدثّت عن البربر والعرب، والإباضيّة والسنّة والبدو والحضر والعرف والفقه وغيرها. ولئن نجد صدى لأفكار هذه المدرسة في كتابات فليكس قوتيي وجورج مارسي وروبار برنشفيك وأندري لويس وغيرهم، فإنّ المدرسة الانقساميّة أعادت هذا الطّرح، مستدلّة عليه بما يظهر من نزاع وقتي وظرفي بين القبائل حول المناطق الرّعويّة، وذلك بصرف النّظر عن كونها زناتيّة أو هلاليّة. وسنحاول الإبانة عن حقيقة العلاقة بين الدّين والقبيلة، ومناقشة الطّروحات السّابقة، وذلك بالانطلاق من عيّنات تاريخيّة وأنتروبولوجيّة تخصّ المجال المغربي
– مثال جنوب تونس
سعى وليام برات إلى سحب النظريّة الانقساميّة على التّاريخ المحلّي بجنوب إفريقيّة، ذاهباً بعيداً في تأويل بعض الإشارات المصدريّة حول التّوازنات القبليّة، إذ كان هذا المجال مقسّماً بين بطنين متوازنين من قبيلة دبّاب: المحاميد الممتدّ مجالهم بين جنوب قابس وجبل نفوسة والجواري النّازلين بين جبل نفوسة وزوارة. جاء في التّجاني: (ورئاسة الوشّاحيين الآن محصورة في قبيلتي الجواري والمحاميد، وما عدا هاتين القبيلتين من بني وشّاح، كالعمور والجواوبة يضاف إليهما، وهما قبيلتان متكافئتان في العدد والقوّة، فمهما نقص من أحدهما فارس بموت أو غيره، نقص من الأخرى نظيره
وفضلاً عن كون قبائل دبّاب هي قبائل مخزنيّة، ليست مستقلّة عن السّلطة المركزيّة، فإنّّ التوازن الحاصل بين القسمين ليس مردّه توازن آلي، بقدر ما يفسّر بتدخّل السّلطة الحفصيّة بتونس للاستفادة من التّنافس بين الطّرفين، وهي سياسة اتّبعتها مع قبائل الّكعوب في وسط إفريقيّة حيث كانت تعتمد تارة على أولاد أبي الليل وأخرى على أولاد مهلهل. وهو ما كان حاصلاً بشكل شابه في الدّولة الأمويّة التي راوحت بين الاعتماد على القيسيّة واليمانيّة
أمّا ما يشار إليه من تعارض بين البربر والعرب، متجسّد في تبعيّة القبائل البربريّة لبني دبّاب، لأنّ هذه الأخيرة توفّر لها الحماية مقابل جباية تأخذها منها، وعلى حدّ قول التّجاني: (تجبيها وتحميها)، فإنّ السياق التّاريخي يبيّن أن بني دبّاب تخصّصوا في جباية الأوطان لصالح المخزن الحفصي، مقابل قيامها بدور الخفارة والحماية. وبالتّالي فإنّ العلاقة ثلاثيّة وليست ثنائيّة بين مجموعتين من القبائل. زد على ذلك، لم يكن مردّ التحالفات بين هذه الفعاليات الاجتماعيّة الانتماء المذهبي (الإباضي بالنسبة إلى البربر والسنّي بالنسبة إلى العرب) ولا العرقي (بربر – عرب) بقدر ما تتحكّم فيها العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة القائمة بين الرّعاة وشبه المستقرّين في القرى الجبليّة. ولذا تحدّث التّجاني عن محالفة بين عرب المحاميد وبربر ورغمّة، فيما لمّح إلى تنافس قائم بين قسمين من قبيلة دباب العربيّة: المحاميد والجواري. وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم كذلك التّوازن بين المحاميد والجواري المتمثّل في تعادل النمو ّالسكّاني وعدد المقاتلة لكلا الطرفين
مثال من المغرب الأقصى:
لقد حصل تطابق في جنوب المغرب الأقصى بين القبائل والطوائف الدّينيّة المتمثّلة في الطرق الصّوفيّة. فقد حضر ابن القنفذ اجتماعاً لهذه الطّوائف سنة 769هـ/1367م على ساحل المحيط شمال إقليم دكّالة، و ذكر التّماهي بين الانتماءات القبليّة والتّنظيمات الطرقيّة، فكتب يقول: (سألت عن جملة الطّوائف التي هي بالمغرب الأقصى في الأراضي التي تنبت الصّالحين كما تنبت الكلأ، فوجدتها متعدّدة باعتبار تعدّد الأشياخ، وأقرب ما ترجع إليه ستّة)، وهي الشعيبيون والصّنهاجيون والماجريون والحجّاج والحاحيون والغماتيون.
