السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد
قال الشافعي :
قالوا سكتَ وقد خوصمتَ قُلت لهم ~ ~ ~ إن الجواب لباب الشر مفتاح
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدبٌ ~ ~ ~ نعم وفيه لصونِ العرض إصلاح
يجهل كثير من الناس وينسى آخرون أن العفو هو كما بين أمره الشافعي قضية تحكّم بشرور النفس
فالذي يعفو إنما يعفو ليحفظ ذاته من سطوة الشرور القابعة في الزوايا المظلمة من نفسه
فلو حاول أن يرخي العنان لما في نفسه من ميول نحو العقاب والثأر لعزة النفس
اسودّ قلبه وقسى وضاق حتى إذا تكررت تلك الحال عليه أصبح صعبا عليه العودة إلى حالة اللين التي بها يناجي ربه ويتقرب إليه
ففي العفو صيانة للقلب من الطوارئ التي قد تفسد عليه أوقات عبادته وفي العفو طهارة للنفس من سموم الشيطان ووساوسه
فالذي يُعرض عن العفو يعرض عن كل ما فيه خير وصلاح وسكينة لنفسه
وفوق ذلك يقوم العفو على مبدإ أصالة الخير في الإنسان ، فالشر عارض عليه والخير هو الأصل
لذلك ينبغي أن نراعي دائما ذلك الخير الأصيل ونغذيه ونمده بالأسباب التي تقويه على الشرور الطارئة
فقديما قال أحد الحكماء أنه من الخطإ أن ننظر للخصم على أنه شر مطلق
بل ينبغي دائما أن نستبصر مواطن الخير فيه ونفتش عنها وندعمها حتى تطغى على شروره الظاهرة
فنكون بذلك قد حققنا انتصارنا للخير على الشر، وللحق على الباطل ، لا للذات على الخصم
وقد قيل في تعريف العفو أنه :
التَّجاوزُ عن الذَّنْب، وتَرْكُ العِقَاب عليه، وأصلُه المَحْوُ والطَّمْسُ
وذلك يعني أن العفو يترتب على أمرين أولهما الكف عن إلحاق الأذى عن المعتدي
والثاني هو محو إساءة المعتدي وطمسها في الذاكرة وكأن لا شيء صدر عنه.
ولكي يتمكن المسلم من ذلك عليه أن يسعى دائما إلى إيجاد الأعذار والمبررات للإساءت التي يتلقاها من الغير
وأن يستهين بها ويحسن الظن بالآخرين
وقد رُوي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جلس في السوق يبتاع طعامًا،
فابتاع ثم طلب الدراهم، وكانت في عمامته فوجدها قد سُرقت؛
فقال: "لقد جلست وإنها لمعي"،
فجعلوا يدعون على مَن أخذها، ويقولون: "اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا"
فقال عبد الله:
"اللهم إن كان حَمَلَه على أَخْذِها حاجةٌ فبارك له فيها، وإن كان حَمَلتْهُ جَرَاءَةٌ على الذنْب فاجعلها آخر ذنوبه"
كما ينبغي بالمسلم الواعي أن ينظر إلى نفسه على حقيقتها
فهي وضيعة ليست أهلا لكل الاحترام والتقدير الذي ينشده من الآخرين
بل تستحق بين الفينة والأخرى أن تسمع وترى ما ينزلها من أوهام العلو والكبر إلى حقيقة عيوبها ونقصها
وقد رُوي أن مِسطح بن أثاثة كان قد خاض مع الخائضين في حادثة الإفك
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق عليه قبل ذلك لفقره وقرابته له
فلما أنزل الله جل شأنه براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
" وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ"
فنزل قوله تبارك وتعالى :
(( ولاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))
النور/ 22
فقال الصديق رضي الله عنه :
بلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي
فعاد ينفق على مسطح وما توقف عن ذلك أبدا.
فمن أحسن ما يستعين به المسلم على نفسه فيما يصيبه من أذى الناس وإساءتهم
أن يتذكر تفريطه في جنب الله تعالى ، وحبه لعفو الله عنه ، وستره عليه
فهو مسيئ لنفسه وغيره مثله مثل من أساء إليه وإلم يكن فعل الإساءة من جنس واحد
فالذي أتاح له العفو بعد الزلل أتاح لغيره كذلك العفو وفتح لهم باب التوبة والتكفير عن الذنب
فليس له أن يغلق باب العفو عن الآخرين ويرجو لنفسه عفو المولى ومغفرته دونهم
ثم إن الله جل شأنه قد وعد العافين والمصلحين الذين يسعون إلى تقوية الخير في النفوس أجرا طيبا منه
قال تعالى :
(( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ))
الشورى/ 40 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية :
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به ، فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فَلْيَعْفُ عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل
تفسير السعدي (ص 760)
وقد أوصا رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بأمور تعين على تليين القلب حتى يصير العفو فيه عفويا يسيرا
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ))
رواه أحمد (12937) والترمذي (2658) وصححه الألباني .
قال الملا علي القاري رحمه الله :
" (ثَلَاثٌ) أَيْ: ثَلَاثُ خِصَالٍ
(لَا يَغِلُّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَبِكَسْرِ الْغَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْغِلِّ الْحِقْدِ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِغْلَالِ الْخِيَانَةِ
(عَلَيْهِنَّ) أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْخِصَالِ
(قَلْبُ مُسْلِمٍ) : أَيْ كَامِلٌ
والْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَلَا يَدْخُلُهُ ضِغْنٌ يُزِيلُهُ عَنِ الْحَقِّ حِينَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ:
"إِنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ يُسْتَصْلَحُ بِهَا الْقُلُوبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الْغِلِّ وَالْفَسَادِ، وَ " عَلَيْهِنَّ " فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا يَغِلُّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ كَائِنًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا انْتَصَبَ عَنِ النَّكِرَةِ لِتُقَدُّمِهِ "
"مرقاة المفاتيح" (1/306) .
منقول من عدة مواقع