أمّا عن العلاقة بين الصّلحاء والفقهاء، فإنّها لم تكن مجرّد علاقة تناقضيّة، طالما انتمى التيّار الصّوفي الشّعبي السّائد إلى مذهب أهل السنّة، ووجد فقهاء متصوّفة ومتصوّفة متفقّهين. ولم تكن كذلك متجانسة، إنّما تميّزت بالتّدرّج والتقاطع. وهو ما يبيّنه تعدّد التّصنيفات لأهل العلم والمنتسبين إلى الصلح والمرابطة: علماء الظّاهر وعلماء والباطن، أومن على مذهب السنّة وآخرون على طريقة علم الكلام وصنف ثالث على طريق الفلسفة، وفي تصنيف ثالث: أصحاب الحديث والفقهاء والصوفية
والحصيلة: يبيّن هذا المثال التناظر الحاصل بين الطرقيّة النّاشئة والبنية القبليّة من جهة، ودور هذا الفكر الصوفي في تجمّع القبائل والتقاءها في مجال واحد، دون إشارة المصدر المذكور إلى ثنائيات قبليّة.
2ـ (توبة الأعراب) أو الزّاوية واحتضار القبيلة
من البيّن أن تفاقم ظاهرة الأولياء ومؤسّسة الزاوية أو الخانقاه في المشرق والمغرب قد قامت على أنقاض العصبيّة القبليّة والدّعوة الدّينيّة في الآن نفسه، إذ عوّض التضامن العضوي القبلي بآخر يحيل على الانتماء الطّرقي. لقد انطلقنا من مجال إفريقيّة واعتمدنا على قرائن جديدة في دراسة الظّاهرة القبليّة في العصر الحفصي (القرن 7-10هـ/ 13-16م). فقد قامت الزّاوية الرّيفيّة التي كان على رأسها صالح بأدوار عديدة، منها توطين القبائل الضعيفة الفاقدة لعصبيتها وإدماجها في المنظومة الاجتماعيّة السّائدة، وهو ما أطلق عليه بتوبة المحاربين والأعراب. لقد كان التّماهي قوياً بين الصّلحاء والزّرّاعة ببلاد المغرب عصر ذاك، وهو ما يسوّغ شرعيّة التّسمية التي اقترحناها في شأنهم (الصّلحاء -المزارعين).
ولدينا أمثلة عديدة في هذا الشأن. فقد كان أبو يوسف يعقوب الدّهماني المنتمي إلى قبيلة دهمان العربيّة النّازلة حول القيروان أنموذجا للفارس البدوي في بداية أمره. ولد نحو سنة 551هـ/1156 م، ونشأ بالبادية ودرس بها وتعلّم الفروسيّة واللّباس الحسن والمنازلة في الميدان. وقد كانت له مشاركة في التصدّي للغزو البحري على مدينة المهديّة بين سنتي 570 و575هـ/ 1175-1180م. لكنّ عوامل عديدة ساعدت على تحوّله إلى تائب و متصوّف. فقد درس مبادئ الفقه بالقيروان، وذلك قبل أن ينتقل إلى بجاية حيث أخذ عن أبي مدين شعيب أسس التصوّف المالكي. ثمّ انتقل إلى مصر لتعميق معارفه. وعند عودته، استقرّ بالقيروان، معتمداً التصوّف وسيلة لتوبة البدو، (فهدى الله على يديه أمماً كثيرة من الأعراب والبوادي).
وهكذا أضحى على رأس قائمة من أبناء القبائل العربيّة التي عوّضت السّيف بالقلم، والفرس بالزّاوية والخيمة بالمنزل ومشيخة القبيلة بمشيخة المتصوّفة. وتبيّن أنسابهم (جميل بن ثغر الحبيبي ويعقوب بن خليفة الدّهماني المتوفّى سنة 669 هـ/ 1270م وغيث الحكيمي المتوفى سنة 685هـ/1286م وميمون بن كرفاح اللوائلي) أنّهم ينحدرون من بطون وقبائل عربيّة فاقدة لعصبيّتها القبليّة.
إجمالاً، ساعد إقطاع هذه الأراضي للمتصوّفة على استقرار المجموعات القبيلة المفقّرة وعلى تحويلها تدريجيّا من نمط العيش القائم على الغزو إلى الاشتغال بالزّراعة. ومن الملاحظ أنّ هذه الإقطاعات منحت لهم لا بصفتهم صلحاء فحسب، إنّما لكونهم يمتلكون الرئاسة في بني حكيم وبني رياح وبني وائل وغيرها، ولهم نفوذ فعلي على المجموعات البدويّة التي شرعت في الاستقرار في أرباض حول مدينة القيروان.
وتواصل (استتابة) البوادي وإخضاعهم للنّموذج السّلطاني في القرن الموالي، وكان للمنحدرين من أصول قبليّة مثل أبي الحسن علي العبيدلي المتوفى سنة 748هـ/1347م، دور هامّ باعتبار الزّاوية مؤسّسة قريبة من السلطة المركزيّة (المخزن)، اعتمدت لإخضاع القبيلة. غير أنّ العبيدلي -الذي لم يتمكّن من التخلّي عن جفاء أهل البدو وتصلّبهم- ظلّ شديد الارتباط بأصوله القبليّة، وهو مقيم بمدينة القيروان.
ويعدّ أبو يوسف يعقوب الزّغبي المنحدر من زغبة الهلاليّة والنّازل ببلد العلويين قرب القيروان نموذجاً أكثر تطوّراً لاندماج البدو عن طريق مؤسّسة الزّاوية. فقد كان مؤسّساً لزاوية وفي الآن نفسه قاضياً بالقيروان أوّلاً ثم قاضيا للجماعة بمدينة تونس. وفي كلّ الأحوال كان حامياً للقرى من تعديات البدو، في حقبة عُدّت الآفات الأربعة هي: (الشّمس والجراد والبرد والعرب (بمعنى الأعراب)).
بدأ الصّلحاء وأصحاب الزّوايا يتسرّبون إلى نجوع البدو في كامل المجال المغاربي، باستثناء الأقلّيات الإباضيّة بجنوب تونس، وذلك في موازاة مع عمليّة استتابتهم.
وتأتي هذه الأمثلة شاهدا على ضعف الانتماء القبلي لهؤلاء الأعيان، بعد أن أضحوا من بين الصّلحاء المالكين للأرض، أشبه ما يكون بالإقطاعيين، وعلى مدى اندماجهم في الحياة اليوميّة زمن السّلم والحرب، وذلك على خلاف ما يذهب إليه أصحاب المقاربة الانقساميّة. وقد ساعد إقطاع هذه الأراضي على استقرار المجموعات البدويّة في بني حكيم ورياح ووائل وغيرها وتحوّلها تدريجيّا من نمط الإنتاج القائم على الغزو إلى الاشتغال بالزّراعة.
وظهرت في نفس تلك الحقبة حركة ثانية مشابهة ببلاد الزّاب، قرب بسكرة، تزعّمها سعادة الرّياحي، الذي تعلّم بتازا ثمّ عاد محتسبا، فلقي أتباعاً كثيرين أطلقت عليهم تسمية (السنيّة). وقاموا مرابطين لمحاربة قطّاع الطّرق واللّصوص.واستطاعت هذه الحركة أن تؤسّس زاوية بطولقة أضحت منطلقا للسّيطرة على بلاد الزّاب. لكنّ هذه الحركة فشلت في النّهاية، لعدم انقياد القبيل الرّياحي ورفضه لهذه التحوّلات الثّقافيّة.
وفي كلّ الأحوال، يحظى الولي بمنافع شتى من إقطاعات وأراض محبّسة، وهو ما يساعده كسب أنصار وكاريزما وإحاطته بهالة من الكرامات التي تساعد على إخضاع المتردّدين والرّافضين. وبالتّالي لم يكن الوليّ فوق المنظومة القائمة، إنّما منغمسا في هياكلها انغماسه في الموائد الوافدة على الزّاوية والمجمّعة لأنصاره في طقوس قديمة يطلق عليها ببلاد المغرب (الزّردة)، يكتنفها إنشاد ورقص (الحضرة).
وفي المحصّلة، تركّزت الزّوايا بإفريقيّة والمغرب في جلّ المجالات، في إطار شبكة من الولاءات الهرميّة المترابطة فيما بينها، سواء أكانت في المدينة أم في البادية. وهو ما أدى إلى بروز تكتّلات اجتماعية وطرقيّة قائمة في ظلّ الزّاوية، وذلك على حساب علاقات المشيخة والرئاسة وعصب القبيلة الذي بدأ في التّلاشي
3ـ إرث القبيلة ومعتقداتها
أنّ الدّعوة الدّينيّة -سواء أكانت في مرحلة الحركة أم قيام الدّولة أوفي مرحلة ضعف القبيلة وتلاشي هياكلها- أمر طارئ على القبيلة من الحاضرة في الغالب الأعمّ. ولم يحصل أن ظهرت أفكار دينيّة مستجدّة في القبيلة ثمّ انتقلت إلى المدينة. والحقيقة يتميّز المعتقد لدى المجتمع القبلي بالبساطة وبترسّخ التقاليد والعادات فيه. ويمكن أن ننطلق من المجال المغربي في آخر العصر الوسيط لنبيّن ذلك.
ولمّا قامت الزّاوية على أنقاض خيمة شيخ القبيلة، فإنّ أبناء القبيلة لا يستسيغون كثيراً مثل هذه المؤسّسات الوافدة عليهم من المدينة، والتي عوّضت خيمة الوبر ببناء المدر. ولم تكن كاريزما (الصّلحاء المرابطين) تنطلي على هؤلاء البدو الذين لا يتردّدون في الإغارة عليهم ومصادرة ماشيتهم وزروعهم
كما تبدو ظاهرة التديّن لدى البدوي مختلفة عمّا هي عليه في المدينة، إذ لم يكن منزل القبيلة ملائما لأداء صلاة الجماعة، كما أنّ ثقافة البادية لا تساعد على وجود أئمّة من بينهم. أمّا في خصوص الصّوم، فقد زار عرفة الشّابي قبيلة الطّرود بالصّحراء، (فوجدهم يفطرون رمضان وليس لهم من الإسلام إلاّ الاسم
وتتعدّد أشكال التديّن لدى القبائل البدويّة وشبه المستقرّة، مثل قبائل زناتة الإباضيّة بجنوب تونس. ولئن تغيب في هذه المجالات قباب الأولياء والصّلحاء، فإنّها تحلّ مكانها زيارة الصّخور والمشاهد والمزارات والغيران، وهي من راسب المعتقدات السّابقة للإسلام. فقد ذكر في (تسمية مشاهد الجبل) (وهو جبل نفوسة) غيران للتعبّد ومشاهد ومصليات عديدة (مثل فوق الصخرة ومصلى تزروت بمعنى الصفاة الصغيرة وصخرة الوادي…إلخ)
وكان للبدو عناية فائقة بالظّاهرات الطّبيعيّة، مثل النّجوم التي قادتهم في حلّهم وترحالهم، حتى خصّصوا لها حيّزا هامّا في تراثهم، متفائلين بالبعض منها ومتطيّرين من أخرى. فكانوا يقولون في بداية ظهور سهيل عند الفجر في السّابع من شهر سبتمبر: (إذا طلع سهيل، برد اللّيل، وخيف السّيل، وامتنع القيل). وهو مثل يبرز فترة انتقاليّة بين جفاف الصّيف وحرارته وبين برودة الشّتاء وسيوله، وذلك عن طريق استغلال حركة النّجوم لتفسير الظّواهر الطّبيعيّة من فصول وأحوال الطّقس وغيره. وتتّضح من خلال هذه الصّورة العلاقة التّكامليّة بين الأرض والسّماء. على أن ّذلك ليس نتاج رؤية فلسفيّة متكاملة، إنّما نتيجة الملاحظة الدّقيقة للتحوّلات الطّبيعيّة، حتّى أنّه أصبح قادراً على استكناه أغوارها وكشف أسرارها. فشدّة ارتباطه بالطّبيعة وانصهاره فيها قرّبه إلى كنهها وجعله يدرك عمقها وحقيقتها إدراكاً حسّيا ووجدانيّا
بارك الله فيك.والسلام عليكم.
الريغي
بارك الله فيك ياأخي على هذا الموضوع الرائع ووفقك الله